ملخص
هناك من يتساءل عن مدى قانونية أو مشروعية صدور مثل عملة تحمل صورة الرئيس الأميركي (دولار ترمب)، وهل هي أمر تجيزه قوانين سك العملات في الداخل الأميركي بالفعل، أم أن المشهد فيه تجاوزات قضائية؟
خلال الأسبوع الأول من أكتوبر (تشرين الأول) الجاري، قالت وزارة الخزانة الأميركية إنها تعمل على إصدار عملة معدنية بقيمة دولار واحد تحمل صورة الرئيس دونالد ترمب، احتفالاً بالذكرى الـ250 لاستقلال الولايات المتحدة عام 2026، على رغم أن التصميم ليس نهائياً بعد.
وكتب وزير الخزانة الأميركي براندون بيتش ضمن منشور على مواقع التواصل الاجتماعي، يقول "لا أخبار كاذبة هنا. هذه المسودات الأولية التي تخلد الذكرى الـ250 لتأسيس أميركا".
العملة الدولارية التذكارية المتوقعة تظهر على جانب منها صورة ترمب نفسه، وعلى الجانب الآخر حيث الكتابة، يبدو ترمب مرة أخرى رافعاً قبضته وعلم الولايات المتحدة يرفرف خلفه، مما يذكر بالصورة التي التقطت بعد محاولة اغتيال فاشلة للرئيس في بنسلفانيا عام 2024.
الخبر المتقدم أثار في واقع الأمر لغواً وجدلاً كبيرين في الداخل الأميركي، من أكثر من جهة، فقد تساءل بعض "هل صدور هذه العملة هو عمل رمزي لنسق أكبر يزعج أنصار الجمهورية الأميركية، أولئك الذين باتوا يخشون عليها من أن تتحول إلى ملكية بقيادة الملك ترمب، مما تسبب في خروج كثير من التظاهرات والتظاهرات الرافضة للفكرة في عدد من المدن والساحات الأميركية خلال الأشهر القليلة التي أعقبت فوز ترمب بولاية رئاسية ثانية؟".
من جهة ثانية، هناك من يتساءل عن مدى قانونية أو مشروعية صدور مثل هذه العملة، وهل هي أمر تجيزه قوانين سك العملات في الداخل الأميركي بالفعل أم أن المشهد فيه تجاوزات قضائية؟
على أن الأكثر دوياً في قصة العملة الترمبية، أنها استدعت مقاربات تاريخية بين الجمهورية الأميركية في حاضرات أيامها من ناحية، وأواخر أيام الإمبراطورية الرومانية من ناحية أخرى، إذ كثُر قيام الأباطرة الرومان بإصدار مسكوكات معدنية عليها صور للقياصرة، وهو ما يسعى إليه الرئيس ترمب في القريب العاجل.
تاريخ سك العملات الأميركية
بحسب موقع وزارة الخزانة الأميركية، بدأت قصة العملات المعدنية الأميركية المتداولة قبل افتتاح دار سك العملة الوطنية عام 1792 بوقت طويل.
قبل ذلك الوقت كان هناك مزيج من العملات المحلية والأجنبية المتداولة، سواء خلال الفترة الاستعمارية أو في الأعوام التي تلت الحرب الثورية. بعدما أنشأ الكونغرس دار سك العملة الأميركية عام 1792، عانت الدار لأعوام طويلة لإنتاج ما يكفي من العملات. وفي النهاية، ازداد حجم الإنتاج لتلبية حاجات دولة متنامية، مما وفر بعضاً من أكثر تصاميم العملات المتداولة رواجاً.
في أوائل القرن الـ19، كان المودعون كالبنوك، يوفرون الفضة والذهب لسك العملات، ويختارون العملات التي يرغبون في استعادتها. كانوا يفضلون الفئات الأكبر من كل معدن ونادراً ما كانت دار السك تسك العملات الفضية من الفئات الأصغر، مثل نصف 10 سنتات، و10 سنتات، وربع سنت اللازمة للمعاملات اليومية.
ظهر وجه سيدة الحرية على العملات الأميركية المتداولة لأكثر من 150 عاماً. عند دراسة خيارات العملات الأولى، ناقش الكونغرس إمكانية وضع صورة جورج واشنطن والرؤساء اللاحقين. اعتقد كثر أن وضع صورة الرئيس الحالي على العملة المعدنية يشبه إلى حد كبير ممارسة بريطانيا العظمى في تصوير ملوكها، وبدلاً من ذلك، اختار الكونغرس تجسيد مفهوم الحرية بدلاً من شخص حقيقي.
كان تمثال الحرية الذي غالباً ما كان يرتدي قبعة وعموداً، رمزاً استخدم خلال الثورة الأميركية. ونظراً إلى أصول الحرية كإلهة يونانية رومانية، فقد صورتها تصاميم العملات القديمة بملابس وملامح وجه ورموز كلاسيكية.
خلال عام 1909، استبدلت صورة أبراهام لنكولن بـتمثال الحرية (ليبرتي) على النسر. ثم ظهرت صور الرؤساء على فئات أخرى مثل ربع دولار عام 1932، وخمسة سنتات عام 1938، و10 سنتات عام 1946، ونصف دولار عام 1964، وأخيراً الدولار عام 1971. وظهرت صورة ليبرتي آخر مرة على عملة متداولة عام 1947، خلال العام الأخير من إصدار نصف دولار (ليبرتي المتحركة).
ظهر النسر الأصلع على ظهر العملات الذهبية والفضية، غالباً كنسر شعاري مستوحى من الختم العظيم للولايات المتحدة. كان النسر الشعاري بجناحيه المنفردين يحمل غضن زيتون في أحد مخالبه، وسهاماً في الأخرى، ودرعاً في الأمام. أحياناً كانت النجوم والغيوم تظهر فوق النسر رمزاً لأميركا كدولة جديدة.
دولار ترمب وقانونية المشهد
هل إصدار عملة دولارية عليها صورة الرئيس ترمب أمر قانوني؟ يبدو أن هناك التباساً حول المشهد، مما أثار جدلاً واسعاً، إذ اعتبر عدد من المعلقين أن الأمر غير قانوني، وذلك بموجب قانون أميركي صدر عام 1866، يحظر على حد قولهم، عرض صور الأحياء على العملات.
والسؤال الآخر، هل سيصل الأمر إلى المحكمة العليا والتي عليها أن تفصل في القرار؟ غالب الظن أن هذا ما يمكن أن يحدث من جانب أصدقاء الرئيس ومريديه وهم كثر لا سيما من جماعة (ماغا).
غير أنه على رغم أن القانون الفيدرالي يحظر على وزارة الخزانة الأميركية، إصدار عملات تحمل صورة رئيس سابق أو حالي على قيد الحياة، فقد يكون هناك مجال أكبر للمناورة مع العملات التذكارية التي تنتجها دار سك العملة الأميركية.
تنص اللوائح أيضاً على ضرورة مرور عامين على وفاة الرئيس السابق أو الحالي قبل إصدار عملة تحمل صورته تاريخياً، وكان هذا التقييد يهدف إلى تجنب الظهور بمظهر النظام الملكي، وفقاً لبنك الاحتياطي الفيدرالي في سان فرانسيسكو.
وبموجب قانون صدر عام 2021، أصبح من حق الخزانة إصدار عملات تذكارية بقيمة دولار واحد للاحتفال بالذكرى السنوية الـ250 لتأسيس البلاد.
ووقع ترمب على هذا الإجراء ليصبح قانوناً نافذاً خلال يناير (كانون الثاني) عام 2021 أثناء رئاسته الأولى، بعد إقراره بالإجماع من مجلسي الكونغرس. ويجيز هذا الإجراء إعادة تصميم العملات المعدنية من فئة ربع دولار ونصف دولار واحد في عدة سلاسل متتالية.
ويشير قانون السلسلة 250 تحديداً إلى وجه العملة "لا يجوز تضمين صورة رأس وكتفين أو تمثال نصفي لأي شخص، حياً كان أم ميتاً، ولا صورة لشخص حي في تصميم وجه أية عملة" من السلسلة. ولكنه لا يستبعد وجود صورة على وجه العملة. وربما لا يكون هذا تحدياً كبيراً بالنسبة إلى ترمب إذا كان يرغب في سك عملة معدنية تحمل صورته.
وما لم يتدخل الكونغرس، ستقتصر العملية من الآن فصاعداً على مسؤولي الإدارة، مما يعني أن الرئيس سيحتفظ بالسيطرة المباشرة. وحتى لو قررت المحاكم رفض المقترح، فإن متخصصين يرون أنه من غير المؤكد ما إذا كان بإمكان أي شخص الاستشهاد بضرر مباشر ناتج من إنتاج عملة ترمب، وهو شرط لرفع دعوى قضائية.
وفي هذا الصدد يقول البروفيسور غارييل ماثي الأستاذ المشارك في الاقتصاد بالجامعة الأميركية في واشنطن، والذي له باع طويل في قضايا العملات، إنه من غير الواضح من لديه الحق في رفع دعوى قضائية هنا.
على أن علامة الاستفهام الأكثر أهمية "لماذا يستشعر بعض خطراً داهماً من قصة عملة ترمب، تلك المنتظر أن تخرج إلى النور، حتى وإن كانت رمزية خلال عام 2026، إذ تكون 250 عاماً مرت على مولد الدولة الأميركية؟".
بين ترمب وقيصر
عبر مجلة "كونفرسيشن" الأميركية، وبعد أيام معدودات من ظهور أنباء عملة ترمب، كتب البروفيسور بيتر إدويل الأستاذ المشارك في التاريخ القديم بجامعة ماكوراي، تحت عنوان "ترمب على عملة؟ عندما حاول يوليوس قيصر ذلك، انهارت الجمهورية الرومانية بعد فترة وجيزة"، يقول إنه منذ أكثر من 2000 عام تسببت صور الشخصيات الحية على العملات الرومانية في اضطرابات مماثلة.
وبحسب إدويل، فقد جاء ذلك خلال وقت كانت فيه الجمهورية الرومانية تمر بمحنة وسرعان ما انهارت الجمهورية تماماً، مبشرة بفترة طويلة من حكم روما تحت حكم ملوك أباطرة اعتبروا أنفسهم أشبه بالآلهة.
في قراءته المطولة يخبرنا إدويل بأنه بحلول أواخر القرن الثاني قبل الميلاد، قاد روما الجنرال والسياسي الروماني غايوس ماريوس. خرق ماريوس ومنافسه اللاحق لوسيوس كورنيليوس فيليكس عدداً من الأعراف الراسخة، وخاضا أول حرب أهلية كبرى في روما.
خلال عام 88 قبل الميلاد عندما كان سولا قنصلاً زحف بجيشه إلى روما للدفاع عن المدينة من "الطغاة"، أي فصيل ماريوس الذي أطاحه. وبعد انتصار سولا في الحرب الأهلية التي تلت ذلك، تولى الحكم الديكتاتوري منذ عام 82 إلى عام 79 قبل الميلاد. ولم يكن من المقرر أن تستمر الديكتاتوريات لأكثر من ستة أشهر في أوقات الطوارئ. لكن سولا أصر على بقائها، وكجزء من ذلك أمر بإعداد قائمة تعرف بـ"القائمة المحظورة"، أو "قائمة الأعداء"، فقتل المئات، بل الآلاف، وصودرت ممتلكاتهم.
وخلال العام نفسه سكت عملة فضية باسم سولا، وظهر على وجهها صورة له وهو يركب عربة تجرها أربعة خيول. وكان سولا أول زعيم للجمهورية الرومانية يضع صورته على عملة معدنية، ولكنه لن يكون الأخير.
وبحلول عام 44 قبل الميلاد ذهب يوليوس قيصر إلى أبعد من ذلك، فقبل أربعة أشهر من اغتياله ظهرت عملات معدنية تحمل صورة قيصر النصفية على وجهها، وحمل بعضها عبارة (ديكت بيربيتو) والتي تعني "ديكتاتور مدى الحياة".
آنذاك، كان قيصر وكثر قبله بما في ذلك ماريوس سولا كسروا قالب الجمهورية القديمة، وفي أوائل عام 44 قبل الميلاد، تولى قيصر الحكم الديكتاتوري مدى الحياة. ومنذ عام 46 حتى عام 44 قبل الميلاد تولى منصب القنصل، الذي كان من المفترض أن يستمر لمدة عام واحد فقط.
حكم سولا الحكم الديكتاتوري لثلاثة أعوام متتالية، مما مهد الطريق جزئياً لظهور قيصر لاحقاً والانهيار النهائي للجمهورية.
هذه المرحلة التاريخية الرومانية تطرح سؤالاً اليوم، هل الجمهورية الأميركية تمر اليوم بمرحلة عمرية مشابهة لما جرت به المقادير مع روما القديمة قبل ألفي عام؟
أميركا من الجمهورية إلى الملكية
ليس سراً يُذاع أن هناك اليوم مخاوف عميقة تحلق فوق سماوات الولايات المتحدة، والجميع يسترجع التعبير القاسي الذي أطلقه أحد الآباء المؤسسين للولايات المتحدة بنجامين فرانكلين، بعدما سألته سيدة أميركية غداة كتابة وثيقة الاستقلال "ما الذي توصلتم إليه يا سيد فرانكلين جمهورية أم ملكية؟ فكان جوابه "جمهورية لو استطعتم الحفاظ عليها".
واليوم ترتفع الأصوات منذرة ومحذرة من التيار الملكي الجديد الذي ينشأ ويرتقي تحت أجنحة شكل جديد من المحافظية الأميركية الجديدة، والمختلفة بصورة واسعة عن محافظية ليو شتراوس، واتباع وثيقة القرن الأميركي الصادرة عام 1970.
وفيما يؤكد بعض المؤرخين أن قيصر لم يأمر مباشرة بوضع صورته على العملات، إلا أنهم لا ينكرون أن من أرادوا كسب وده عملوا جاهدين على خروج تلك العملات إلى الأسواق الرومانية. وهنا يبدو أن سيناريو مماثلاً يتكرر مع تصميم العملة التي تحمل صورة ترمب.
لكن على الجانب الآخر ومنذ فكرة الاستعراض العسكري الذي واكب يوم مولد ترمب، ارتفعت اللافتات في عموم كبريات المدن الأميركية، وجميعها عليها كلمتان فاعلتان "لا للملوك"، احتجاجاً على استيلاء ترمب على السلطة الفيدرالية للشرطة.
وأصبحت عبارة "لا للملوك" شعاراً شائعاً وذائعاً بين المتظاهرين المناهضين لترمب، لا سيما أن الرجل يكاد يشابه القنصل الروماني سولا عبر مطاردته لليسار الأميركي، والذي بات يحمله بأخطاء بل وخطايا العالم وليس الداخل الأميركي فحسب، وهناك من يقطع بأن قوائم مشابهة لقوائم الرومان المحظورة جرى إعدادها بالفعل، لا سيما منذ اغتيال الناشط اليميني تشارلي كيرك، وتكاد تشابه قوائم السيناتور مكارثي التي طارت في أنحاء الجمهورية خلال خمسينيات وستينيات القرن الـ20.
لقد وقع ترمب أكثر من 200 أمر تنفيذي في أقل من تسعة أشهر، بينما أصدر سلفه جو بايدن 162 أمراً تنفيذياً طوال فترته الرئاسية اليتيمة، مما يجعل صدور أنصار الديمقراطية تضيق، وأنصار الحريات العامة وحقوق الإنسان يستشعرون أخطاراً جدية قائمة وقادمة، تكاد تشعل المقاربة بين أزمة القنصل سولا ومآلات الرئيس ترمب.
