Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

باسم خندقجي: أنسنت الإسرائيلي كي أحاسبه وأفضحه

الروائي الفلسطيني الأسير تحدث لـ"اندبندنت عربية" عن حكاياته داخل المعتقل وضرب السجانين له بقسوة قبل اطلاق سراحه

الروائي المحرر باسم خندقجي على ضفة النيل في القاهرة (اندبندنت عربية)

ملخص

أجرت "اندبندنت عربية" ما يمكن اعتباره أول حوار صحافي شامل، مع الروائي الفلسطيني الأسير والمحرر باسم خندقجي،  في لقاء تم على ضفة النيل، في القاهرة التي نفي إليها بعد إطلاق سراحه مع دفعة من الأسرى. وأشار في حواره إلى أن رواياته، لا سيما "قناع بلون السماء" التي فازت بالبوكر العربية، انتصرت لشعبه الذي يتعرض للإبادة الجماعية، وأتاحت للسردية الفلسطينية فرصة الانتشار انطلاقاً من السجن، ويعترف أنها وضعته أمام تحديات جديدة. وأبدى تخوفه ازاء الأزمة  الراهنة التي تستفحل بكل مناحي أو مفاصل القضية الفلسطينية.  ويقول ان السجن علمه أن الكتابة إكسير الحياة، وأن الأدب الفلسطيني على أعتاب مرحلة جديدة

توجهت للقاء الروائي والأسير الفلسطيني المحرر باسم خندقجي فوجدته يقف على جسر قصر النيل في القاهرة، فارداً ذراعيه على سور الجسر الشهير في مشهد أقرب إلى مشاهد السينما. أخبرني أنه أراد أن يجرب تنفس هواء الحرية بعد 21 عاماً قضاها معتقلاً في السجون الإسرائيلية.

الروائي الفائز بالجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر) عن روايته "قناع بلون السماء" وصل إلى القاهرة الإثنين الماضي بعد توقيع اتفاقية شرم الشيخ الأحد، وهي قضت بوقف الحرب التي شنتها إسرائيل طوال عامين.

سرنا ومعنا شقيقته الصغرى وأحد الأصدقاء بمحاذاة سور حديقة الأندلس والتقطنا صوراً أمامها ثم قال لي: "أعرفها من مشاهد الحفلة التي أحيتها فيروز هنا"، وحرص على التقاط أكثر من صورة يظهر في خلفيتها برج القاهرة والمبنى التاريخي لفندق الهيلتون القديم. لم يزر خندقجي القاهرة من قبل، لكنه عرفها من الكتب والتاريخ ومن المسلسلات التي شاهدها قبل اعتقاله في عام 2004 بعد الحكم بسجنه مدى الحياة.

يقول إنه ينوي بعد أن يرتاح قليلاً، زيارة أماكن كثيرة: "شغلات الواحد بده يشوفها وهو مش جاهز لها، كل إشي كتبته عن مصر في رواياتي بدي أشوفه، كتبت عن مصر خلال القرن الحادي عشر ومناطق مثل المقطم، القلعة، الأزهر، وجزيرة الروضة". وقال إنه يشعر أن "القاهرة تملأه" على رغم أنه يسير في شوارعها للمرة الأولى.

اليتم الأدبي

حين باشرنا الحديث عن الأدب قال: "السؤال الحقيقي لنا كأدباء فلسطينيين اليوم، متعلق بالكيفية التي نشكل بها الخطاب الأخلاقي الذي يدين إسرائيل".

"اندبندنت عربية" حاورت باسم خندقجي ورافقته في أول جولة في شوارع القاهرة، أكد خلالها أن الأدب الفلسطيني على أعتاب مرحلة جديدة تتطلب بناء رؤية تسهم في "تعرية العدو" وكشف أزمته الأخلاقية".

ويضيف: "اليوم هناك شبه إجماع على أن إسرائيل تعيش أزمة أخلاقية بعد حرب الإبادة الجماعية التي شنتها ضد شعبنا في غزة، وإصرارنا على كتابة سردية ضد استعماريته، هو مطلب أخلاقي أيضاً، فالأهم أن تكون هذه الكتابة متميزة ومغايرة لأشكال الكتابة الأخرى".

