ملخص
صدر حديثاً عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر كتاب "الحرب الأهلية اللبنانية: لماذا اندلعت ومتى بدأت؟" للباحث والكاتب صقر أبو فخر، ليقدم إسهاماً نوعياً في فهم واحدة من أحلك الفترات في تاريخ لبنان الحديث.
لا يأتي هذا الكتاب كإعادة سرد للتسلسل الزمني لأحداث الحرب الأهلية التي عصفت بالبلاد بين عامي ١٩٧٥ و١٩٩٠، بل كدراسة تحليلية عميقة تستعرض الأسباب الجذرية لاندلاعها، وتطرح أسئلة جوهرية حول تاريخ بدايتها الفعلي. إن هذه المقاربة النقدية تجعل من الكتاب مرجعاً حيوياً للمؤرخين والباحثين، وكذلك للجيل اللبناني المعاصر الذي يسعى إلى استخلاص العبر من الماضي، من أجل بناء مستقبل أكثر استقراراً.
يتجاوز صقر أبو فخر في كتابه السرديات التقليدية التي رسخت تاريخ الـ١٣ من أبريل (نيسان) ١٩٧٥ كنقطة انطلاق للحرب الأهلية اللبنانية. هو لا ينكر أهمية ذلك اليوم المفصلي الذي اندلع فيه القتال في بيروت، لكنه يعمق البحث ليكشف عن جذور الصراع المتشعبة التي سبقت هذا التاريخ بأعوام، بل وبعقود. يفترض الكتاب أن الحرب الأهلية لم تكن حدثاً مفاجئاً، بل هي تتويج لسلسلة من التراكمات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، والصراعات الإقليمية والدولية التي وجدت في الساحة اللبنانية تربة خصبة للتفجر. يتناول أبو فخر مراحل التسلح، وتنامي الانقسامات الطائفية والسياسية، ومحاولات إشعال الفتنة بين الأطراف المختلفين، ليقدم صورة شاملة ومعقدة للظروف التي مهدت للحرب.
تكمن أهمية هذا الكتاب في قدرته على تحدي الذاكرة الجمعية السائدة حول الحرب، وفي دعوة اللبنانيين إلى إعادة قراءة تاريخهم بعين ناقدة منعاً لتكرار مآسيه. ففي بلد ما زالت تداعيات الحرب الأهلية تلقي بظلالها على كل جوانب الحياة، من النظام السياسي الطائفي إلى الانقسامات الاجتماعية الحادة، يصبح فهم الأسباب الحقيقية لاندلاع الصراع أمراً بالغ الأهمية. إن معرفة "لماذا اندلعت ومتى بدأت حقاً؟" تساعد على تفكيك السرديات المبسطة التي قد تلقي باللوم على طرف واحد أو حدث مفرد، وتفتح المجال أمام رؤية أكثر شمولية تعترف بتعقيد العوامل المتشابكة التي أسهمت في الكارثة. هذا الفهم المتعمق هو الخطوة الأولى نحو المصالحة الحقيقية وتجنب تكرار الأخطاء.
أزمات متتالية
في ظل الأزمات المتتالية التي يشهدها لبنان اليوم، من الانهيار الاقتصادي إلى التوترات السياسية والطائفية، والتجاذبات الإقليمية التي تهدد مصير لبنان، يكتسب كتاب صقر أبو فخر أهمية مضاعفة. بخاصة مع ما قد يجره موضوع نزع سلاح "حزب الله" من تداعيات خطرة على السلم الأهلي، وما قد ينتج منه من محاولات جديدة لإعادة تركيب لبنان وتوازناته الطائفية والمذهبية، في ظل الخرائط الجدية التي ترسم للمنطقة بأكملها، لا سيما في الجوار السوري القريب، فاللبنانيون، اليوم هم، أكثر من أي وقت مضى، في حاجة ماسة إلى فهم آليات الصراع التي كادت تدمر بلدهم، لتجنب الانزلاق مجدداً إلى دوامة العنف. إن إعادة تقييم تاريخ الحرب الأهلية بوعي يسهم في فضح الخطاب الطائفي والتحريضي، ويكشف عن المصالح الخفية التي قد تستفيد من الانقسام، قد يدفع العقلاء في لبنان إلى تجنب العنف الأهلي مجدداً.
يعد هذا الكتاب بمثابة مرآة تعكس تحديات الحاضر، فالعوامل التي أشار إليها أبو فخر كممهدات الحرب، مثل ضعف الدولة وتزايد نفوذ الميليشيات والتدخلات الخارجية، لا تزال حاضرة بصور مختلفة في المشهد اللبناني. ومن خلال تحليل هذه العوامل بعمق يقدم الكتاب دروساً مستخلصة يمكن أن توجه صانعي القرار والمواطنين على حد السواء نحو مسارات أكثر حكمة. بالنسبة إلى مستقبل لبنان، يمثل الكتاب دعوة صريحة للتحرر من أسر الماضي، ليس بنسيانه، بل بفهمه وتفكيكه. إن بناء دولة حديثة قوية ومستقرة يتطلب مراجعة شاملة للأسس التي قامت عليها الانقسامات، وهو ما يسعى إليه الكاتب صقر أبو فخر، إنه يدعو إلى وعي جماعي يمكن أن يكسر دائرة العنف المتكررة، ويبني جسوراً من التفاهم بين الأطياف اللبنانية المتنوعة.
يعرف صقر أبو فخر بكونه باحثاً وكاتباً مرموقاً يمتلك معرفة موسوعية وخبرة واسعة في تحليل الشؤون الإقليمية، بخاصة ما يتعلق بالقضية الفلسطينية ولبنان. إن تاريخه الأكاديمي والبحثي الطويل يضفي على أعماله صدقية عالية. في كتابه هذا يتجلى التزامه البحث العميق والتحليل النقدي من خلال منهجيته في تحدي الروايات السائدة والبحث عن الأسباب الحقيقية وراء الأحداث، بجرأة وشجاعة قل نظيرهما.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وبالنظر إلى طبيعة الكتاب الذي يغوص في تفاصيل حساسة ومعقدة لتاريخ الحرب الأهلية، يعتمد أبو فخر على مجموعة واسعة من المراجع الموثوقة التي تشمل الوثائق الرسمية والمحفوظات التاريخية وشهادات الأطراف الفاعلين والتحليلات الأكاديمية بما فيها الأرشيف الإسرائيلي الذي كشف من خلال مراجع إسرائيلية عدة، التورط المتواصل لأطراف لبنانيين من طوائف عدة، مع إسرائيل والوكالة اليهودية منذ ما قبل عام ١٩٤٨، وتواطؤ هؤلاء الأطراف في التمهيد للنكبة، فضلاً عن أطراف عرب كثر.
لماذا ومتى؟
إن سعيه إلى الإجابة عن سؤال "لماذا اندلعت ومتى بدأت حقاً؟" يستلزم مراجعة دقيقة للمصادر، والتمييز بين الحقائق والروايات، مما يعزز من موثوقية ما يتضمنه الكتاب من معلومات واستنتاجات. الأسلوب الذي يتبعه في مساءلة التواريخ المتفق عليها، يشير إلى اعتماد أبو فخر على أدلة قوية وحجج منطقية لدعم أطروحته. يتميز أسلوب صقر أبو فخر في معالجته للمادة التاريخية بالعمق والوضوح والجرأة، فهو لا يخشى طرح الأسئلة الصعبة، ولا يتردد في تحدي المسلمات التاريخية، لكنه يفعل هذا بمهنية وموضوعية. يعتمد أسلوبه على التحليل الدقيق للعوامل السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وربطها بالصراعات الإقليمية والدولية التي أثرت في المشهد اللبناني.
يتسم أسلوب الكتاب بالرصانة والمنهجية العلمية، مع الحفاظ على لغة واضحة ومباشرة تجعله في متناول القارئ غير المتخصص أيضاً، فهو يبتعد عن الانحياز لأي طرف، ويقدم رؤية متوازنة تحاول فهم دوافع جميع الأطراف المتصارعين، من دون تبرير للعنف أو التغاضي عن الفظائع. هذه المقاربة التحليلية الشاملة، التي تجمع بين السرد التاريخي والتحليل السياسي والاجتماعي، هي ما يجعل الكتاب إضافة قيمة إلى المكتبة العربية، وضرورية لفهم أعمق لجذور الأزمات اللبنانية المتجددة. إن قدرة أبو فخر على معالجة موضوع بهذه الحساسية والتعقيد بأسلوب يجمع بين الدقة البحثية والسلاسة السردية هي دليل على تمكنه وبراعته ككاتب ومحلل وباحث، بل ومفكر.
يعد كتاب "الحرب الأهلية اللبنانية: لماذا اندلعت ومتى بدأت؟" لصقر أبو فخر إسهاماً فكرياً وبحثياً بالغ الأهمية في مسيرة لبنان نحو فهم ذاته واستخلاص العبر من تاريخه الموجع.
إنه ليس مجرد كتاب عن الماضي، بل هو دليل لفهم الحاضر ورسم ملامح المستقبل، من خلال تحليله العميق والجريء لجذور الحرب وأسبابها الحقيقية، يدعو أبو فخر إلى إعادة بناء ذاكرة جماعية أكثر وعياً ونضجاً، ذاكرة يمكن أن تكون أساساً لمصالحة وطنية حقيقية وبناء دولة لبنانية قادرة على تجاوز تحدياتها المزمنة نحو الاستقرار والازدهار. هذا العمل يمثل دعوة لكل لبناني ولبنانية، ولكل مهتم بتاريخ المنطقة، للتأمل والتعلم من دروس الماضي حتى لا تتكرر مآسيه.