Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

مواجهات الهوية والبحث عن الجذور في رواية باسم خندقجي

"قناع بلون السماء" تطرح سؤال الذات أمام تحولات القيم التي تمثل حياة مجموعة بشرية

القدس القديمة (مركز الدراسات الفلسطينية)

ملخص

تسعى رواية "قناع بلون السماء" التي فازت بجائزة البوكر العربية أخيراً، إلى ترسيخ ضمان استمرارية التراث الفلسطيني، ومعرفة موقع الجماعة البشرية من التاريخ، وتمييز الموقع الأيديولوجي للفرد. وقد قام خندقجي بربط حكايته بالبحث عن الجذور والتاريخ عبر صناعة حكاية تاريخية، مركبة بذكاء ووعي معرفي.

لا يمكن مقاربة نص باسم خندقجي "قناع بلون السماء" بالمناهج الأدبية النصية، لأنه سيكون إجحافاً من قبل الناقد تجاه السيرورة الأدبية التي نتج منها النص. ولعل أفضل مقاربة للنص هي مقاربته بأدوات دراسات ما بعد الاستعمار، ليس لأنها حاضرة من خلال تجربة الشخصيات، بل لأنها تعيد اللحمة بين النص وتجربة إنتاجه، ولا تفصل النص عن كل من كاتبه، وسياقه الثقافي الاجتماعي، ولا حتى عن سياق تلقيه. إن كاتب النص يشكل حالة لكاتب استثنائي، فهو يكتب من وراء جدران سجون الاحتلال الإسرائيلي، وقد نتج النص في ظرف استثنائي من القيد الجسدي، والمواجهات مع المحتل، وربما التعذيب، وكذلك المنع، ليناقش قضية مستفزة بالنسبة إلى الآخر، قضية تهدده، وتؤرق مثقفيه وسياسييه، وهي القضية التي قد تنهي وجوده، إنها قضية الهوية.

لا تنفصل الهوية عن الشكل الأدبي، الذي هو الرواية، إذ بدأ فن الرواية بسؤال الهوية، عبر تحول منظومة القيم التي تمثل حياة مجموعة من البشر يعيشون في القرن الـ18، مستقرين في مجتمع زراعي وإقطاعات، ليواجهوا قيماً جديدة لمجتمع الحداثة، ونتيجة هذه المواجهات التي تراوح في أن تكون بسيطة إلى حادة ينشأ الاغتراب، وينشأ الأبطال الإشكاليون الذين هم ذاتهم الأبطال الروائيون، فلا يمكن أن يكون بطل روائي بلا حالة من الاغتراب، ينتج منها سؤال الهوية، وسؤال الذات والآخر، وسؤال المنظومة القيمية المتغيرة، التي سيبقى البطل يتحداها، ويعانيها إلى نهاية وجوده الروائي. إذاً، بدأت الرواية بسؤال الذات أمام تحولات القيم في مجتمع الحداثة، ووصلت إلى سؤال الهوية أمام تحولات القيم في مجتمع ما بعد الاستعمار، وفي إطار واحد من عقابيله، وهو الاحتلال.

فرادة التجربة

 يمكن القول إن باسم خندقجي من الكتاب الندرة في العالم الذي يمكن أن يمثل فكرة المثقف العضوي، وهو يماثل في ذلك تجربة الكاتب الإيطالي أنتونيو غرامشي (1891-1937) الذي ولد في سردينيا جنوب إيطاليا، وناضل من تورينو ضد فاشية موسوليني، ولم ينفصل كفاحه الثوري العملي عن كل من الأيديولوجيا، وكتابة الرسائل والمقالات، والجمهور، والعائلة، ودرس في سجنه علوم اللغة والفلسفة، مثلما فعل خندقجي في دراسته للصحافة، وكتابته أعماله الأدبية في السجن، وكذلك مثل "مراد" في نص "قناع بلون السماء"، إذ درس الأخير العلوم السياسية في سجنه، وحصل على الماجستير في الدراسات الإسرائيلية، فالسجن كثافة كما يشير البطل "نور" إلى عبارة محمود درويش. قدم غرامشي رؤيته للمثقف العضوي من خلال كتابين، "رسائل السجن" و"شجرة القنفذ"، فالمثقف العضوي، ليس هو ذلك الذي يحمل قضيته الوطنية أو القومية والإنسانية ويدافع عنها بكتابته من مكان ما من العالم، بل هو الذي يفعل ذلك على أرض الواقع، وفي المواجهات مع سجانه بحضوره الفيزيائي، وليس الافتراضي، وفي أرض المعركة وليس من المنافي، أو من وراء المنصات. هو الذي يتخذ قرار المواجهة، ويتحمل مسؤوليته، من غير أن يهرب خوفاً من الاعتقال أو القتل أو بطش السلطة، أية سلطة سياسية محلية أو مستعمرة. كان غرامشي يتساءل باستمرار عن كيفية تحقيق الانتقال من النظرية إلى التاريخ، أي إلى الفعل، وما من مناضل أصيل، كما يشير في "قضايا المادية التاريخية"، يسعى إلى ممارسة عمل ثوري فعلي إلا ويواجه هذه المسألة، مسألة تحقيق اللحمة بين التاريخ والفلسفة. وهذا يتحقق بجعل الحكاية الشعبية أو اليومية جزءاً من الحالة الفلسفية والنظرية للسردية المنطلق منها. وهذا ما حققه باسم خندقجي ليس بكونه أسيراً فحسب، بل لأنه أراد حبك الاتصال بين البنية الاجتماعية التحتانية التي يمثلها ما قبل الجدار من أبناء المخيمات ومدن الضفة الغربية، والبنية الفوقانية التي يمثلها ما بعد الجدار وهي القدس والمدن المحتلة التي تتسم بحصولها على الامتيازات لامتلاكها الهوية الزرقاء، هوية المحتل.