شعر خندقجي بالكثير من الحزن لأنه وصل إلى القاهرة بعد موت الروائي صنع الله إبراهيم، مؤكداً أنه كان يتمنى اللقاء معه في بيته. هكذا كان يحلم ويتابع: "حزنت أيضاً حين علمت بموت الروائي اللبناني الياس خوري الذي اعتبره ملهمي الأهم في كتابة الرواية، وظل حلمي أن ألتقي به، إذ كان يمثل لي قيمة أبوية على نحو ما. فهو من جيل أبي وقد تربيت على رواياته".  داخل السجن كتب خندقجي الشعر للمرة الأولى لكنه توقف بعد 6 سنوات وتحول إلى كتابة الرواية. وخلال تلك الفترة أصبح الياس خوري نموذجه الأعلى، وكثيراً ما تخيل نفسه وهو يساجله.

يتذكر حتى الآن، يوم شن عناصر إدارة السجون الإسرائيلية هجمة على زنازينهم قائلين: "اكشفوا كل شي معكم، لكن المدهش إني قدرت ان أخبئ عدة كتب منها رواية "أولاد الغيتو" لالياس خوري ورواية "وردة" لصنع الله إبراهيم".

يضيف: "بعد فترة طويلة من العزل ومنع زيارات المحامين لنا في السجن، سمحت الإدارة لمحاميتي بزيارتي فسألتها عن إلياس خوري؟ فقالت لي "لقد توفي". واخبرتني وحدها من دون سؤال: "صنع الله إبراهيم كمان توفي!". صعقت وقلت لها أن هذا بمثابة "يتم أدبي" بالنسبة إلي. وقد تألمت كثيراً حين رجعت إلى زنزانتي، معتبراً أن موتهما أول صدمة كبيرة عايشتها بعد موت محمود درويش في 2008 الذي اعتبرت موته أول يتم أدبي عشته، فقد كنت أحس أن شيئاً صوفياً بجمعني به".

 شعر خندقجي طوال وجوده في السجن أن محمود درويش راض عنه، ويضحك معترفاً أنه حلم كثيراً بصاحب "أرى ما أريد"، يزوره في السجن ويحادثه كرفيق قديم: "أنت قاعد هنا بتعمل إشي منيح، أنت اه ضلك مكمل هيك، يعني".

مفارقات المنفى

يتأمل باسم خندقجي المفارقة التي جاءت به إلى القاهرة مستعيداً سيرة السنوات التي قضاها درويش في القاهرة بعد موسكو في عام 1971. ويقول: "القاهرة هي المدينة التي جاء إليها درويش بعد اختياره المنفى، أما أنا فقد أقصوني خارج وطني وجئت إليها أيضاً وتنفست فيها الهواء الذي كان يتنفسه".

ويؤكد أنه لم يكن على علم بتفاصيل الإفراج عنه حتى وصل إلى معبر رفح، وجرى استقباله هناك من قبل مسؤولين مصريين وعناصر من "حماس"، لافتاً إلى ما عاشه الأسرى في السجون، قائلاً: "منذ 7 أكتوبر ونحن معزولون تماماً، منقطعون عن العالم الخارجي، وكان السجان الصهيوني يحاربنا عبر حجب المعلومات، ومنع أي شكل من أشكال التواصل. ولكن قبل الصفقة بيوم، حكوا لنا إن ثمة توقيعاً على صفقة تبادل يوم الخميس، ولم نصدق لأنه كانت دائماً تجيئنا أخبار كاذبة تخيب آمالنا لكن الأمور ظبطت هذه المرة".

يشير باسم إلى أن حارس زنزانته دخل عليه يوم الإثنين وطلب منه ارتداء أي ملابس مدنية، ثم أخبره أنه قد يرحل إلى سجن ثان، الأمر الذي أصابه بالتوتر. وبعد أن ارتدى ملابسه وطلع إلى ساحة السجن مع الأسرى الآخرين تعرضوا للضرب المبرح. ويضيف: "ضربوني بلا توقف، حتى الآن عندي وجع في القفص الصدري في هذه الجهة". ويؤكد أن أغلب الأسرى الذين تم نقلهم من سجن نفحة الصحراوي إلى سجن النقب، تم ضربهم قبل إبلاغهم بقرار الإفراج أو النفي".

