Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

صحافيو غزة... الهلاك يطاردهم في كل تقرير وصورة

عامان على الحرب… أقف خلالهما حائراً بين عملي الصحافي ورسالتي بعد مريم وبين مطالب أسرتي اليومية

ملخص

ربما استطاعت إسرائيل تدمير القطاع وخلق بيئة غير مناسبة للعيش، ولكنها لم تستطع قتل حب الغزيين لأرضهم، حياة الغزيين في ظل الحرب تحولت إلى حياة بدائية تشبه ما قبل اكتشاف الكهرباء والبترول.

لم تكن هذه حرباً عادية بل محرقة تسحق كل الغزيين… الصحافيون يعيشون العذاب كله وإليكم شهادة حية عن حياتنا خلال عامين من الموت.

في 26 أغسطس (آب) الماضي، كنت أستعد لقضاء يوم مع أسرتي الصغيرة، فكثيراً ما انشغلت عن عائلتي في فترة الحرب، ومهمة أن تكون أباً صحافياً تعمل في منطقة قتال خطيرة هي مهمة قاسية وصعبة. وبينما كنت أمازح طفلتي وأطلب منها الاستعداد للخروج وسط أكوام الركام لعلنا نجد مكاناً نلتقط فيه هواء غير ممزوج برائحة البارود، تلقيت أول اتصال هاتفي كان فحواه "مريم أبو دقة، ارتقت ضحية لقصف إسرائيلي على مجمع ناصر الطبي في خان يونس".

وقفت مصدوماً لبضع ثوانٍ أفكر في ارتقاء مصورة "اندبندنت عربية"، ومن دون وعي حملت صغيرتي قبلتها كثيراً حضنتها بقوة وكأني أودعها، ثم انطلقت متجهاً من مدينة غزة إلى جنوب القطاع حيث مكان إقامة عائلة مريم أبو دقة، نادت علي طفلتي بصوت رقيق "بابا… هل نسيت الوعد الذي قطعته لي، متى سنخرج؟". لكني التزمت الصمت أمام طفولة بريئة تستحق العيش بسلام وأمان وفرح.

لا خطوط حمر

كثيرة هي المواقف الصعبة في الحرب الإسرائيلية المدمرة على غزة، وتزداد هذه المواقف قساوة عندما تكون صحافياً تخالط مجتمعاً جائعاً ومنهكاً وفقيراً، وترصد قصفاً وتوغلاً للجيش وخطراً قد يودي بحياتك في أي لحظة. ولكن أصعب هذه المواقف في تلك المحرقة كان لحظة وداع زميلتي العزيزة مريم أبو دقة رحمها الله.

عندما بدأت الحرب في غزة، فهمت من مشهد البداية ألا خطوط حمر وأن زلزالاً وبركاناً سيضربان القطاع بلا رحمة، وكنت على يقين بأن قتالاً من دون قواعد سيجتاح القطاع وستسقط أعداد كبيرة من الضحايا، فالعمل الصحافي في غزة لأعوام منحني خبرة جيدة في فهم مجريات العمليات العسكرية.

للصراحة، لم يخطر ببالي أن تمتد هذه الحرب لأشهر طويلة ومتعبة وشاقة، اليوم يمر عامان على بدء القتال، لم تهدأ المدافع خلالهما على رغم أن الأرض ارتوت بما يكفي من الدماء والبطون جاعت حد الموت والمصابين ذاقوا الألم من دون مسكنات تخفف عنهم، وعلى رغم كل هذا لا يزال القتال الذي يبدو حالياً أنه من طرف واحد مستمراً ويحصد ضحايا ويزيد المعاناة.

تقبض الروح

عندما بدأت الحرب وهممت لمغادرة البيت صوب المستشفى، المكان الذي اعتاد الصحافيون العمل فيه لرصد الضحايا ومقابلة المسؤولين الطبيين لتوافر الكهرباء والإنترنت، أوقفتني زوجتي، وطلبت مني التوقف عن العمل الصحافي، لكني شعرت أنها تقبض روحي، وسألتها "كيف سأعيش من دون كتابة؟".

مضت أيام الحرب ثقيلة وموجعة وقاسية لدرجة كبيرة وتحمل في طياتها معاناة لا توصف واختبارات لا طاقة لي على تحملها، ولكن عملي كمراسل صحافي من غزة لـ"اندبندنت عربية" جعلني أقف في مفترق طرق صعب جداً.

المعلومات الصحافية نأخذها من مصادرها، وفي غزة مصادر المعلومة هم الأطباء وقيادات الفصائل والجهات الحكومية والمواطنون وشهود العيان والمؤسسات الدولية، ولكن الوصول لهذه الفئات لم يكن بالأمر السهل، فالقصف استهدف جميع هؤلاء ودفع البقية للاحتماء من الموت وليس من السهل الوصول إليهم حتى لو كانت شبكة العلاقات الاجتماعية قوية معهم.

جهد مريم

اعتدت في "اندبندنت عربية" تعزيز أي تقرير صحافي بوجهات نظر كل الأطراف، وكان لا بد من إجراء مقابلات مع مسؤولي الفصائل، وشكل غيابهم عن الساحة مصدر قلق لي، فكيف من دونهم سنصل للمعلومة وننفرد في كتابة تقارير غنية بمعطيات خاصة لا مجرد رصد ميداني وسرد.

بذلت زميلتي العزيزة الراحلة مريم أبو دقة جهداً مضاعفاً في إجراء مقابلات مع الباحثين السياسيين والكوادر الطبية وحاولت دائماً مساعدتي في إجراء تصريحات مع قيادات الفصائل، وكان لغيابها أثر كبير حتى في نوعية ومضمون التقارير التي كتبتها بعد رحيلها.

على مدار الأشهر الـ24، عشت بلا كهرباء في بيتي ومكان نزوحي، الحياة من دون تيار كهربائي لصحافي تعني عجزاً مضاعفاً، عندما استيقظ عند السابعة صباحاً أذهب لإعادة شحن هاتفي وجهاز الحاسوب المحمول والكاميرا، ويستغرق ذلك وقتاً في الانتظار، كل ذلك لأجل الرسالة التي يجب أن أفيد القراء بها.

دور الأب

في الوقت ذاته، أعيش دور الأب الذي يتوجب عليه توفير المياه للاستخدام المنزلي تلك الصالحة للشرب والطحين وبعض الأغذية القليلة المعروضة في السوق، وأحملها لأطفالي. لا أنكر أنهم جائعون مثل بقية صغار غزة، وفي خاطرهم الكثير من الأشياء التي يحلمون بتناولها ولكنه ليس العجز وإنما هذا ما فرض علينا.

فور انتهاء إعادة شحن أدوات الصحافة، أنطلق لأتواصل مع مريم أبو دقة ونتناقش في الموضوع الذي سنصور عنه ونكتبه، ويا لها من مهمة شاقة، كيف سنختار الفكرة من بين 1000 مقترح وقصة كلها مهمة وتعيشها غزة بالويلات.

كل تقرير نكتبه يرفق حتماً بصور نلتقطها، ويدمج بالحسرة على ما وصلت بنا الحال خلال حرب تخطت العامين أمام أعين العالم الذي يشاهد إبادة الإنسان والعمران، وتعرض حياة المدنيين كما الصحافيين لخطر موت يتربص بنا جميعاً.

ناج وربما ناقل للحدث

في مشهد يبدو غاية في التعقيد، أكابد أنا وزملائي الصحافيون أثناء تغطياتنا الإعلامية، ونعيش ظروفاً استثنائية تحشرنا ما بين ناج وشاهد وناقل للأحداث بالصوت والصورة الحية. وكنت برفقة مصورتنا الراحلة مريم أبو دقة من بين عشرات الإعلاميين الذين لم يترددوا يوماً بنقل الحدث.

هي تستعين بعدسة كاميرتها لتوثيق الأحداث على خطوط النار بالصورة الحية ونقلها إلى العالم. وثمة ما نفكر به أثناء عملنا الميداني، إنها أشياء بسيطة مثل النجاة وحماية عائلتي وخوفي عليهم من الاستهداف، وبين حرصي على توثيق الإبادة الجماعية التي يتعرض لها أبناء شعبي في غزة وضعف الإمكانات.

نعمل في "أخطر مكان في العالم بالنسبة للصحافيين وأسرهم"، كما وصفته الأمم المتحدة، وبالنسبة لي القيام بمهمة الصحافة في غزة، ليست مجرد وظيفة تقنية، بل هي مجابهة يومية مع عوائق قاسية تتطلب إرادة فولاذية وعزيمة على نقل الصورة الحقيقية للعالم على رغم العراقيل كافة.

قرارات سريعة

تبدأ المهمة في أجواء محفوفة بالأخطار والتحديات من حيث الاستعداد لنقل الحدث والتأكد من أن كل المعدات جاهزة وبحالة جيدة للعمل، أما الأمان الشخصي فيبقى الأولوية القصوى، على رغم القصف والتدمير، ونعمل على نقل الوقائع بأمانة وصدق وبشكل صريح، وذلك يتطلب تركيزاً ومهارات فنية عالية.

تفرض علينا الحرب أن نتنقل بين المواقع بسرعة وحذر، ونتحدى الظروف التي قد تؤدي لتلف المعدات أو فقدانها، وعلى رغم ذلك خسرت جهاز الحاسوب المحمول ما اضطرني إلى الكتابة بواسطة الهاتف لفترة من الزمن نظراً لعدم توافر هذه المعدات.

دائماً ما تكون هناك حواجز أو مناطق خطرة لا يمكن تجاوزها بسبب القتال الدائر، وهذا يضعني في مواقف تتطلب قرارات سريعة لتحديد إما المخاطرة أو الرجوع، ونواجه تحديات تتعلق بقلة توافر الوقود اللازم للتنقل واستخدام المركبات والوصول إلى الإنترنت، وهذه العراقيل تؤثر بلا شك سلباً في سرعة الاستجابة للأحداث الجارية وإيصال التقارير والصور.

مواقف لن أنساها

أحياناً نبقى 24 ساعة بلا نوم لإرسال المواد في وقتها، وعلى رغم أننا نخرج مرتدين الزي الصحافي والخوذ، وأحرص أن تفعل مريم أبو دقة ذلك وأتأكد بنفسي من هذا، لكن إسرائيل استهدفت عشرات الصحافيين، والحقيقة أنه في كل مرة نسمع خبر استهداف صحافي وتوقف كاميرته أشعر بحزن وإحباط.

كثيراً ومراراً فكرت بالتوقف عن التغطية الإعلامية والبقاء مع عائلتي، لكنه سرعان ما أعود لأن الجيش الإسرائيلي يسعى إلى فرض هذا الواقع، أي التعتيم الإعلامي، والسبب وراء تفكيري في التوقف هو كمية المشاهد الأليمة التي انطبعت في ذاكرتي.

هناك صور ومواقف يصعب نسيانها، وأكثرها التصاقاً بوجداني، مقابلتي مع أم غزية مفجوعة بمقتل أولادها، كانت تصرخ وتقول "أولادي ماتوا جوعانين".

وشهادة أخرى لا أنساها أبداً، عندما أجريت مقابلة مع ناجين من شمال غزة، وحينها أبلغني أحدهم عن تعرضه للتعذيب والتنكيل والتهديد من قبل جنود إسرائيليين باغتصاب زوجته وبناته، حينها أجهشت بالبكاء، فالصحافي قبل كل شيء هو إنسان له مشاعر.

ربما استطاعت إسرائيل تدمير القطاع وخلق بيئة غير مناسبة للعيش، ولكنها لم تستطع قتل حب الغزيين لأرضهم، حياة الغزيين في ظل الحرب تحولت إلى حياة بدائية تشبه ما قبل اكتشاف الكهرباء والبترول، الطبخ يكون على الحطب الذي نحتاج إلى شرائه والغسيل يتم يدوياً أما صناعة الخبز فتكون في فرن الطين.

طوابير

كصحافي في غزة أرصد الأحداث، سجلت عذابات أشخاص لا يرتدون أحذية وأصبحت معتاداً جداً على رؤية الناس حفاة أو بأحذية مهترئة، لاحظت مع طول فترة الحرب وكثرة النزوح والغلاء الفاحش وانقطاع الرواتب وإغلاق البنوك، أن الناس يعيشون في فقر مدقع ويعيشون على المعونات والمساعدات، وأصبح الغني والفقير سواسية في انتظار المساعدات والبحث عنها.

لا ينفع المال في غزة، الكثير من الرواتب لا تستطيع شراء المستلزمات الأساسية، لذلك يشعر المواطن الغزي بالقهر والإذلال، علاوة على ذلك، فإن أوضاع المرضى صعبة في القطاع نتيجة انعدام المنظومة الصحية وتدمير المستشفيات وعدم توافر الأدوية لكثير من الأمراض المزمنة والأوبئة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

في أغلب الأحوال أصطف مثل الناس في طوابير لساعات، وتتخلل هذه الساعات مشاحنات ومعارك حتى يحافظ كل واحد على دوره في الحصول على المياه، ويتشارك كل الغزيين في الوقوف في طوابير المياه، فلا يوجد شخص معفى أو لديه مياه تصله من دون حمل الغالونات، فمثلاً الطبيب يصطف في طوابير المياه مثل غيره قبل الذهاب إلى عمله في المستشفى.

أقضي وتقضي الأسر أيامها في الأعمال الشاقة، فقبل الحرب لم تكن تستغرق هذه الأعمال أكثر من ربع ساعة، لكنها في ظل الحرب أصبحت تحتل اليوم كله، في الاصطفاف بطوابير متعددة، طوابير المياه الحلوة وطوابير المياه المالحة وطوابير لطلب المساعدات وطوابير لدخول الحمام والاستحمام وطوابير للخبز وطوابير أمام المطابخ المجتمعية.

أما النزوح المتكرر، فهذه قصة مختلفة ومعاناة تعجز عن وصفها الكلمات، النزوح يكلف مبالغ مالية هائلة تزيد على 1300 دولار للانتقال مسافة لا تتجاوز 10 كيلومترات، إن هاجس النزوح صار شبحاً يراودني في كل يوم.

مر عامان جحاف كانت خلالهما الظروف قاسية إلى حد لا يحتمل بظل انعدام الأمن وغياب الخدمات الأساسية وانعدام المأوى، حتى أني اضطررت ليلة للنوم في العراء. بصراحة أكتب وأنا أعاني نفسياً وجسدياً، ولكن لا يزال هناك أمل في أن تنتهي هذه المحرقة وأكون من بين الناجين أنا وجميع زملائي الصحافيين وأسرهم.

المزيد من تقارير