ملخص
تواصل المصورة كندة معروف عملها على تقاسيم الوجه البشري (البورتريه) في معرضها الجديد "وجوه قيد التكوين"، الذي يضم 40 عملاً (أكرليك على قماش- أحجام متعددة). ينظّم المعرض غاليري جورج كامل (دمشق) بالتعاون مع غاليري خزامى أبو جودة (عَمّان)، وبتنسيق من اللبنانية رندة صدقة.
"وجوه" الرسامة السورية كندة معروف تعتبر استمراراً لمعرضها السابق "وجوه بلا ملامح"، إذ عكفت في تجربتها على تنويع تقنياتها التشكيلية، فحاكت من خلال حساسية لونية خاصة عشرات الوجوه لأطفال ونساء ورجال سوريين اختبروا أهوال الحرب، وعاشوا مرارة الفقد والحرمان والتهجير القسري.
وتبدو وجوه كندة معروف- المفردة منها والجماعية- كأنها تحدّق مباشرةً في عين المتلقي. وجوه تلتبس في هيئة رؤوس محروقة، أو معالم بشرية تتوارى خلف جدران السجون، كما في لوحتها "خلف القضبان". يتحول الوجه الإنساني هنا إلى توقيع شخصي. إمضاء يختزل شيفرات ثقافية كثيفة في حضور شخصياته وغيابها، في سماكة اللون وطلاوة التجاور بين الوردي والترابي والأزرق والأصفر الساطع. حتى تكرار الوجه في بعض الأعمال منح المعرض إيقاعاً مختلفاً كما في لوحة "بورتريه". ثلاثة وجوه هي وجه واحد حاولت الرسامة تسجيل لفتاته في لحظات متباينة. البصمة العينية، توزيع الإنارة والفراغ، واتجاه الرأس. كلها عناصر سعت كندة من خلالها لالتقاط العالم الداخلي للوجه. ليس كظاهرة عادية في الوجود، بل بوصف الوجه البشري لطخة من اللحم والضوء والدهشة.
وكما معارضها السابقة في كلٍ من زيوريخ والسعودية ومصر ودمشق، تقتفي الأكاديمية والرسامة الحمصية سلالة مناظرها الوجهية، فلا تتقيد بخصوصية فن البورتريه (الصورة الشخصية) بقدر ما تذهب نحو التشخيص، واعتبار الوجه مجازاً تعبيرياً للذات الإنسانية، وصفحة من أبرز صفحات النفس البشرية، وما يعتمل داخل هذه النفس من مشاعر جوانية ونكوص نفسي ورضوض شعورية. كل ذلك يمكن التقاطه في لوحات معروف الأقرب إلى يوميات بصرية، إذ تلعب تقنية التلاشي دوراً في تمويه الوجوه وفق لقطات مقرّبة ومتداخلة، وصولاً إلى جعل الوجه يبدو كنافذة تطل على مكنونات الذات وخفاياها الحسية المقموعة منها والمرئية.
وبدا واضحاً اشتغال الفنانة على سطوح اللوحة، والجهد المبذول في توظيف التشويه كتقنية يتقاطع فيها التجريد مع سمات المدرسة التعبيرية. نظرة على أعمال من قبيل "بلا هوية" و"أقنعة" و"أشخاص من رماد" تهدينا إلى تنصيب الوجه كأرشيف من أنماط لا نهائية. أسلوبية تعكس بعداً درامياً لوجوه تطفو في كادر اللوحة، وأُخرى تحاول جاهدةً الخروج عن الإطار المحيط بها، وكأن الوجوه الأصلية التي انتحلت عنها كندة رسومها احترقت داخل غرفة لتحميض الصور الفوتوغرافية. هذا ما تجلى مثلاً في عملها "أشخاص من خطوط"، والذي تظهر فيه وجوه لأربع نساء تحللت معالمهن واضمحلت، وكأنها شريط نيغاتيف لفيلم محروق، أو ربما تعرض لأشعة الشمس قبل تظهيره في غرفة مظلمة.
ذاكرة بصرية ثرية
وتنهل أستاذة الرسم في كلية الفنون الجميلة في دمشق من ذاكرة بصرية ثرية. يظهر ذلك أيضاً في أعمال من قبيل "تلاشي" وصدى الأرواح"، إذ يتيح البورتريه الجماعي لهذه الفنانة فسحة لتقديم ملامس متباينة من دسامة لونية لافتة. تبدو وجوه الأطفال وكأنها مقتبسة من فصل دراسي أو صور جماعية من مدارس شهدت نزاعات مرعبة، ومثلها البورتريه الفردي الذي يتجلى في لوحة "من الذاكرة". ثلاثية لوجوه طاعنة في الألفة والعزلة في آنٍ معاً. في الخيارين لا تركن معروف لتورية شخوصها، بل تجعل من الوجه البشري ما يشبه صرخات متقطِّعة، فبين كل لوحة وأخرى يتجلى الزمن وتأثيره في رسم تجاعيد الوجه وقسماته، والآثار التي يتركها على سحنة الكائن الهارب من أهوال الحروب.
وتبدو اشتقاقات كندة لوجوهها امتداداً للعديد من الفنانين السوريين الذين عملوا على الوجه الإنساني، ولا سيما تجربة الفنان السوري الألماني مروان قصاب باشي (1934-2016)، إذ تبرز النزعة الوجودية لوجوه تنعكس صورتها في مرايا مهشمة، وتعبر عن انطوائية ترفض الاندماج مع الآخر. يتبدى ذلك في لوحات معروف التي عنونتها: "صمت" و"وجوه من تراب" و"أمام القضبان" و"ما تبقى". وجوه على هيئة كدمات زرقاء، وأُخرى ذات معالم طينية تحتجب عن ناظرها بقدر انكشافها عليه. بهذا المعنى تستحيل وجوه ابنة مدينة حمص السورية إلى ترميز لجماعات بشرية متخيلة. وجوه تعبّر عن فقدانها لهويتها الثقافية بقدر ما تكابد اغترابها وحنينها لأوطانها المفقودة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويضم المعرض بورتريهات لنساء حالمات، وأُخريات أوشكن على الموت أو الهجرة، من مثل لوحات: "امرأة حالمة" و"النظرة الأخيرة" و"بقايا امرأة" و"امرأة من حجر". عناوين تعكس عوالم أنثوية موشاة بالأخضر والأزرق الفاتح. هشاشة تجسدها الفنانة برهافة واضحة، فيما تطمس معالم وتبرز معالم نساءها تبعاً لتقلبات العالم الداخلي لفتيات ونساء وعجائز حاولت كندة تصويرهن وفق حسيّة واضحة، بينما اتكأت على تحوير مقصود في ملامح بعضهن، حتى لتبدو المرأة هنا وكأنها تنوس بين الطيف والجثة، أو كأنها محض وجه هائم بين دخان المعارك وخراب الديار.
وأما في أعمال من مثل: "جندي" و"مجهول" و"هو ليس رقماً" فتسجل كندة وجوهاً لموتى مجهولين قضوا في حروب وكوارث طبيعية، فتفتح السؤال مجدداً على قرابة أسلوب المصوّرة السورية مع رسومات مومياوات وجوه الفيوم، والتي كانت ترسم على توابيت الموتى في مصر الرومانية (القرن الثالث للميلاد). نستطيع أن نتلمس ذلك في لوحات جماعية وأخرى فردية من مثل "وجوه من حبر" و"وجوه من تراب-2"، إذ تفصح ملامح السحنات البشرية هنا عن أشخاص بهيئات شبحية وأخرى مشوشة المعالم، لكنها تبتعد تماماً عن التجسيد الواقعي لأموات الفيوم، بل تسعى إلى تجسيد الوجه كأثر أخير عن صاحبه أو صاحبته، فالوجه لدى كندة معروف أقرب إلى بحث في الجينالوجيا (علم الأنساب)، ومحاولة لاكتشافه كعلامة رمزية لجماعات بشرية متخيلة.