وعي النقص

يستعمل صاحب رواية "قناع بلون السماء" مصطلحاً ينسبه للفيلسوف الألماني هيغل عند الحديث عن طموحه الأدبي، وهذا المصطلح هو "وعي النقص"، كاشفاً أنه عانى من وجود نقص في إدراك البعد الفكري الخاص بالعدو الصهيوني، ويقول: "كنت بحاجة إلى أن أعكس هذا النقص لأصل إلى الاكتمال، وهذا الاكتمال يبدأ من تحدي السجان".

وما يقصده بالسجان هنا "بنية المشروع الصهيوني بأكملها، لأنها ترتبط ارتباطاً وثيقاً ومباشراً بالمعرفة. فالمعرفة والقوة مرتبطتان بعضهما ببعض، بحسب رأي ميشال فوكو".

يوم حسم خندقجي خياراته وأسند بندقيته على طرف الحائط قال لنفسه: "أريد أن أمسك القلم، لأنني أستطيع الرد على العدو من خلال الكتابة، كما أستطيع أن أسهم في تشكيل –وبلورة- جبهة ثقافية جديدة مضادة تواجه عمليات تنمطينا كما حلم الراحل غسان كنفاني". ثم انطلق إلى الكتابة الأدبية مستنداً إلى نص غسان كنفاني، وأراد بعدها التحول من كتابة التاريخي إلى الواقع المعاصر، للاشتباك معه، بغرض إيجاد بنية معرفية كاملة يقول: "هي أيضاً ضد استعمارية تستهدف نقد الذات بالأساس وتأمل في الانفتاح على الآخر".

ويتابع: "أتمنى أن نطور أدبنا ونحوله إلى أدب كوني، والأهم من ذلك أن ننجح في أنسنة الآخر الصهيوني من أجل هزيمته أخلاقياً؟ والمقصود بالأنسنة في هذا الجانب كما يقول: "ليست هي التطبيع مع هذا الآخر، وإنما إحالته من غول ومجرم، إلى إنسان يمكن محاسبته على جرائمه، على عكس الغول الذي لا يمكن محاسبته".

ثمن البوكر

يرى خندقجي أن الأدب الفلسطيني بعيش أزمة حقيقية في تصديه للأدب الصهيوني أو حتى في تناوله بشكل أو بآخر، أو عند تمثيله روائياً. وبحسب تقديره لا توجد أولويات للأدب الفلسطيني، وهذا ينطلق من عدم توحيد أولويات المنظومة السياسية الفلسطينية كلها، بل توجد، بحسب تعبيره، "أزمة عضوية تتعلق بأزمة السلطة وأزمة المقاومة وأزمة المعارضة، وبالتالي فإن الأزمة تستفحل بكل مناحي أو مفاصل القضية الفلسطينية".

يوضح خندقجي أن روايته التي حازت جائزة البوكر 2023 -2024 كانت بمثابة إعلان عن البدء بخطاب أدبي جديد، يرتبط بمشروعه للتبشير بخطاب أدبي ضد استعماري، والتحرر تماماً من التأثير التاريخي في نصوصه. ويكشف أن البطاقات التي تشير إلى قصص مريم المجدلية، في الرواية كانت بغرض استدراج القارئ وأغوائه بضرورة قراءة النص، من مدخل تاريخي معين، وجذبه بعده إلى الواقع المعاصر، بغرض الاشتباك معه واختبار سؤال الهوية في داخل النص.

أخيراً انتهى باسم جندقجي من مراجعة الجزء الثالث من الرواية ويتوقع نشره قريباً لدى دار الآداب، تحت عنوان "شياطين مريم المجدلية"، ويعود فيه من خلال التاريخ. حتى شخصية مريم المجدلية برأيه، يمكن القول إنها فلسطين. وانتهى من كتابة رواية أخرى في رأسه عن الشهيد وليد أبو دقة الذي يعتبره أحد أكثر المؤثرين في مسيرته.

يكشف خندقجي أنه تعرض لمضايقات ولحملة شرسة على يد السجان الإسرائيلي بعد فوزه بجائزة البوكر العربية، لأن الآخر الصهيوني أصابته ضائقة شديدة عندما علم بأن خندقجي يستحق أن يكون إنساناً لديه حكاية. ويقول: "موضوع النص أحرج العدو، لأن الرواية تطرقت إلى اللعبة الأثيرة لدى المستعمر الإسرائيلي وهي الهولوكوست، أو المحرقة النازية". ويتابع: "تناولت المحرقة بصورة غير نمطية، إذ تم انتزاعها من سياقها الصهيوني، ونقلها إلى السياق الإنساني، لكي تشعر هذه الضحية اليهودية التي أحرقت، أنها ترتكب الجريمة نفسها، وتبيد الفلسطيني. وبالتالي انتزعت من يد العدو السلاح الذي كان يمكن أن يحاربنا به".