والمؤكد أن نشر ترمب للقوات الفيدرالية داخل المدن الأميركية بموجب مراسيم الطوارئ، أثار صرخات عالية ضد طغمة الاستبداد الوليدة والتي تتكاثر بقوة من حول ترمب خلال الفترة الأخيرة، وتذكر بمسيرة سولا في روما وما تلاها من قرارات حظر وردود فعل مماثلة.
ضمن هذا السياق تحديداً، ينظر كثير من الباحثين المحققين والمدققين في التاريخ الأميركي بعين القلق لما يعتري الكونغرس من غضب مكبوت بين الجنرالات.
فقد جاء اللقاء الأخير مع نحو 800 من الجنرالات والأميرالات وكبار الرتب، مثيراً للقلق ومدعاة للخوف من ردود فعل العسكريين الأميركيين، وبخاصة أنهم استمعوا إلى خطابات فوقية سلطوية من شخصين لا علاقة لهما بعالم العسكرة أو خوض المعارك، مما فتح الباب واسعاً للهواجس من القلق الذي يمكن أن يحدثه هؤلاء، وتحديداً في ظل تقارير تفيد بأن المؤسسة العسكرية داخل الولايات المتحدة على اتساع نطاقها، وبما يعنيه معنى ومبنى المجمع الصناعي العسكري، كانت أعدت قراءات استشرافية توقعاً لعودة ترمب إلى البيت الأبيض مرة جديدة ومحاولته السطو على القرارات العسكرية، مما يمكن أن يدفع أصحاب هذا الكيان الكبير والخطر في اتجاه مخيف بصورة أو بأخرى.
هل فكرة عملة معدنية لترمب تذكر بعملات قيصر وسولا؟
الثابت أنها قد لا تخالف هذه الممارسات القانون حال تفعيل المناورات، وهو أمر لن يصعب على رجالات إدارة ترمب، لكنها ستخالف الأعراف المتعارف عليها، وفي الوقت نفسه تجسد هذه الممارسات تحولاً ملحوظاً داخل الولايات المتحدة من الديمقراطية إلى الاستبداد.
وفي هذا السياق نعود مرة جديدة إلى التساؤل، "هل يمكن أن يكون مصير الولايات المتحدة مشابهاً بصورة أو بأخرى لما آلت إليه الإمبراطورية الرومانية في نهايات عهدها؟".
أوجه التشابه بين روما وأميركا
لعله قبل الحديث عن النهايات، يجب علينا التوقف ولو سريعاً عند نقاط التشابه الكبرى. ويحتاج هذا الحديث إلى قراءات مطولة إن تحرينا الموضوعية الواسعة، لكن باختصار غير مخلٍ يرى الباحث الأميركي في شؤون التاريخ الأوروبي ماثيو أفيتائيل أن هناك أوجه تشابه بين أسلوب الحكم الروماني ودستور الولايات المتحدة. فالنظام الجمهوري التمثيلي الأميركي مبني مباشرة على النظام الروماني، وهذا الاسم بدوره مشتق من العبارة الرومانية (res publica) والتي تعني "شيء من الشعب" أو المصلحة العامة أو الشؤون العامة.
ومن المفارقات أن نظام الحكم الروماني نشأ في الأصل بدافع الكراهية للملكية، ثم أصبح في ما بعد تحت حكم الأباطرة، إلا أن الجمهورية الرومانية الأصلية نشأت من تاريخ مؤلم، وسعت إلى إبعاد سلطة واسعة من يد شخص واحد.
ومن أوجه التلاقي، أنه بينما تشكلت الولايات المتحدة بفضل تجاربها في الحربين العالميتين الأولى والثانية، خاضت روما نسختها الخاصة من صراع الحضارات خلال تاريخها الطويل. واجهت الجمهورية الرومانية صراعات كبرى للسيطرة على معظم أنحاء العالم المعروف، والذي كان يتركز حول البحر الأبيض المتوسط.
ومن جهة أخرى، يعد التضخم الذي شهدته الولايات المتحدة خلال الأعوام الأخيرة ضئيلاً مقارنة بفترات النمو التضخمي الكبير التي شهدتها روما القديمة. ولعل أبرز مثال على ذلك ما حدث خلال أزمة القرن الثالث، فقد أدت فترة عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي إلى واحدة من أسوأ فترات التضخم في التاريخ القديم.
هل عرفت روما نموذج الشعبوية كما تنمو الظاهرة وتنتشر اليوم؟
نعم، فقد سمح النظام السياسي الفريد لروما بنمو فصائل بارزة، لا سيما خلال الجمهورية اللاحقة. وبرز هذا الأمر غالباً مع ظهور قادة شعبويين دعوا إلى تغيرات جذرية في النظام السياسي والاجتماعي والاقتصادي للبلاد. وعلى رغم وجود عدد من القادة الجديرين بالتأمل، بدا أكثرهم استقطاباً للاهتمام حتى بعد مرور أكثر من ألفي عام الشقيقان تربيبون تيبيريوس وجايوس غراكوس، وجمعا اسمهما باللاتينية غراتشي.
ولعل النقطة المهمة والتي تواكب الذكرى الـ250 لولادة الولايات المتحدة أن دستور أميركا دام لأكثر من 200 عام، وهو من أقدم أشكال الحكم المستخدمة باستمرار في التاريخ الحديث. ومع ذلك فقد مثل انحرافاً جوهرياً عن بنود الاتحاد الكونفيدرالي الأصلية (1781 - 1787). وشهد القرن الأخير من الجمهورية الرومانية تغييرات جوهرية وأكثر دموية.
على أن هناك جزئية أخرى تشاركت فيها أميركا مع الإمبراطورية الرومانية الآفلة، وقد يكون لها ذات التأثير في المدى الزمني المنظور... ماذا عن هذا؟
رؤية فرط الامتداد الإمبراطوري
من بين أفضل من استخدم تعبير فرط الامتداد الإمبراطوري المؤرخ الأميركي بول كيندي، ولمقارنة وضع الإمبراطورية الرومانية بموقف الولايات المتحدة تجدر الإشارة إلى أن روما غالباً ما ارتبطت بمفهوم "التمدد الإمبراطوري المفرط"، وتوسعت إلى حد هائل جعل من الصعب الحفاظ على سيطرتها على أراضيها. وبالمثل قامت الولايات المتحدة كقوة عظمى عالمية بتدخلات عسكرية وتدخلات واسعة النطاق داخل مناطق مختلفة، مما أثار جدلاً حول حدود نفوذها العالمي واستدامة هذا النفوذ.
أصبح الجيش الروماني منهكاً ويحتاج إلى مزيد من الجنود، وهو ما لم يكن متوافراً لديهم. وكانت الرؤية أن هناك حاجة إلى الحفاظ على القانون والنظام في أي أرض جديدة يجري غزوها من جانب الفيالق الرومانية، عطفاً على غيرها من المراد إحداث تأثير سياسي فيها، وإلا فإن الشعب الذي تعرض للغزو سيثور ويطيح الذين يجري تعيينهم لإدارة الأرض الجديدة.
لكن روما لم يكن لديها ما يكفي من الجنود لإمبراطوريتها الشاسعة، وهذا أيضاً أحد الأسباب العديدة التي دفعت روما إلى منح الجنسية لأي شخص داخل الأراضي التي استولت عليها بهذه الطريقة، إذ يمكن فرض الضرائب عليهم، تماماً كما يمكن تجنيدهم في الجيش.
غير أنه وفي نهاية المطاف، ومن دون الحماية الكافية أو المال اللازم لتجهيز جيشها الضخم، سقطت مدينة روما في النهاية في أيدي القبائل الجرمانية خلال عام 476 ميلادية.
