ملخص
أية خطوة نحو قيام دولة فلسطينية على أساس "حل الدولتين" تبدأ بإعادة الربط بين غزة والضفة.
وقف الحرب في غزة ليس نهاية الحروب في فلسطين والمنطقة، و"قمة شرم الشيخ" ليست أكثر من احتفال بفصل لم يُكتب بعد في كتاب اختار له الرئيس الأميركي دونالد ترمب عنوان "سلام الشرق الأوسط"، ومن المألوف سماع وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو يصف القمة بأنها "حدث تاريخي"، فما أكثر القمم والخطب والأحداث التي توصف بأنها تاريخية من دون التوقف أمام الفارق بين ما يصنع التاريخ وما يسجله التاريخ، ونحن اليوم على مسرح مبالغات من نوع تصوير العالم وكأنه يدور حول ترمب وغزة ومعجزة وقف الإبادة، بعد عامين من التوحش الإسرائيلي والحماية الأميركية لبنيامين نتنياهو، والمهم في النهاية هو الفعل، بصرف النظر عن كرنفال الرؤساء من حول ترمب، والأهم هو أن يكون صنع التاريخ تأسيساً للمستقبل.
ذلك أن العالم كما يراه فرنسيس فوكوياما قسمان، "تاريخي وما بعد تاريخي"، ومن الباكر بالنسبة إلى المؤرخين تحديد القسم الذي يوضع فيه ترمب، فهو كمقاول ومطور عقارات يهمه تجريد الجغرافيا من تاريخها لبناء ما يلغي ذاكرة المكان، وهو كرئيس ليس مولعاً بالتاريخ بل بالقفز من فوقه، وما يحاول فعله في وقت واحد هو فرض أميركا على العالم وإبعادها منه، كما في الكتاب الأخير للبروفسور الراحل جوزف ناي وروبرت كيوهان.
وإذا كانت لجنة جوائز نوبل قد تجاهلت إلحاح ترمب أن يُعطى "جائزة نوبل للسلام" بداعي أنه "أوقف سبع حروب" وأعطتها لمعارضة من فنزويلا، فإن كثيرين في الشرق الأوسط وأوروبا يراهنون عليه كلاعب وحيد يستطيع الضغط على إسرائيل لإنهاء حرب الإبادة في غزة، والتفاوض مع الرئيس فلاديمير بوتين على إنهاء حرب أوكرانيا التي بدأت بالهجوم الروسي، أما السلام فإنه يحتاج إلى لاعبين كثر دوليين وإقليميين.
والمعادلة معروفة، لا حرب غزة كانت حرب القطاع وحده، وأي حل لغزة وحدها هو الوجه الآخر للانقلاب الذي قامت به "حماس" عام 2007 وفصَلت به القطاع عن الضفة الغربية، وحكمها له عن السلطة الوطنية الفلسطينية، وأية خطوة نحو قيام دولة فلسطينية على أساس "حل الدولتين" تبدأ بإعادة الربط بين غزة والضفة، والسؤال هو: أي سلام يريده ترمب للشرق الأوسط؟ وأي شرق أوسط جديد أو قديم يراه الرئيس الأميركي على الخريطة؟
في مقالة تحت عنوان "نهاية الشرق الأوسط" كتب أستاذ العلوم السياسية والقضايا الدولية في جامعة جورج واشنطن مارك لينش "أن الشرق الأوسط لم يعد العالم العربي وإسرائيل وتركيا وإيران، كما هو على خرائط الجامعات والخريطة الأميركية"، وخريطة القيادة الوسطى "أكبر من خريطة الخارجية الأميركية، إذ تشمل أيضاً أفغانستان وجيبوتي وأرتيريا وإثيوبيا وكينيا وباكستان والصومال"، وحتى تعبير الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الذي تستخدمه "الخارجية الأميركية" في إطار المشاريع الطموحة لتغيير المنطقة، أوسع من اهتمامات الدول العربية وأضيق من مسؤوليات القيادة العسكرية الوسطى، فأين يبدأ وينتهي مشروع ترمب؟
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وليس قليل عدد الخبراء الذين يرون أنه ليس لدى ترمب مشروع إستراتيجي كامل مترابط ومتوازن يجري العمل له جدياً من دون تراجع، فالشرق الأوسط بالمفهوم الفرنسي والبريطاني منطقة بالغة التعقيد قبل الحديث عن المفهوم الأميركي الجديد، وأفكار ترمب تبسيطية وارتجالية أحياناً وأقرب إلى رد الفعل على مواقف منها إلى موقف أميركي ثابت، وأقوى العقبات أمام سلام الشرق الأوسط هي مشاريع ثلاث قوى إقليمية: مشروع "إسرائيل الكبرى" الذي يؤمن به نتنياهو، صديق ترمب، ومشروع "العثمانية الجديدة" التي يتمسك به الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، القريب من ترمب، والمشروع الإقليمي لإيران التي تقف في مواجهة أميركا قبل ترمب ومعه وبعده، فما العمل؟
المطلوب في البداية ثلاثة أمور أساس، أولها أن تؤمن إسرائيل بالسلام وتعمل له، فهي رافضة لقيام دولة فلسطينية وتحتل أجزاء من سوريا بعد الجولان، وقصفت وتقصف كل سلاح في سوريا تعتبره خطراً عليها، فضلاً عن أنها تحتل أجزاء من الجنوب اللبناني ولا تتوقف عن قصف أي هدف تتصور أنه تابع لـ "حزب الله"، ولا تزال تهدد بإكمال حرب غزة وحرب لبنان وحرب إيران، ولا أحد يعرف إلى أي حد يستطيع ترمب كبح جماح إسرائيل قبل الوصول إلى تطبيق "المبادرة العربية للسلام" التي خرجت من "قمة بيروت" عام 2003، وثانيها أن يتوقف أردوغان عن طموحاته التي أقلها مد حدود تركيا إلى حلب في سوريا والموصل في العراق، كما عن فرض النفوذ والوجود بالقوة العسكرية في شمال العراق وشمال شرقي سوريا وغرب ليبيا، وثالثها إيجاد حل مع إيران، إما عبر صفقة أميركية -إيرانية تتجاوز الملف النووي إلى إنهاء أذرع طهران في العراق ولبنان واليمن بعدما انتهت في سوريا، وتترك للنظام أن يتحول في الداخل من "قضية إلى دولة"، وإما من خلال سعي جدي إلى إنهاء النظام بضربة عسكرية قاصمة أو بدعم تحرك شعبي واسع معارض.
في خطة ترمب المؤلفة من 20 بنداً، جاء في البندين الـ 19 والـ 20 كلام عام حول "ظروف قد تتهيأ لمسار موثوق نحو تقرير المصير الفلسطيني وإقامة الدولة، وحوار بين إسرائيل والفلسطينيين تتولى الولايات المتحدة إطلاقه للاتفاق على أفق سياسي لتعايش سلمي ومزدهر"، وهذا أقل بكثير من كونه التزاماً يفرض العمل الجدي بكل ما لدى واشنطن من أوراق للتوصل إلى دولة فلسطينية لا سلام من دونها، ولا سلام أيضاً مع مشروع "إسرائيل الكبرى" والمشروع الإقليمي الإيراني، فضلاً عن أن السلام وحدة لا يكفي، فما تريده الدول العربية هو "نهاية الفوضى الإقليمية وليس فقط نهاية الصراع العربي - الإسرائيلي"، كما تقول مديرة "مركز الشرق الأوسط في كارنيغي" مهى يحيى.
وبحسب "برنامج الأمم المتحدة للتنمية" فإن إعادة بناء الشرق الأوسط تحتاج إلى ما بين 350 و650 مليار دولار، ونظراً إلى العقد والمصاعب التي أمامنا فإن كل فصل في سيناريو سلام الشرق الأوسط يحتاج إلى حرب، و"الدول وحوش باردة" كما كان يقول الجنرال ديغول.