ملخص
محللون لـ"اندبندنت عربية": صعود الذهب بنسبة 50 في المئة وتاريخي للأسهم يخلقان مشهداً متناقضاً يعكس فقدان الثقة في أدوات السوق التقليدية.
تشهد الأسواق المالية العالمية، منذ بداية العام الحالي تباينات حادة وغير مسبوقة أثارت قلق المحللين والمستثمرين على حد سواء.
فقد واصلت أسواق الأسهم صعودها الذي يبدو غير منطقي في بعض الجوانب، مدعومة بتدفقات السيولة الرخيصة المفرطة التي ضختها البنوك المركزية، على رغم سيطرة التوترات الجيوسياسية على المشهد الدولي.
ووفقاً لبيانات جمعتها "اندبندنت عربية"، تصدر الذهب قائمة أفضل الأصول أداء خلال عام 2025 حتى الآن، محققاً مكاسب تقارب 50 في المئة، مقابل تراجع مؤشر الدولار الأميركي بنسبة 10 في المئة.
أما مؤشرات الأسهم العالمية فقد سجلت ارتفاعات ملحوظة، إذ صعد مؤشر "ستاندرد أند بورز 500" بنسبة 13.8 في المئة، ومؤشر "داو جونز" بنسبة 9.5 في المئة، بينما قفز مؤشر "ستوكس يوروب" 50 بنسبة 14.5 في المئة، وارتفع مؤشر "داكس" الألماني بنسبة 20.7 في المئة، ومؤشر "فوتسي" 100 البريطاني بنسبة 10 في المئة، ومؤشر "كاك" الفرنسي بنسبة 7.2 في المئة.
وعلى الصعيد الآسيوي، زاد مؤشر "نيكاي" الياباني بنسبة 1.8 في المئة، ومؤشر "هانغ سنغ" في هونغ كونغ بنسبة 24 في المئة.
مشهد مثير للتساؤل
يثير هذا المشهد تساؤلات جدية حول ما إذا كنا أمام فقاعة أصول جديدة، أو مجرد رهان مبكر على تعافٍ اقتصادي لم تظهر مؤشراته القوية بعد.
كذلك يطرح الصعود المتسارع اختباراً حقيقياً لتحديد ما إذا كنا نتجه نحو دورة تصحيح مالي وشيكة، أم بداية موجة تضخم أوسع في أسعار الأصول.
ويقابل "الجنون" في أسواق الأسهم ارتداداً قياسياً للملاذات الآمنة وعلى رأسها الذهب، فصعود المعدن الأصفر بهذه الوتيرة لا يعكس فقط القلق من الأخطار الجيوسياسية، بل يمثل أيضاً مؤشراً واضحاً على فقدان ثقة المستثمرين في قدرة السياسات النقدية الحالية على إدارة التضخم المستقبلي، مما يدفعهم نحو التحوط بأدوات تتجاوز الاستثمارات التقليدية.
يشير الانتعاش في الملاذات الآمنة إلى أن جاذبيتها لا تقتصر على الأخطار الجيوسياسية، بل يعكس توقعات بتباطؤ اقتصادي عالمي حقيقي يلوح في الأفق.
أيضاً، يخلق المزيج بين الارتفاع الجامح للأسهم والتحوط القياسي في الذهب والسندات حالاً من الارتباك تتجاوز التقلبات العادية، فنحن أمام وضع يشير إلى تحول بنيوي في سلوك الأسواق، إذ تتشابك المخاوف من الانكماش مع ضغوط التضخم.
موجة غير مسبوقة
وفي السياق، شهدت السوق العالمية موجة غير مسبوقة من الاندفاع نحو الذكاء الاصطناعي، إذ تتسابق الشركات إلى إعلان استراتيجياتها في هذا المجال، بينما تتدفق رؤوس الأموال إلى الأسهم المرتبطة بالتقنيات الذكية، في سباق عالمي لبناء سلاسل توريد مستقلة ودعم التحول التكنولوجي السريع.
ودفع هذا الاهتمام الهائل بأسعار أسهم شركات التكنولوجيا إلى مستويات قياسية، خصوصاً تلك التي تقود تطوير الذكاء الاصطناعي أو تمكنه، فقد قفز مؤشر "ناسداك كومبوزيت" بأكثر من 27 في المئة خلال العام الماضي، مدفوعاً بتفاؤل المستثمرين بقدرة الذكاء الاصطناعي على خلق موجة جديدة من النمو الاقتصادي والابتكار.
لكن هذا الصعود السريع أثار مخاوف من فقاعة مالية محتملة، شبيهة بفقاعة الإنترنت مطلع الألفية، إذ ينقسم كبار المستثمرين حول ما إذا كانت التقييمات الحالية مبررة أم مفرطة.
ويرى بنك "غولدمان ساكس" أن الظروف الحالية تشترك في بعض سمات الفقاعات السابقة، مثل ارتفاع التقييمات والتركيز الكبير في عدد محدود من الشركات، لكنه يؤكد وجود اختلافات جوهرية تجعل المشهد أكثر تعقيداً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي مذكرة تحليلية حديثة، أوضح البنك أن سلوك المستثمرين اليوم يعكس حماسة استثمارية مشروعة تجاه التكنولوجيا، لكنه حذر من أخطار التركز المفرط في أسهم الذكاء الاصطناعي، داعياً إلى تنويع المحافظ الاستثمارية لتقليل أثر أي تصحيح محتمل في السوق.
وجاءت هذه التحليلات بعد أيام من تصريح الرئيس التنفيذي للبنك ديفيد سولومون، الذي حذر من احتمال تصحيح خلال العام أو العامين المقبلين، موضحاً أن الأسواق تمر بدورات طبيعية، وغالباً ما ترافق موجات الابتكار التقني حالات من المبالغة السعرية قبل أن تفرز الفائزين الحقيقيين والخاسرين في نهاية الدورة.
عودة "الخوف الذكي"
وتحدث ديفيد سولومون أيضاً، عن عودة "الخوف الذكي" في الأسواق، وهو ما يعكس إما توقعات جدية بانكماش عالمي جديد يفرض إعادة تموضع للرؤوس المالية، أو مجرد عملية تموضع استراتيجي نحو أدوات أكثر أماناً استعداداً لدورة اقتصادية غير مسبوقة.
أصول ثقيلة أم اقتصاد جديد؟
يجادل بعض بأن هذا المقياس لم يعد يعكس الواقع السابق، بسبب تحول الاقتصاد الأميركي نحو قطاعات أقل اعتماداً على الأصول الثقيلة وأكثر تركيزاً على التكنولوجيا والملكية الفكرية.
ويرى هؤلاء أن التقييمات الأعلى قد تكون مبررة في هذا الاقتصاد الجديد، ومع ذلك تبقى الأرقام صعبة التجاهل، فالمستوى الحالي عند 218 في المئة يسعر السوق أعلى من أي وقت مضى في تاريخه.
مرحلة معقدة وتناقضية
وأفاد محللون لـ"اندبندنت عربية"، أن الأسواق المالية العالمية تمر، منذ بداية العام الحالي، بمرحلة معقدة تتسم بالتناقض، إذ تحافظ المؤشرات إلى مسار صعودي مدعوم بفائض السيولة، على رغم وجود اختلالات هيكلية عميقة تثير القلق. ويعكس صعود الأسهم موجة تفاؤل، لكنه يتزامن مع طلب غير مسبوق على الذهب بعدما تجاوز حاجز 4000 دولار للأونصة، مما يعكس حال قلق دفين لدى المستثمرين، وسعيهم للتحوط وسط تصاعد عدم اليقين الجيوسياسي والاقتصادي.
ويؤكد المحللون أن الارتفاع المستمر في أسعار الأسهم يعود إلى تحولات هيكلية يقودها التوسع في قطاع التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي، الذي أصبح المحرك الرئيس للنمو في الأسواق.
ومع ذلك، ينبهون إلى أن التقييمات الراهنة تبدو مرتفعة بصورة مفرطة، وأن جزءاً كبيراً من التدفقات الرأسمالية يتجه نحو شركات لا تمتلك أساسات قوية، مما يؤدي إلى تكوين "فقاعات موضعية" أو "جيوب تضخمية" في السوق.
وفقاً للمحللين، يضع هذا التفاوت بين التقييمات والأساسات الأسواق على مسار غير مستدام، مما يجعلها أكثر عرضة لتصحيحات مفاجئة، وبخاصة إذا تراجعت السيولة أو تغيرت السياسة النقدية بصورة غير متوقعة.
تآكل الثقة في النظام التقليدي
لا يعكس الارتفاع القياسي في أسعار الذهب مخاوف التضخم فحسب، بل يشير أيضاً إلى تآكل الثقة في الأدوات المالية التقليدية مثل العملات والسندات. ويدفع هذا الاتجاه جزئياً بـ"تسليح" الغرب للنظام المالي من خلال تجميد الأصول وفرض العقوبات، مما دفع دولاً كبرى وعلى رأسها الصين إلى تسريع شراء الذهب وتنويع احتياطاتها بعيداً من الدولار.
ويعزز هذا الاتجاه توقعات الأسواق بأن الاحتياطي الفيدرالي الأميركي قد يتجه نحو تيسير السياسة النقدية، خلال وقت لا تزال فيه الضغوط التضخمية ماثلة، مما يجعل الذهب ملاذاً مفضلاً خلال المرحلة الراهنة.
تصحيح مرتقب وصحي
على رغم التحذيرات في شأن تضخم الأصول والمبالغات السعرية، يستبعد المحللون سيناريو الانهيار الحاد، مرجحين بدلاً من ذلك "تصحيحاً صحياً" يراوح ما بين خمسة في المئة و10 في المئة، معتبرين إياه إعادة تسعير طبيعية ومتأخرة في دورة السوق.
كذلك أشاروا إلى أن المرحلة المقبلة ستكون أكثر تقلباً، مما يستدعي من المستثمرين تبني استراتيجيات أكثر توازناً، تقوم على التنويع بين أسهم النمو المدعومة بأساسات قوية، والأصول الملموسة مثل الذهب، للحفاظ على توازن المحفظة وتخفيف الأخطار.
مفترق طرق
وقال الرئيس التنفيذي للاستثمار في "سنشري فايننشال" فيجاي فاليشا إن الأسواق العالمية تقف حالياً عند مفترق طرق حاسم، مدعومة بالسيولة الوفيرة لكنها مثقلة بهشاشات هيكلية عميقة، موضحاً أن مؤشرات الأسهم العالمية تسجل مكاسب كبيرة تزامناً مع الصعود القياسي للذهب، مما يعكس سعي المستثمرين للتحوط من الضبابية.
ورجح فاليشا أن يحدث تصحيحاً صحياً في أسواق الأسهم يراوح ما بين خمسة و10 في المئة، مرجعاً ذلك إلى ارتفاع التقييمات، إذ يبلغ مضاعف الربحية الآجل لمؤشر ستاندرد أند بورز 500 نحو 25.1 مرة، مقابل متوسطه التاريخي 16.8 مرة.
وشدد فاليشا على أن السيناريو المرجح ليس انهياراً، بل إعادة تسعير متأخرة في دورة السوق، تتسم بارتفاع التذبذب، وتحول التركيز نحو الطاقة والأصول ذات توزيعات الأرباح المستقرة.
تحول هيكلي
يعود الارتفاع المستمر في أسواق الأسهم، وفقاً لفاليشا، إلى تحول هيكلي جعلها أكثر تركيزاً على قطاع التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي، الذي يمثل اتجاهاً طويل الأمد، مع توقعات بأن تبلغ قيمة سوقه العالمي 4.8 تريليون دولار بحلول عام 2033.
وأضاف فاليشا أن الارتفاع المتزامن في الأسهم والذهب والسندات يشكل ظاهرة غير معتادة، لكن الأسواق تتكيف مع توازن جديد يتغير فيه مفهوم القيمة والأمان، مضيفاً بقوله "ستتسم المرحلة المقبلة بتقلب أعلى، ويوصي بالتنويع عبر استراتيجية ’الباربل‘، التي تجمع بين أسهم النمو عالية الجودة والأصول الملموسة كالذهب".
تحول عميق
وأكد رئيس استراتيجية السلع في "ساكسو بنك"، أولي هانسن، على أن الصعود القياسي للذهب يعكس تحولاً عميقاً في المزاج الاستثماري، وليس مجرد ضعف للدولار، لا سيما أن "تسليح" الغرب للأسواق المالية عبر العقوبات ومصادرة الأصول، أدى إلى تقويض الثقة في الملاذات التقليدية مثل الدولار وسندات الخزانة، مما دفع المستثمرين والصناديق السيادية نحو ملاذات مادية خارج النظام المالي القائم.
وأشار هانسن إلى أن البنوك المركزية حول العالم أضافت أكثر من 1000 طن من الذهب كل عام، وهي أسرع وتيرة تاريخياً.
وجعل هذا الطلب البنيوي الذهب أقل حساسية للتحركات قصيرة الأجل في العوائد الحقيقية، مما أدى إلى تراجع العلاقة التقليدية بين الذهب والعوائد الأميركية.
تصحيح مؤجل
بدوره، يقول كبير محللي الأسواق بالشرق الأوسط لدى "سكوب ماركتس" مهند ياقوت إن التناقض الحالي يشير إلى أن الأسواق قد تكون في منتصف دورة تصحيح مؤجلة، إذ تتجاهل تباطؤ النمو وضعف الإنتاج، في حين استمرار تضخم أسعار الأصول بموجة اضطراب أوسع، مؤكداً أن ما يحدث قد يكون بداية مرحلة أكثر تعقيداً لإعادة تسعير الأخطار.
وأضاف أن صعود أسواق الأسهم يعزز فرضية "الفقاعة الجزئية" وليست رهاناً على تعافٍ وشيك، مشيراً إلى انفصال واضح بين أداء الأسواق والواقع الاقتصادي، لافتاً إلى أن السبب الرئيس هو استمرار السيولة الوفيرة والتوقعات بخفض أسعار الفائدة، مما يغذي الأسهم على رغم التباطؤ.
وأوضح أن صعود الذهب القياسي يعكس فقدان ثقة المستثمرين في العملات الورقية بسبب السياسات النقدية المتساهلة، مشدداً على أن الذهب أصبح تحوطاً ضد تآكل القوة الشرائية، وليس فقط ضد التضخم أو الأخطار.
اهتزاز الثقة في النظام المالي
وأوضح الرئيس الاستشارات المالية بشركة "أزيموت للاستثمارات" أحمد مرشد، أن الأسواق العالمية تحاول حالياً الموازنة بين "نهاية دورة التشديد النقدي" و"مخاوف التباطؤ الاقتصادي، مشيراً إلى أن ما يحدث هو سلوك غير تقليدي، إذ ترتفع الأصول كلها (أسهم، ذهب، ومؤشرات) بصورة عامة، مما يستدعي حذراً أكبر وضرورة الاحتفاظ بسيولة أو أصول قابلة للتسييل لاقتناص الفرص المستقبلية.
وأضاف مرشد، أن الارتفاع غير المنطقي لأسواق الأسهم يشبه "الفقاعة"، إذ خرجت سيولة ضخمة من أدوات الدخل الثابت ودخلت في الأسهم بدافع "عدم وجود بديل".
وتابع مرشد، لا يعكس ارتفاع أسعار الأسهم أرباح الشركات بقدر ما يعكس تسعير التوقعات، أي إن السوق يتداول على "الأمل" وليس على النتائج الفعلية ويشكل هذا خطراً، إذ يجعل أي خبر سلبي بسيط كفيلاً بأن يهز المؤشرات بصورة حادة.
في المقابل يعكس انتعاش الملاذات الآمنة كالذهب "اهتزاز الثقة" ليس فحسب في السياسات النقدية، بل في قيمة العملات نفسها.
هناك بُعد سياسي وجيوسياسي مهم، إذ عادت فكرة امتلاك أصل ملموس لتصبح عاملاً نفسياً قوياً بعد الأحداث الجيوسياسية الأخيرة، وأصبح الذهب اليوم تحوطاً سياسياً ونفسياً، إضافة إلى الجانب المالي.
إغلاقات قياسية وسط إغلاق حكومي
يقول كبير استراتيجيي الأسواق في "نور كابيتال" محمد حشاد إن الأسواق الأميركية تسجل إغلاقات قياسية منذ بداية العام الحالي مدعومة بعوامل عدة، أبرزها صفقات الاستحواذ مثل تلك بين "أوبن أي آي" و"AMD".
وتتجاهل "وول ستريت" الإغلاق الحكومي الحالي، وهي حال غريبة لم نشهدها منذ أكتوبر (تشرين الأول) 1976، مروراً بالإغلاق عام 2019 الذي استمر 35 يوماً. وبدأت الأسواق تستوعب أن هذا الإغلاق موقت، وسيُتوصل إلى اتفاق بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي في نهاية المطاف.
مناطق تشبع وتركيز على الأساسات
أكد المستشار الاقتصادي طاهر مرسي أن الأسواق العالمية أصبحت أكثر نضجاً، ولم تهتم بالإغلاق الحكومي، بل تركز على خفض الفائدة والتضخم وتباطؤ سوق العمل وأرباح الشركات.
تعود عودة الدولار الأميركي للارتفاع إلى أمر طبيعي بعد أشهر من التراجع أمام سلة العملات الرئيسة، إذ وصلت إلى مناطق التشبع وتحولت إلى صعود تصحيحي.