هل الأمس يشابه اليوم بالنسبة إلى الولايات المتحدة؟
ربما التاريخ لا يعيد نفسه، لكن بحال من الأحوال فإن أحداثه تتشابه. خذ إليك على سبيل المثال، تمتلك الولايات المتحدة أكثر من 750 قاعدة عسكرية في أكثر من 100 دولة، ولهذا السبب شكلت نفقات الدفاع الأميركية ما يقارب 40 في المئة من الإنفاق العسكري لدول العالم خلال عام 2022، وفقاً لأرقام معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام.
من هنا يتبين جلياً أن الإنفاق العسكري للولايات المتحدة أكبر من إنفاق الصين وروسيا والهند والسعودية والمملكة المتحدة وألمانيا وفرنسا وكوريا الجنوبية واليابان وأوكرانيا مجتمعة.
لكن علامة الاستفهام هنا إلى متى يمكن لاقتصاد مديون بقرابة 36 تريليون دولار أن يمضي قدماً في التوسع حول العالم؟ هنا ولا شك سيعلو الصوت التقليدي، والذي عرفته الإمبراطوريات السابقة كافة، أي صوت الانعزاليين والمطالبة بالرجوع إلى الداخل، ومن ثم التمترس وراء المحيطين. إذاً ما الذي يتبقى في هذا الحديث؟.
من العملة إلى الاستقطاب السياسي
تحتاج هذه الجزئية تحديداً إلى قراءة مطولة، ذلك أنها تحوي مقاربات أنثروبولوجية تهتم بالملامح الإنسانية، والصراعات التي تنشأ على هامشها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
فمع توسع الإمبراطورية الرومانية ضمت إليها مقاطعات وشعوباً مختلفة، مما أدى إلى انقسام بين النخب الإقليمية والأرستقراطية الرومانية. وكثيراً ما واجهت النخب الإقليمية التمييز، واعتبرها النبلاء الرومان أقل هيبة وأهمية.
وفي مراحل عديدة من تاريخ الإمبراطورية، نشبت خلافات أيديولوجية بين سكان روما حول جوانب سياسية مختلفة.
هل هذا الاستقطاب قائم اليوم في الروح الأميركية؟
مؤكد أن هذه واحدة من القضايا المثيرة والخطرة، وبات يمثلها الجدل الخاص بالهجرة ودور المهاجرين في إفساد الطبيعة الأنغلوسكسونية.
وفي هذا السياق، يمكن القطع أن عملة دولارية تحمل صورة الرئيس ترمب أمر يتجاوز في مفاعليه تلك القطعة النقدية، بل يحمل في طياته الأفكار التي يؤمن بها، ومن يلف لفه، وفي مقدمها التشكيك في كل من ليس له بشرة بيضاء.
تعيش أميركا اليوم حالاً من الاستقطاب السياسي مشابهة لما عرفته روما قبل ألفي عام، ذلك الذي بدأ بعملة سولا وصولاً إلى الهاوية أمام الفندال (قبائل جرمانية).
ويشير الاستقطاب السياسي داخل الولايات المتحدة إلى الانقسامات الأيديولوجية العميقة والعداء الحزبي المتزايد بين الجماعات السياسية. وعلى مدى العقود القليلة الماضية، ازداد المناخ السياسي داخل الولايات المتحدة استقطاباً، مما أدى إلى عواقب وخيمة على الحوكمة والخطاب العام والتماسك الاجتماعي.
بداية، اتسعت الفجوة الأيديولوجية بين الحزبين السياسيين الرئيسين (الديمقراطي والجمهوري) واتجه كلاهما نحو أيديولوجيته المتطرفة، مع تناقص عدد السياسيين الذين يحتلون موقع الوسط. وينعكس هذا الاستقطاب في المواقف السياسية تجاه قضايا مثل الرعاية الصحية والضرائب والهجرة وتغير المناخ والقضايا الاجتماعية.
وهنا يبقى السؤال، هل يجيء الدولار الترمبي ليعمق من أزمة أميركا اليوم لتشابه روما الأمس؟