معادلة جديدة

يضيف خندقجي: "أردت تذكير الجميع أن ما مورس بحقي هو إبادة جماعية، وما مورس بحقي هو تطهير عرقي. لكن سؤالي الأهم يتعلق بالكيفية التي يمكن أن أقوم فيها بتمثيل ذلك أدبياً، وكسر المعادلة الكولونيالية التي أنتجها الاستعمار. فالقطب الأول هو الصهيوني المسيطر أو المستعمر، والقطب الآخر هو الفلسطيني المهيمن عليه والمضطهد، ولكن اللحظة التي يقوم بها الفلسطيني بكسر هذه المعادلة الكولونيالية، تجسد اعتماده على خيار العنف الثوري لكي يتطهر أو يرد سردياً بالكتابة".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

لا يريد خندقجي القول بأنه نجح في كسر هذه المعادلة، لأن من المبكر كسرها، لكنه قام كما يقول، بكشف اختلالها. وهذا ما لمسه خلال جولات استجواب جهاز الشباك إياه. ويضيف: "عندما كان يهددني المحقق ويقول لي: سنفعل ونضرب ونعزلك"، فأقول له كل ذلك من أجل بضعة كلمات؛ فيرد نعم، وأقول من جديد "لو كنت أعلم أن كلماتي ستحرجكم إلى هذه الدرجة وستقلقكم وستضغط عليكم إلى هذه الدرجة لكتبت عشرات من الكتب تماثلها".

يؤمن الأسير المحرر أن أكثر ما تخشاه الحركة الصهيونية هو الكلمة لأنها وليدة الفكرة، والفكرة دائماً أقوى من الرصاص، ويقول: "انتصرت روايتي لشعبي الذي يتعرض للإبادة الجماعية، وقمت بإهداء هذه الرواية إلى غزة، وإلى شعبها وأتصور أن الفوز بجائزة البوكر أتاح لسردية شعبي فرصاً أكبر للانتشار، لكنه وضعني أمام تحديات جديدة".

التعقيم الأدبي

قبل كتابة هذه الرواية، كتب خندقجي الشعر، لكنه توقف تماماً عن كتابة الشعر عام 2010 بعد أن اكتشف أنه ليس شاعراً. وأنه يريد البحث عن شيء آخر. ولما شعر أن القصيدة لم تعد تعبر عن حاجته إلى تمثيل معاناة شعبه كما يقول: "قمت بكتابة أول نص سردي لي كنوع من أنواع التنظيف، أو التعقيم الداخلي، فقد أردت أن أذبح لغتي الشعرية على مذبح السرد. وكتبت نصاً ولم أشأ أن أنشره في تلك الفترة، أسميته "نرجس العزلة". وبقي النص في الدرج لمدة ست سنوات، إلى أن أقنعني أبي الراحل الداعم الأكبر لي وعراب كلماتي الأجمل بضرورة نشره".

يشير باسم إلى أن التحول الحقيقي نحو كتابة السرد كان في عام 2013 عندما بدأ كتابة روايته "مسك الكفاية"، وهي رواية عن الخيزران أم هارون الرشيد.

ورداً على سؤال حول الأثر الذي تركه السجن على عملية الكتابة وتقنياتها، يرد خندقجي: "عرّف محمود درويش السجن بأنه هو الكثافة، وأنا أقول إن الكتابة أيضاً هي الكثافة، الأمل هو الكثافة أيضاً. وبالتالي أنا قمت بحسم خياراتي منذ البداية، وأردت إحالة السجن من مجرد زنزانة ضيقة إلى فضاء. وحولت باحة المعتقل إلى منصة وموقع ثقافي قمت أنا بتشييده. في خيالي صنعت فضائي من دافعي إلى الكتابة كأسير فلسطيني يريد أن يعبر عن نفسه وعن عدالة قضيته الإنسانية، وعبر سنوات السجن تأكدت أن الكتابة هي إكسير بقائي على قيد الحياة".

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة