ملخص
مولدوفا الصغيرة أحبطت حملة روسية واسعة استخدمت الإعلام، والهجمات السيبرانية، وتمويل الأحزاب لتقويض ديمقراطيتها، في معركة تمثل نموذجاً لصراع النفوذ بين موسكو وأوروبا. ومع أن كيشيناو صمدت، يبقى الخطر قائماً على جيرانها وفي مقدمتهم رومانيا، فيما يختبر بوتين تماسك القارة الأوروبية بأكملها.
انتهكت طائرات عسكرية روسية المجال الجوي للاتحاد الأوروبي الأسبوع الماضي، في اختبار لردود فعل الدول التي كانت في ما مضى تابعة للاتحاد السوفياتي. لكن في مكان أبعد جنوباً، اتضح للتو أن الروس قاموا بتدخل أخطر وأقرب، وقد جرى التصدي له.
تقع جمهورية مولدوفا الصغيرة في شرق أوروبا بين رومانيا وأوكرانيا، ووجدت نفسها منذ عقود عند مفترق مصالح جيوسياسية متنافسة. وعلى مدى الأعوام الـ10 الماضية، أصبحت الانتخابات البرلمانية فيها محط أنظار الداخل كما الخارج، ولا سيما موسكو التي تتعامل مع مولدوفا باعتبارها ساحة رئيسة في صراع النفوذ على أطراف الفضاء السوفياتي السابق. وتأتي الحملة الروسية للتأثير في الانتخابات المولدوفية ضمن استراتيجية أوسع ينتهجها الكرملين في المنطقة، تهدف إلى إعادة تشكيل المشهد السياسي وزعزعة الحركات المؤيدة للاتحاد الأوروبي والحفاظ على دائرة نفوذه القديمة.
ولا تنبغي الاستهانة بخطورة الأمر: فلو نجح الكرملين في مولدوفا الصغيرة، لكانت رومانيا، جارتها وعضو الاتحاد الأوروبي، الهدف التالي. وقد شهدت الأخيرة بالفعل تدخلاً روسياً أدى إلى إلغاء نتائج الانتخابات الرئاسية لعام 2024 بقرار قضائي، فيما لا يزال الجدل محتدماً حول احتمال "خروج رومانيا من الاتحاد الأوروبي".
إن الروابط التاريخية والثقافية التي تجمع مولدوفا بكل من رومانيا وروسيا جعلت منها ساحة فريدة في صراع النفوذ بين الطرفين. ومنذ استقلالها عن الاتحاد السوفياتي عام 1991، واجهت مولدوفا صعوبات في تحديد توجهها الخارجي، إذ ظلت تتأرجح بين السعي إلى الاندماج الأوروبي من جهة، والحفاظ على علاقات وثيقة مع موسكو من جهة أخرى. كما أن المشهد السياسي الداخلي فيها منقسم بشدة، بين أحزاب تدعو إلى التقارب مع الاتحاد الأوروبي وأخرى تفضل الانحياز إلى روسيا.
وبالنسبة إلى روسيا، تمثل مولدوفا أكثر من مجرد دولة مجاورة، فهي تعد محوراً أساسياً في مساعي الكرملين لاستعادة نفوذه على الفضاء السوفياتي السابق. وتتنوع مصالح موسكو هناك: من الحفاظ على الروابط الثقافية واللغوية، إلى حماية السكان الناطقين بالروسية، مروراً بالإبقاء على نفوذها في إقليم ترانسنيستريا الانفصالي ذي الأهمية الاستراتيجية الذي يعد عملياً قاعدة روسية داخل مولدوفا.
واتسمت الحملة الروسية الهادفة إلى التأثير في الانتخابات البرلمانية في مولدوفا بمزيج من الأساليب العلنية والخفية، مستفيدة من كامل أدوات ووسائل عمليات التأثير الحديثة.
وأظهرت الانتخابات البرلمانية في مولدوفا خلال العقد الماضي مراراً مدى النفوذ الروسي المستمر. ففي انتخابات عام 2019، على سبيل المثال، أغرقت وسائل الإعلام الروسية الفضاء الإعلامي في مولدوفا بسيل من التقارير التي ركزت على مزاعم الفساد بين السياسيين المؤيدين لأوروبا، فيما سعت إلى تعزيز مكانة الحزب الاشتراكي الذي ينظر إليه على نطاق واسع على أنه الشريك المفضل لموسكو. وأسهمت شبكات "البرامج الآلية" Bots (الحسابات الآلية المبرمجة لمحاكاة النشاط البشري عبر الإنترنت) ومزارع "المتصيدين" أو ما يعرف بالـ"ترولز"، في تضخيم هذه الروايات، مما خلق فقاعة إعلامية تعيد إنتاج الرسائل ذاتها وتضخمها، وامتد أثرها حتى إلى المناطق الريفية ذات الوصول المحدود إلى وسائل الإعلام المستقلة.
وبالمثل قبيل الانتخابات البرلمانية لعام 2021، استهدفت هجمات إلكترونية اللجنة المركزية للانتخابات، مما تسبب بتعطل موقت في أنظمة تسجيل الناخبين وأثار مخاوف من حدوث تلاعب بالتصويت. وأظهرت تحقيقات أجهزة الأمن في مولدوفا لاحقاً أن هذه الهجمات نفذت من قبل أطراف مرتبطة بالاستخبارات الروسية. وفي الوقت نفسه، تلقت الأحزاب الموالية لروسيا تبرعات ضخمة ومريبة، تتبعت السلطات جزءاً منها إلى حسابات خارجية مرتبطة بكيانات روسية، في إشارة إلى البعد المالي العميق لحملة التأثير الروسية.
والحزب الحاكم، حزب العمل والتضامن PAS، يتبنى موقفاً مؤيداً بقوة للاتحاد الأوروبي. لكنه واجه معارضة من تحالف يضم أحزاباً يمينية يعرف باسم "الكتلة الانتخابية الوطنية" BEP. وذكرت "هيئة الإذاعة البريطانية" (بي بي سي) الأسبوع الماضي أن هذا التكتل يحظى بدعم منظمة سرية مؤيدة لروسيا، تمول من قبل الأوليغارشي المولدوفي الخاضع للعقوبات، إيلان شور.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأدت الحملة الروسية المستمرة إلى تقويض صدقية المؤسسات الديمقراطية في مولدوفا. وتراجعت ثقة الجمهور بالعملية الانتخابية، وبات كثير من المواطنين يشككون في نزاهة الانتخابات وشفافيتها. وتغذي هذه الشكوك الإشاعات المستمرة عن شراء الأصوات وترهيب الناخبين والتلاعب في سجلاتهم الانتخابية. كما تعمق الانقسام داخل المجتمع المولدوفي على أسس جيوسياسية - بين الشرق والغرب - مما يجعل التوافق الوطني والحكم الفاعل أكثر صعوبة يوماً بعد يوم.
ويعد وجود القوات والأسلحة الروسية في إقليم ترانسنيستريا تذكيراً دائماً بمدى هشاشة مولدوفا أمام الضغوط الخارجية. فالوضع غير المحسوم للإقليم يمنح موسكو وسيلة جاهزة للتدخل كلما بدا أن السياسة المولدوفية تبتعد من مدار نفوذها.
وعبرت مايا ساندو، رئيسة مولدوفا والزعيمة البارزة ذات التوجه الأوروبي، عن خطورة هذا التحدي في خطاب ألقته عام 2022، قائلة: "نحن نواجه محاولات غير مسبوقة من قبل جهات خارجية لتقويض مجتمعنا وديمقراطيتنا. إن صمود شعبنا ومؤسساتنا يخضع لاختبار صعب، لكننا ما زلنا ملتزمين بمستقبل ديمقراطي وأوروبي لمولدوفا".
وتشكل الحملة الروسية للتأثير في الانتخابات البرلمانية في مولدوفا نموذجاً مصغراً لاتجاه أوسع في أوروبا الشرقية، حيث تسعى أطراف خارجية إلى تشكيل السياسات الداخلية عبر مزيج من القوة الناعمة والحرب الهجينة والإكراه غير المباشر. وبالنسبة إلى مولدوفا، لا تقتصر حماية الديمقراطية على إصلاحات تقنية، بل تتطلب أيضاً تجديد الالتزام بالشفافية والمساءلة والمشاركة المدنية. صحيح أن الشركاء الدوليين يمكنهم تقديم الدعم، إلا أن مدى قدرة المؤسسات المولدوفية على الصمود سيبقى العامل الحاسم في تقرير ما إذا كانت البلاد قادرة على مقاومة التدخلات الخارجية ورسم مسارها المستقل.
ويبرهن فوز حزب العمل والتضامن الأسبوع الماضي على أن الناخبين أدركوا حجم الأخطار واتخذوا قراراً حاسماً. لكن علينا أن نأمل في أن تستخلص رومانيا الدروس من هذه التجربة، وتتعلم من جارتها الصغيرة أن اليقظة والإصلاح والوحدة هي الركائز الأساسية لمواجهة الضغوط الخارجية المستمرة. فمصير الديمقراطية الأوروبية معلق على خيط رفيع، تحدده ليس إرادة مواطنيها وحدهم، بل أيضاً اليد الخفية لفلاديمير بوتين الساعية إلى إحياء الاتحاد السوفياتي.
السير نك هارفي وزير دولة سابق لشؤون الدفاع والرئيس التنفيذي للحركة الأوروبية التي أسسها ونستون تشرتشل لتعزيز الوحدة الأوروبية
© The Independent