ملخص
كم نسجت من أحلام عن وطن يعيش فيه الناس بلا عداوة؟ كم سافرت في الأزمنة وصنعت لأبطال أساطيرها حكايات، وألبستهم أثواب العشق الخرافية؟ كم أحبت لبنان ودافعت عن حضوره الثقافي في العالم، كما دافعت عن قضايا المرأة وحقوقها المدنية؟ ميراي حنين (1949- 2022) الفنانة والحقوقية التي اتخذت من باريس مقراً لإقامتها ومتنفساً لحريتها وإبداعها منذ عام 1975، تستذكرها بيروت اليوم من خلال معرض يقام في غاليري شريف تابت بعنوان "على مر الأزمنة"، هو الأول بعد رحيلها، يضم مختارات من أبرز مراحلها الفنية.
تعد ميراي حنين من رواد الفن المعاصر، تركت بصمة مميزة في عالم النحت وفن التجهيز والتجميع، شاركت في صالونات باريسية عدة، وعرضت في صالون النحت في الغراند باليه، وزينت أعمالها بعض ساحات بيروت، ولها أنصاب في عدد من المدن الفرنسية منها عملها النصبي Ferveur القائم في ساحة سان- آرمان مونتران الفرنسية.
لئن جاءت إلى الفن متأخرة، لكنها استطاعت أن ترسخ أسلوبها المستمد من المعنى الأعمق للوجود الإنساني على مر الأزمنة، استلهمت قصائد الشعراء وبحثت في تراث الشعوب عن خيالات آثار الحضارات القديمة، بأرضها وشموسها وفضائها، خاضت في فحوى الصراع الأزلي بين الخير والشر، والحب والعداوة، واكتشفت أن صراع آلهة الأرض، ليس ماضياً وإنما جذوته ما زالت ممتدة إلى حاضرنا في وطن يعاني سطوة ملوك الطوائف والانقسامات الاجتماعية الحادة، لذا دعت في مضامين أعمالها إلى التفكير في حقائق مستمدة من عبر الماضي.
لم يكن سهلاً على ميراي أن تخترق الأعراف إلا بالمثابرة والتمرد ورفض التطرف والأفكار السابقة عن الآخر. عاشت ضغوطاً كثيرة في كنف عائلة برجوازية، فهي من بيت سياسي عريق، وابنة إدوار حنين أحد أعلام الثقافة والفكر السياسي، خضعت لرغبة والدها فدرست الحقوق في جامعة القديس يوسف في بيروت، ثم تابعت دراستها في باريس، حيث نالت شهادة الدكتوراه في علم المعلوماتية من جامعة السوربون (1976- 1978)، قبل أن تعمل في منظمات إنسانية وأممية، منها وكالة التعاون الثقافي والتقني، غير أن شغفها بالفن قادها عام 1989 إلى النحت، وهو العام الذي شهد أول إطلالة لها في بيروت، من خلال مشاركتها في صالون الخريف في متحف نقولا إبراهيم سرسق. عرفت بحبها للمواد وجرأتها في التجريب، إذ استخدمت إلى جانب البرونز، خامات عدة كالطين والفخار والخشب والحجر والأسمنت والورق المعجن والنايلون وسائر المواد الفقيرة مستنبطة منها طاقاتها الجمالية الكامنة.
التلاقي مع الآخر
تعاطت ميراي مع الفن على أنه اللغة الأصدق للتعبير عن قضايا الوجود، عرفت حياتها كثيراً من الانعطافات والتقاطعات، ولكنها لم تخضع إلا لهوى قلبها، حين مشت في درب النحت، تلك المهنة الشاقة التي ذللتها بقوة الأنوثة الكامنة فيها، فظلت تلك المرأة الجميلة بابتسامتها ونعومتها وإصرارها، تمارس الفن حتى آخر رمق.
كتبت في سياق معرضها الباريسي Pavillon de l’art l’entretemps عام 1998: "النحت بالنسبة إليَّ كان اللقاء، حدث كل شيء كما لو أنني فتحت باباً على مصراعيه، وكان فيضان الأحاسيس يتدافع للتعبير عن نفسه". كان دخولها إلى النحت مصادفة، إثر زيارة لمحترف إحدى النحاتات في باريس، لكنه سرعان ما تحول إلى التزام وانغماس في التعبير عما يعتمل في داخلها من أفكار وهواجس. راحت تعبر، بنفاد صبر اليدين، عن تمزقاتها وقلقها واغترابها، وعن مشاعر متلاطمة أيقظتها الحرب الأهلية، فعمقت فيها حس الانتماء والرغبة في اللقاء مع الآخر.
الرجل والمرأة هما سر الحياة واستمراريتها، ويجسدان في الوقت نفسه ازدواجية هوية لبنان الليبرالية. شكل هذا الثنائي الموضوع الأول الذي طرق باب مخيلتها، فحملته الفنانة رموزاً وإسقاطات مستمدة من واقع المجتمع اللبناني المنقسم بين شطريه المسيحي والإسلامي. غير أنها جمعتهما في الفن كما في الحياة (بعد اقترانها من مسلم من آل حيدر)، في هذا السياق كتب أمين معلوف يقول: "النحت هو إيماءة حياة... رجال ونساء كالأيادي: أياد متشابكة، متعانقة، مفتوحة ككتاب، وأخرى تنغلق مثل زهرة التوليب عند المساء... النحت هو صلاة الأيادي".
لعبت ميراي حنين على تناقضات العلاقة بين كتلتين منزلقتين في شهوة الحب والحنان والعناق، أو لوعة الفراق والخصام، فصاغتهما في حال الحوار والمواجهة والالتفاف، كأن أحدهما يعيش في الآخر من دون أن يذوب فيه، لأن الذوبان صورة من صور محو الذات. هكذا تجلت الأجساد في منحوتاتها، بخطوط ناعمة وسلسلة، وأشكال تجريدية مختصرة لا تخلو من التلميح إلى الواقع في منحى قريب من هنري مور. فقد تأثرت بتموضعات الموديل العاري والثنائيات التي ابتكرتها كاميل كلوديل، وأحبت اختصارات الأشكال وبساطتها لدى برانكوزي، ولكنها وجدت أسلوبها الخاص في تشكيل الكتلة المجبولة بالمشاعر والأحاسيس في التيمات المتعلقة بالمرأة. اشتغلت كثيراً على الثنائيات، وكان من أشهرها موضوع القراءة، المستلهم من ذاكرة مكتبة والدها، ويعتبر النصب التذكاري الذي يزين ساحة إدوار حنين في الأشرفية، من أشهر منحوتاتها (مصنوع من الراتنج والاردواز بعلو يفوق المترين)، ويجسد رجلاً وامرأة يقرآن صفحة من ديوان الشاعر شارل القرم "الجبل الملهم"، قدمته ميراي هدية إلى بيروت، كرسالة تآخٍ، بين المسلمين والمسيحيين الذين يقرأون الكتاب نفسه عن تاريخهم المشترك.
من وحي الأساطير
من الذاكرة اللبنانية المطعونة بالوجع والقلق، انتقلت ميراي إلى استحضار تراجيديا أبطال الأساطير اليونانية، مستلهمة من قصائد أوفيد، وهو ما أوحى بمعرضها الأخير "تحولات" الذي أقامته في بيروت (غاليري جانين ربيز 2010)، جسدت فيه شخصيات عدة، منها إيكاروس، وهو عمل برونزي ضخم يركز على فكرة التحليق في فضاء الحرية، حيث تتجلى قوة الحركة واندفاعاتها تعبيراً عن شغف الإنسان بالتحرر وتجاوز الحدود، حتى لو قاده ذلك إلى السقوط.
ميراي الفنانة المفعمة بالأنوثة التي كانت تتألق على رأسها ريشة ميزت إطلالتها وتسريحة شعرها، لم تكن تتحدث إلا عن نفسها حين شرعت في تصميم شكل "أراكني" الفنانة - أنثى العنكبوت - الغازلة للخيوط قديماً، بصيغة مبنية على المواجهة والتحدي والعطاء. وكثيراً ما تموهت شخصياتها وتنكرت، كما تتنكر كائنات الغابة، متخذة هيئات مستعارة، وهو التنكر ذاته الذي ميز آلهة اليونان وأساطيرها، التي تتمحور حول الحب والشهوة والحرب والانتقام. فكلما نظرنا إلى قاماتها المتطاولة المشرئبة، نجدها مشدودة إلى عصب الحنين الذي يجمع بين الرجل والمرأة، أما في مجموعتها "صدى الصمت" فتتمحور حول شخصيات (موميائية) مصنوعة من بودرة الرخام والريزين، توحي - على طريقة كريستو - بأنها ملفوفة بقماش، كوسيط بصري شبيه بجلد بشري متجمد في لحظة ألم أو انكماش. تبدو القامات بأذرع طويلة ووجوه هائمة بلا ملامح، بأسلوب تبسيطي، إذ لا تهدف الفكرة إلى أكثر من التلميح بالواقع، كي تحافظ الأشكال على صمتها وأسرارها.
بين الذاكرة وجروح الواقع
يقدم المعرض (الذي يستمر حتى آخر أكتوبر "تشرين الأول" الجاري) نماذج من أبرز ما أنجزته ميراي حنين في فن "إعادة التدوير"، وهي أعمال تجهيزية مبتكرة نفذتها باستخدام الأوراق النقدية للفرنك الفرنسي، التي كانت معدة للتلف بعد سحبها من الأسواق عام 2001 نتيجة الانتقال إلى اليورو. شكلت هذه الأعمال، التي عرضت عام 2006 في متحف العملات في باريس Musée de la Monnaie de Paris مشروع إنقاذ للذاكرة الجماعية الفرنسية. تلك الذاكرة التي تحولت إلى قامات جميلة فارعة كالأغصان النامية في شجرة الزمن، في سرد مبسط يتلون بحكايات الناس وثرثراتهم على الأرصفة وفي المدينة والمقاهي وضجيج الشوارع.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
منذ أوائل التسعينيات شغلتها الذاكرة وألهمتها، فشيدت لها أنصاباً من خامات الأرض وحديدها وتلاوينها، جعلتها أشبه برقيم مفتوح على أبجدية تراث الفينيقيين، وأعدت منها حقائب سفر وحكايات رحلات طويلة، التفتت ميراي بذكاء إلى الخامات البسيطة والمواد الفقيرة، فاستخدمت قوارير البلاستيك ودمجتها مع الباطون والأسمنت وصنعت منها قامات رجال ونساء يتحاورون بلغة الطيور، وأعدت خرائط لأمكنة خارج الحدود مواتية للخيال وحسب، ولم تغب عنها ذاكرة الكتب في طفولتها في بيت العائلة في كفرشيما، التي كرست لها رفوفاً على منصة فنية، ككتب خالدة مصنوعة من الطين والتراب والألوان.
لم تعتبر ميراي حنين نفسها يوماً جزءاً من التيار النسوي المهيمن في الفن المعاصر، لكن أشهر أعمالها المعدة لفن الشارع، كان عملاً تجهيزياً ضخماً تحت شعار "نساء مغتصبات ومشنوقات يوم زفافهن"، وهو معرض أقامته في الهواء الطلق في ساحة عين المريسة في بيروت عام 2017. تضمن 31 فستان زفاف من ورق النايلون، ترمز إلى 31 ضحية من النساء اللاتي أجبرن على الزواج، باعتباره موتاً يومياً، مصحوباً بعريضة تطالب البرلمان اللبناني بإلغاء المادة 522، دفاعاً عن حقوق المرأة في العيش بحرية وكرامة.
كل ما تركته ميراي حنين، ثمين ودائم لأنه سيغدو الذاكرة المعمرة في وجه حياة زائلة.