تحقق الحكاية شرطاً فنياً آخر للمثقف العضوي، إنها ضمان لاستمرارية التراث، ومعرفة موقع الجماعة البشرية من التاريخ، وتمييز الموقع الأيديولوجي للفرد، ويجب أن تحكى للأطفال والكبار على حد سواء: "إنها عملية التلقيح التاريخية العميقة الجذور"، وتحقق ارتباط الأدب بالشعب. وقد زخرت رسائل غرامشي إلى ولديه أيضاً بالحكايات والشعبية منها، لتأكيد الارتباط بالثقافة وحفظ الهوية، مثلما فعل باسم في ربط حكايته بالبحث عن كل من الجذور والتاريخ عبر صناعة حكاية مركبة، أسهمت فيها شخصيات روايته، إذ يصوغ فلسفة الهوية بالفعل الحكائي الذي يجعلها جماهيرية، وقابلة للتداول على المستويات جميعها، فلا يكون التاريخ عبر الحكاية خاصاً بالنخبة أو حكراً على جماعة معهد أولبرايت. فالتاريخ صناعة أيضاً، وقد حثته حرية الخيال في رواية دان براون "شيفرة دافنشي" حول مريم المجدلية، على البحث عن تاريخ المجدلية المجهول: "لماذا ينتزع كاتب أجنبي المجدلية من سياقها التاريخي الجغرافي الفلسطيني، ليلقي بها في مهاوي الغرب؟".

 المخزون الثقافي

 ليس المقصود بالمخزون الثقافي الجزء المعرفي العلمي فحسب، مثل التاريخ والنظريات الثقافية التي تقدمها شخصية الأسير مراد، بل يضاف إلى ذلك التجارب الدرامية التي تشكل الهوية منذ النكبة، فالنكسة، فالانتفاضة، ولعلنا نرتد عبر التاريخ إلى لحظة حضور مريم المجدلية إلى جانب يسوع القيامة.

 شكل الأب مهدي شهدي الذي اعتقل منذ الانتفاضة الأولى المعروفة بانتفاضة الحجارة 1988، بداية التجربة الفعلية لسؤال الهوية، إنه شخصية إشكالية مؤثرة لأنه رفض التكيف مع المنظومة القيمية الجديدة، فخرج من الأسر إلى عربة القهوة والشاي والصمت، في حين تحول رفاقه بعد أوسلو، إلى تجار للقضية، كبار أو صغار: "نال فيه أصدقاؤه البائدون، ورفاقه في النضال الغابرون المزايا والمزايا، والمناصب والمواكب والسيارات الفارهة، باتوا مسؤولين، أما هو فلم يعد مسؤولاً سوى عن عربة الشاي". هذا، فضلاً عن المخزون الثقافي النخبوي الذي تفصح عنه التسجيلات الصوتية المتبادلة بين البطل نور شهدي وصديقه المعتقل مراد، إذ نتعرف إلى المدونات السائدة في خطاب الهوية: كاتب ياسين، وإلياس خوري في "أولاد الغيتو"، و"الحياة مفاوضات" لصائب عريقات، و"ذاكرة الجسد" لأحلام مستغانمي، و"الثقافة والإمبريالية" لإدوارد سعيد، و"الإمبراطورية ترد بالكتابة" لبيل آشكروفت وزملائه، و"جلود سوداء أقنعة بيضاء" لفرانز فانون، وفراس سواح في "ألغاز الإنجيل"، وسيغمونت باومان في "الحداثة السائلة"، و"شيفرة دافنشي" لدان براون. ونتعرف إلى ذلك الخطاب في المخطوطات القديمة مثل مخطوطات وادي قمران، والأناجيل الغنوصية الغائبة. أما الآخر الإسرائيلي، فيحتكر المعرفة في معهد وليام أولبرايت 1970، الذي تحول عن المدرسة الأميركية للبحوث الشرقية المؤسسة في عام 1900، ويضع يده على التاريخ بمساعدة الآركولوجيا التي حازها باحتلال الأرض. ولعل مفردات هذا المخزون هي التي تفكك سردية الآخر المدعاة: "أنت من قال لي في الرسالة الماضية إن الكولونيالية تفاصيل صغيرة، إنها هوس السيطرة والتفاصيل الصغيرة التي تشيد في النهاية بنية شاملة متكاملة، تفاصيل معرفية وتاريخية وثقافية ونفسية، لهذا يجب أن تحارب بالتفاصيل ذاتها، أليست إذاً مريم المجدلية جزءاً من هذه التفاصيل؟".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

 يستحضر نور شهدي، في إطار المقارنة بين لغة المحتل ولغة المستعمر، تجربة الروائي الجزائري كاتب ياسين: "صارت العبرية غنيمة حرب" تحصل عليها، كما قال كاتب ياسين واصفاً اللغة الفرنسية إبان الاستعمار الفرنسي للجزائر، غير أن الفرق ما بين كاتب ياسين ونور شهدي هو أن الأخير لم يتعلم العبرية من "فم الذئب"، والمدارس العبرية، لقد تعلمها من "الشوارع العبرية". ليست العبرية غنيمة حرب بأهمية الفرنسية بالتأكيد، لأن الفرنسية كانت لغة المستعمر التي فيها وجه واضح للتنوير، كان تنويراً بطريقة محاربة المستعمر من أجل التحرير، فاللغة أداة للتحرير، لأن المستعمرين قرأوا بلغة الاستعمار الكتب التي علمتهم مفهوم الثورة والتحرر. فالفكرة الاستعمارية تحمل معها مقوضاتها، كما تقول نظرية ما بعد الاستعمار، أما لغة المحتل فهي لغة القتل فحسب، لغة التجهيل، لغة من أجل لقمة العيش في الجحيم تجعلك عاملاً لا عائداً كما يصف نور شهدي يومياته في رام الله. فالعبرية أحد مكونات القناع الذي يرتديه ليعيش في هذا الواقع المفروض عليه: "قناع يرتديه عندما كان يبيع طاقة عمله في الأسواق والميادين الصهيونية، حينئذ كان يشعر بالتعب الذي تحصل من خلاله على أجر جيد، لم يكن ليحظى بمثله في سوق العمل الخاص برام الله ونواحيها، ولم يكن يشعر بفداحة التناقض ما بين حكايات جده عن اللد، وعمله هو فيها عاملاً لا عائداً". يفصح اغتراب اللغة عن الحكاية، فللغة حكايتها، مثلما للصدفة التي جعلت ملامح نور شهدي أشكنازية، حكايات أخرى قادته إلى الغرب، وإلى الوطن المحرم، وإلى المركز، أي إلى بحر يافا.

سيتعرف في المركز إلى الامتيازات، أي سيكتشف فداحة وضع الهامش، وسيكتشف آلام الذات بصورة واعية، ويتعرف إلى امتيازات بطاقة الهوية الزرقاء التي تمنح المستوطنين الحرية والثروة والمعرفة والتسهيلات. يعثر نور القادم من مخيم في رام الله في سوق الخردة في يافا، على هوية إسرائيلية لصهيوني في الجيب الداخلي لجاكيت جلد أعجبه: "بطاقة هوية صهيونية زرقاء اللون من غير سوء". ولسوق الخردة دلالة مهمة، إذ حول المحتل هوية السكان الأصليين وممتلكاتهم وذكرياتهم إلى خردة، يمكن الفرجة عليها في سوق يافا الشهير. وتكمن اللعبة الفنية في الرواية في العثور على هوية مستوطن ضمن خردة السكان الأصليين، فتنقلب الأدوار لحظة ارتداء القناع، واكتشاف امتيازات العالم الجديد، عالم المركز. وتظل الدراما تنمو في النص بين نور شهدي وأور شابيرا، أي بين الهامش والمركز، وبين الحرمان والنعيم، لكن الوعي الذي أنتج ابن المخيم سيبقى فاعلاً. والوعي أشد المفردات إيلاماً، فهو الذي يذكر نور بهويته كلما وصل إلى التماهي مع المحتل، ويحرضه على المواجهة، ويذكر بالهوية الأصلية، ويمنع من الاستسلام للهوية الجديدة.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة