Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

العودة إلى وهران أو موت مدينة جميلة  

البنايات كالبشر لها أرواح مجنحة

قبالة الكاتدرائية التي تحولت مطلع الثمانينيات إلى مكتبة بلدية كان هناك مقهى اسمه "مقهى عدن" (رويترز)

ملخص

صوت الجوق يقول: إن مدينة أخرى، وهران جديدة، جميلة مليئة بالحياة قد نبتت في الجهة الشرقية، جهة بئر الجير وكاناستيل، مدينة على إيقاع زمن وهراني آخر

وهران لا تموت، إنها كطائر الفينيق تطلع من رمادها!   

مدينة وهران مدينة كوسموبوليتية بامتياز.

سوسيولوجياً وعمرانياً، تشبه مدننا في فوضاها مقابرنا! قبور فوق قبور، قبور متداخلة مع أخرى، وكأن الأموات يعيشون مثل الأحياء في أحياء عشوائية، الغريب أننا نطلق على المقبرة اسم "المدينة"! العالم بالنسبة إلينا مقسم إلى قسمين: مدينة الأحياء ومدينة الأموات.

ها أنذا أعود إلى مدينة وهران مفعماً بشغف حارق للقاء الأمكنة والأصدقاء، للقاء السماء والبحر والسفح والجبل، للمشي في الشوارع الكبيرة والأزقة الضيقة والاستمتاع بالاستماع إلى اللهجة الوهرانية البديعة: "واهْ" "قارعْ".

موسيقى "الراي" الحارة، تنطلق من نوافذ السيارات ومن المقاهي والمطاعم، من دون توقف، ليلاً ونهاراً.

الوهراني إنسان يحب الحياة.

الوهراني إنسان يحب الغريب.

لا غريب في وهران، من دخل المدينة فهو من أهلها.

أقف في وسط المدينة، أشعر برغبة مدوخة إلى الطواف في شوارعها وأزقتها، أمشي سبع مرات ذهاباً وإياباً في شارع العربي بن مهيدي الرئيس، أمشي وحيداً، أحب المشي في هذا الشارع عند الساعة الرابعة زوالاً، ساعة الذروة، حيث يتدفق الوهرانيون فرادى وجماعات إلى وسط المدينة، أمشي، أتأمل البنايات الكولونيالية بعمرانها ذي الطابع الهوسماني وقد شاخت قليلاً أو كثيراً، أصبحت تشبه نساء جميلات هرمن ولكنهنّ ظللن يحتفظن ببقايا جمال فاتن يفضحهنّ في حركاتهنّ وفي نظرات عيونهنّ، أقواس الشارع الرئيس التي كانت مفخرة المدينة وأهلها تعبت أكتافها وكأنما أصبحت لا تستطيع حمل ما فوقها من إهمال ومن زمن.

البنايات كالبشر لها أرواح مجنحة.

أقف في ساحة الانتصارات Place des Victoires مقابل مخبزة علال الشهيرة والتي أصبحت أثراً بعد عين، اختفت المخبزة، رائحة الخبز الطازج المنعشة التي لطالما ملأت المكان عند الصباح الباكر كما عند الظهر تبخرت نهائياً، تغير نشاط المحل ليصبح مخصصاً لبيع الـ "لا شيء"، رحل السيد علال الرجل الأنيق واستولت على المحل حالة من التوحش التجاري الغريب.

الوهراني عاشق للجمال.

الوهراني دمه من موسيقى.

في شارع ألفريد دو موسي الذي يفتح من جهة الجنوب على ساحة الانتصارات، ومن جهة الشمال على السوق المسقوفة (مارشي ميشليه) حيث بائعو الورود المدهشة يعرضون فتنتهم على الرصيف، بهذا الشارع  الموازي لشارع لامارتين كانت تقيم الشاعرة ربيعة جلطي، تعرف وهران اختيار أسماء شوارعها وبناتها، من بعيد أراقب الشاعرة ونحن طلبة، مساء أركب حافلتها يومياً من جامعة "السانيا" الواقعة على أطراف المدينة حتى قلبها، مَنْ يسكن قلب مَنْ، ربيعة تسكن قلب المدينة أم وهران هي التي تسكن قلب الشاعرة، كنت أتبعها كل يوم حتى وسط المدينة ثم أعود إلى غرفتي بالحي الجامعي، وذات يوم بدلاً من أن تتوقف بنا الحافلة في وسط المدينة توقفت بنا في قلب الحياة، فتزوجنا، ومنحتها وهران ثلاثة أطفال لينا وإلياس وهزار، ومنحتنا أشعاراً وروايات وأصدقاء وأسفاراً، وحين هجم على المدينة غول الإرهاب وتم تفجير سيارتنا وأطلقوا علي النار وحاولوا اقتحام شقتنا علينا ليلاً، على عجل جمعنا بعض أغراضنا وغادرنا المدينة، من وهران الصاخبة إلى أخرى صامتة خلف البحر في الشمال، لكن حين وصلنا مدينة الضيافة كان Caen بنورماندية وفتحت ربيعة الحقائب كانت وهران موجودة مع الكتب وألبوم الصور.

أتقدم في شارع العربي بن مهيدي، أتذكر أستاذي الدكتور أحمد بلبشير الذي كان يقيم ها هنا، عند ساحة النصر، كنت كلما عبرت الشارع في مثل هذا الوقت إلا وأصادفه يمشي وحيداً بهدوء مشية الحكيم، كنا نسميه دالاي لاما وهران، أمشي وأتذكر أيضاً الدكتور نور الدين فارس أستاذ المسرح بجامعة "وهران" الذي يحلو له، في مثل هذا الوقت، أن يضع قبعته الإنجليزية، يحمل قرناً ملفوفاً من الكاغط مملوء بالكاوكاو، يقرمشه ويخطو وحيداً، يمشي وهو في حالة تشبه الغياب الصوفي، وكأنما يستعيد لحظات هاربة من الحياة في شارع المتنبي ببغداد التي هجرها هروباً من ملاحقة الديكتاتور.

أمشي في الشارع وأعد قاعات السينما العديدة التي شاهدت فيها وأنا طالب جامعي مئات الأفلام من كل الحساسيات الجمالية والفكرية؛ الأفلام الإيطالية والأميركية والفرنسية والهندية والمصرية والجزائرية، وقتها كانت لبطاقة الطالب الجامعي سلطة كبيرة إذ يحق لنا من خلالها الحصول على خصم يقدم بـ 50 في المئة من سعر التذكرة، صالات عرض لطالما أسعدتني: صالة المغرب والكوليزي والمرجاجو وأفريقيا والأطلس واللانكس والفتح وبالزاك وموناكو والإسكوريال وباريس والريكس والرويال... لا تزال صورة السيدة التي تتولى مهمة توصيل وتوجيه المتفرجين إلى مقاعدهم المرقمة تسكن ذاكرتي، امرأة جميلة تحمل في يدها مصباحاً يدوياً خفيف الإضاءة، تفوح من ثيابها رائحة عطر خفيف، تمشي على كعب عال من دون أن تحدث صوتاً حتى لا تزعج المشاهدين، كانت تمشي أو تحلق، لست أدري؟

لظلام صالات السينما هيبة ما.

اليوم، أغلقت الصالات كلها يا صاحبي، أو كادت، نزل الباب الحديدي المرعب على تاريخ من متعة الفرجة والتفرج، شاخت الأبواب، تهاوت المقاعد التي احتضنت العشاق والأصدقاء والأحباب والمناضلين والعائلات.

يبكي المكان كما يبكي البشر.

تبكي الصالات دموعاً لا يفقهها إلا من أدرك متعة الصورة وخشوع المكان.

في آخر الشارع، ها هناك، كان مقهى المنصورة حيث تلتقي نخب المدينة وضيوفها، من الأساتذة والصحافيين والكتاب والطلاب، نقاشات حارة وقراءات شعرية مرتجلة وقهوة ساخنة وحلم دافئ بعالم جميل لنا وللبلد وللأجيال القادمة.

كان للقهوة أريجها الخاص وللفنجان الخزفي المزوق حضوره السلطاني!

اختفى مقهى المنصورة، وتفرق الأصدقاء وساد الصمت القاتل بين الجدران، مسخت المقهى، حولوها إلى محل لبيع الملابس أو الأثاث، المكان حزين وبارد الزوايا؟

هذه الأماكن الكبيرة، أماكن الذاكرة الجماعية، ليست ملكاً خاصاً لمالكيها إنها لنا جميعاً، إنها نحن أو جزء منا.

أتقدم قليلاً في الشارع ذاته، شارع العربي بن مهيدي، أقف عند مقهى البدر، ها هناك في طابقها العلوي، أسسنا ذات يوم بعيد ونحن طلبة "جمعية الفجر الأدبي"، كانت أول جمعية أدبية في وهران، كانت أحلامنا بعلو السماء أو بسقف قصيدة، لا يزال المقهى في مكانه لكنه لا يشبه نفسه أبداً ولا يشبهنا.

فقد المكان ذاكرته، ففقدنا وفقدناه.

كانت جامعة "وهران" مؤسسة طليعية جمعت أبرز أساتذة العلوم الاجتماعية، من الطيب تيزيني إلى قويدر ناير إلى سهيل فرح ومحمود الزعبي ومحمد ملفي عبد الكريم العايدي وبخاري حمانة وخضر زكريا وجمال قريد ونذير معروف وهواري تواتي وهوار عدي وحسن رمعون ورابح السبع وبنخيرة...

أواجه "الكريديش" CRIDICH (مركز البحث والإعلام التوثيقي في العلوم الاجتماعية والإنسانية)، هذا الفضاء كان منصة للنقاش والندوات والمحاضرات سنوات طويلة، مفخرة المثقفين من الكتاب والجامعيين والصحافيين بوهران، أتذكر الباحث المرحوم الدكتور عبد القادر جغلول الذي أدار المركز، سنوات، فصنع منه منارة فكرية جزائرية ومغاربية ومتوسطية وعالمية، على منصته تحدثت أهم الأسماء في الفلسفة والفكر والنقد واللسانيات والعلوم السياسية والأدب من محمد أركون مروراً بعبد الوهاب مؤدب وفتحي بن سلامة وحسن حنفي ووليد فارس وفرحان صالح والطاهر جاووت وكاتب ياسين  ورشيد ميموني وربيعة جلطي ومخلوف عامر ومحمد بهلول ومحمد عبو والحبيب السائح ويوسف سبتي ويوسف مراحي وعمر أزراج وعمار يزلي ومحمد داود ومحمد زتيلي... كتاب بالفرنسية وآخرون بالعربية في نقاش هادئ يجمعهم حلم صناعة بلد جميل يكون سقفاً للسعادة والعدالة والحرية والسلام.

اليوم، المركز مغلق أيها السادة، نعم مغلق، عتبته تحولت إلى ما يشبه مبولة عمومية ومدخله مكاناً لرمي النفايات العشوائية ومبيتاً للمهلوسين والضائعين والضالة.

أتأمل شبح هذا المركز المخيف، يحزنني ما آلت إليه حاله، وأصرخ في داخلي بحدة: من يا ترى سيعيد فتح أبواب هذه المؤسسة ويعيد لوهران نقاشاتها العالمة العالية؟

 دمعة ساخنة تسقط!

الرحمة لعبد القادر جغلول مثقف الأحلام الكبيرة.

قبالة الكاتدرائية التي تحولت مطلع الثمانينيات إلى مكتبة بلدية، لكنها ظلت هزيلة ومن دون وصاية واضحة، هذه البناية التي تعود إلى نهاية القرن التاسع عشر تعد تراثاً وطنياً مادياً عمرانياً استثنائياً وثميناً، قبالة الكاتدرائية، كان هناك مقهى اسمه "مقهى عدن"، كنا نلتقي فيه، الكتاب والصحافيون وأساتذة الجامعة والنقابيون والفنانون والطلبة العرب من اليمن الجنوبي وفلسطين، هؤلاء الطلبة الذين التحقوا بجامعة "وهران" بعد أن تم طردهم من الجامعات المصرية على إثر زيارة أنور السادات القدس وتوقيع اتفاقيات "كامب ديفيد"، اندثر اليمن الجنوبي وقتل عبد الفتاح إسماعيل وتفرق رفاقه وذهب مقهى عدن أيضاً، غادر المكان الجميل مكانه، لقد تحول مقهى عدن إلى محل لبيع الأحذية.

أشعر بالبرد القارس يسكن روحي.

على بعد بعض خطوات من "مقهى عدن" أو ما كان بمقهى، يوجد أشهر استوديو للتصوير الفوتوغرافي بوهران يحمل اسم الشاعر الكبير لويس أراغون، تعرف وهران اختيار أسماء لمحلاتها! حزيناً أقف عند قدم البناية التي كان يوجد بها الاستوديو، في الطابق الأول، تهاوى المدخل وانهارت السلالم وسقطت الآرمة وانطفأت أضواء الاستوديو وما عاد العرسان ولا العشاق ولا الشباب يزورون المكان لأخذ صورة لتخليد ذكرى عزيزة.

أبحث عن وهران في وهران؟

أبحث عني؟

رحل كثيرون من مثقفي المدينة، بعضهم إلى العالم الآخر وبعضهم إلى جغرافيات أخرى، تفرقوا: رحل الدكتور عبد الملك مرتاض وهو الذي ملأ المدينة أكثر من نصف قرن، في الجامعة وفي اتحاد الكتاب وفي الإذاعة وفي مديرية الثقافة، اختفت قهقهة مرتاض، وأناقته وحبه الغامر للأدب وللحياة.

رحل القاص عمار بلحسن مبكراً، مثقف ذكي، طويل القامة جسداً وطويل القامة إبداعاً قصصياً، كان أطولنا قامة وأبدعنا جميعاً في كتابة القصة القصيرة، وهران من دون عمار بلحسن تشبه مدينة بلا قصة وبلا حكاية.

أستمع للإذاعة الجهوية، إذاعة الباهية، على أمواجها ترتفع أصوات غريبة، زعيق، وأتذكر صوت المرحوم المؤرخ الدكتور يحيى بوعزيز يصدح عند الفجر متحدثاً عن تاريخ المدن والحواضر من العهد النوميدي إلى الفتح الإسلامي وعن تاريخ المقاومة الشعبية وعن تاريخ المساجد والزوايا، كانت لصوته نبرة خاصة.

أعلم أن من دخل وهران لا ينام، فهذه المدينة لا تنام أبداً.

أمشي في شارع الصومام أقف عند مقهى السينترا، معلم تاريخي آخر، ذاكرة، في هذا الفضاء كان يجلس ألبير كامو، وها هنا كتب جزءاً من روايته "الطاعون"، أشعر براحة إذ المكان لا يزال قائماً ومعتنى به، ألفّ نحو شارع فرعي غير بعيد من مقهى السينترا هنا كان مقر وكالة الأنباء الجزائرية فأرى مديرها المرحوم الشاعر والكاتب النزق حميد سكيف، نحيف القامة غزير المعرفة متنوع المعلومات، من دون مقدمات يفتح حواراً ونقاشاً لا ينتهي حول الظروف الغامضة لاغتيال معلمه الشاعر الكبير والمجاهد جان سيناك. مات حميد سكيف في ألمانيا التي لجأ إليها هارباً من جحيم العشرية السوداء.

وها هو الصحافي والكاتب المرحوم بلقاسم بن عبدالله ينزل متأبطاً محفظته، يمشي مشية الطير المعطوب، مبتسماً يداعب نظارته ذات الزجاج السميك، وبطريقته الخاصة في الحديث يوشوش لك تفاصيل زيارته الأخيرة لبغداد، كأنما يوشوش لك سراً خطيراً، حيث حضر مهرجان المربد ولقاؤه بصدام حسين، يبرز ساعة جميلة هدية من إدارة المهرجان عليها صورة الرئيس، ثم يشرع في الحديث عن ملحق النادي الأدبي لجريدة "الجمهورية" الذي يشرف عليه.

كان المرحوم بلقاسم بن عبدالله مثقفاً محورياً في مدينة وهران، لا أحد من المثقفين أو الكتاب القادمين من الخارج أو من المدن الأخرى يدخل المدينة إلا ويسأل عنه، فهو مفتاح علاقات المدينة الثقافية، الصوت الجامع بين المتخاصمين، هو القادر على تحويل صراع حاد بين كاتبين إلى نكتة، كان كالنحلة ينتقل من وكالة الأنباء إلى جريدة "الجمهورية" إلى الإذاعة إلى اتحاد الكتاب- فرع وهران، موجود في كل مكان وفي كل اللجان.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

أمشي في شارع واجهة البحر، منظر ساحر وفريد، بحر أمامك ومرفأ عند قدميك، وعلى اليسار جبل مرجاجو أو هيدور على قمته ينتصب تمثال القديسة سانت كروز، يفتخر الوهرانيون بالسيدة سانت كروز كما يفاخرون بالمسجد العتيق وسيدي بلال وسيدي الهواري، يتباهون بجمال شارع جبهة البحر الذي لا يشبهه سوى شارع جبهة البحر في بيروت، حين تمشي في هذا الشارع تحت هذا النخيل المعمر والبديع، تتذكر أسماء كبيرة وكثيرة من الكتاب والفنانين من أبناء هذه المدينة الذين اغتالهم الإرهاب المتوحش: المسرحي عبد القادر علولة والكاتب بختي بن عودة والمغني الشاب حسني والموسيقي رشيد بابا أحمد والاقتصادي عبد الرحمن فار الذهب والصحافي جمال الدين زعيتر...

وهران هي علولة وعلولة هو وهران!

وهجّر الإرهاب كثيرين من الأسماء التي صنعت مجد مدينة وهران: الشاب خالد والروائي عبد القادر جمعي والكاتب لمين بن علّو وهواري تواتي وهواري عدي وعبد الرحمن موساوي والكاريكانوريست محمد حنكور والطيب عراب...

مدينة تنزف.

رحل الأستاذ مسعود بباجي وهو الذي ملأ الدنيا، المدينة والجامعة والحزب، نقابي شرس وإنسان شفاف، ورحل الأستاذ أحمد كرومي أستاذ الفلسفة في ظروف غامضة.

نزيف الحجر كنزيف الجرح.

لا وهران من دون ملياني الحاج، باحث وجامعي وذاكرة الثقافة الشعبية الوهرانية وسجل موسيقى الراي كلها، رحل ملياني الحاج كما رحل الباحث محمد طيبي والمؤرخ محمد قنطاري ومختار برياح وعصمت تركي-حساين جراء جائحة "الكوفيد".

تبدو المدينة خالية، ممر الريح النابحة.

رحلت الكاتبة زبيدة حقاني صديقة عبد القادر علولة، مثقفة شرسة، جامعية جريئة، لسانها ليس في جيبها، امرأة تقف ما بين العبقرية والجنون، ورحلت الكاتبة أم سهام، امرأة مسكونة بالإبداع وبالأدب، كاتبة لا تتنقل إلا ومعها في حقيبتها الرسائل التي كان يبعث بها إليها الشاعر الكبير نزار قباني، تتعامل مع رسائله إليها كما تتعامل مع النصوص المقدسة، حين تختفي أم سهام من وهران فاعلم بأن المدينة حزينة حزناً لا يبرأ.

أقف في ساحة السلاح، مقابل بناية المسرح الجهوي عبد القادر علولة، أوبرا وهران كما كانت تسمى في زمن الاستعمار، أشعر وكأنني أدق باب بيت خال، بيتا غادره الجميع.

من بقي في المدينة يا ترى؟

من يجيب؟

في مثل هذه الحيرة، أنصت لوهران، وإذا بصوت هاتف يجيء من أزقتها الخلفية، في البداية بدا منفرداً لكنه ما فتئ أن تحول إلى ما يشبه الجوق: إنه صوت الشاعر الرقيق محمد سحابة في حزنه وعزلته ومرضه، ومحمد بن زيان في صوفيته وألمه، ورفيق جلول في أحلامه الأدبية، وبن مزيان بن شرقي في أسئلته الفلسفية، ورابح السبع في إشكالياته اللغوية، وجميلة رحال في سرديتها الروائية، وعالية بخاري تقلب أوراق حنين النادي الأدبي، وفاطمة بوفنيق بخطابها النسوي المتحرر، ومراد سنوسي ومحمد أدار وسعيد بوعبدالله وبوزيان بن عاشور وفضيلة حشماوي وسعاد بوعلي...

صوت الجوق يقول: إن مدينة أخرى، وهران جديدة، جميلة مليئة بالحياة قد نبتت في الجهة الشرقية، جهة بئر الجير وكاناستيل، مدينة على إيقاع زمن وهراني آخر.

وهران لا تموت، إنها كطائر الفنيق تطلع من رمادها!

اقرأ المزيد

المزيد من آراء