Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"النساء لا يفعلن ذلك" في وهران بل يخضعن لمصائر قاسية

الكاتبة الجزائرية غزلان تواتي تحض شهرزاد الخانعة على التحرر فوراً من سلطة الذكورة

جزائريات في وهران يحتفلن بلباس زي الحايك (مواقع التواصل الاجتماعي)

تبدو الشخصيات الرئيسة (البطلات) في قصص الكاتبة الجزائرية غزلان تواتي، في مجموعتها "النساء لا يفعلن ذلك" (دار فضاءات- عمان، 2022)، وكأنها شخصية واحدة تتكرر في القصص جميعاً، بأسماء مختلفة، لكنها في كل قصة تتخذ صورة مختلفة عن الثانية والثالثة إلى القصة الثامنة. ويتعزز الشعور بوحدة الشخصية/ البطلة، مع وجود وحدة المكان، مسرح حوادث القصص، وهو مدينة وهران المكان الأساسي لإقامة الشخصيات/ الشخصية الرئيسة. وربما وحدة الزمان حيث التحولات في الحياة والعلاقات. وهكذا، كأنها فصول في رواية، وليست قصصاً مستقلة الواحدة عن البقية.

ولو واصلنا التفكير في القصص بوصفها رواية، لربما كانت مدينة وهران هي الشخصية الرئيسة "البطلة" فيها، وستكون النساء شخصيات مساندة. فالمدينة تحضر هنا بمعالمها وملامحها وتفاصيلها، بفنادقها ومقاهيها وحاناتها ومساجدها، مدينة تصفها إحدى الشخصيات بأن كل شيء فيها جميل ما عدا ليلها، فهو مخيف. وهي مدينة على قدر من المحافظة والتحفظ، إلى حد يصعب على المرأة فيها أن تجد شقة للإيجار، بسبب حذر الأهالي من النساء الوحيدات. هذه الملامح قد تجعل من المدينة شخصية أساسية في عمل روائي.  

هذا هو الملمح الأول الذي يلتقطه قارئ هذه المجموعة القصصية، وهي الإصدار الأول لصاحبتها، ويستطيع القارئ أن يلمس ملمحاً واضحاً يتجسد في أسلوب الكتابة/ السرد، الأقرب إلى النفس الروائي، لجهة الجملة الطويلة الشارحة والتفصيلية، كما يمكننا التوقف عند ملمح أساسي ثالث لهذه القصص، يقربها من روح الرواية، وهو تخصيصها جميعاً لهموم المرأة، لقضيتها المتمثلة في اضطهادها. فهذا هو الخطاب المهيمن على قصص الكتاب، هيمنة تظهر في صور متعددة ومختلفة.

نساء من الواقع


في ثماني قصص قصيرة، وهي قصص قصيرة في المعنى الفني والتقني للعبارة فقط، لكنها طويلة نسبياً، ما بين 20 و30 صفحة لكل قصة، تقدم الكاتبة صوراً من معاناة المرأة في غير موقع من مواقع وجودها في المجتمع، من دون أن تنتمي إلى تيار "نسوي" محدد يفرض خطابه وشعاراته. فالقصص شديدة الواقعية في مفرداتها وتفاصيلها، ونحن حيال نساء من لحم ودم وأفكار وتجارب معاشة في ما يشبه اليوميات، والفوارق بينهن هي على مستوى السن والحالة الاجتماعية، متزوجة أم عزباء أم "عانس"، فضلاً عن الفارق الثقافي.

منذ القصة الأولى "القضية 311"، ينخدع القارئ بأنه حيال محاكمة بسبب جريمة قتل حقيقية، فالمدعي العام يدعي أن نعيمة الساسي، وهذا اسمها، قد "قتلت نفساً بغير نفس"، وأن من "قتل نفساً، فكأنما قتل الناس جميعاً"، ويطالب بإنزال أقصى عقوبة بها. وتستمر الخديعة، وقد يشعر القارئ أن خلافات نعيمة مع زوجها، بعد ثلاث سنوات على إنجابها الابن الأول والوحيد (نبيل)، دفعتها لقتله، إلى أن نكتشف أن الجريمة هي "الإجهاض"، وكأنما قتلت جنينها، وهي لا تنكر ذلك، لكنها تبرره بكونها لا تريد طفلاً مفروضاً عليها وغير مرغوب فيه، فهي تحب الأطفال، ولا تريد طفلاً ثانياً. وتدافع عن نفسها وعن حرية تصرفها بجسدها، لكنها تنال عقوبة السجن، فيتخلى عنها الأهل جميعاً، وحتى زوجها عزيز أيضاً.

هذا أنموذج للحبكة التشويقية التي تشتغل عليها، وفي نطاقها، قصص تواتي، ولكن لا يمكن أن نغفل كثيراً من التفاصيل في ثنايا القصة. فنعيمة في القصة، معلمة وتدافع عن حق طفلة منعها والدها من متابعة دراستها، وهي تقرأ مع طالباتها "الأمير الصغير" و"كليلة ودمنة"، ثم هناك صعوبة العثور على طبيب يقوم بالإجهاض، والقيام بها بطريقة سرية وتكاليف عالية، والنظرة السلبية إلى من تقوم بها، والحكم عليها وعلى ممرضة في العيادة، بينما الطبيب لا ذكر له في المحاكمة. النساء القادمات للإجهاض، الشرعي وغير الشرعي، وغير ذلك من تفاصيل تبرز صور إدانة المرأة، بل معاداتها، في كل الأحوال، بما يدعو لتعاطف القارئ مع هذه المرأة.

نهايات مأساوية


في إحدى القصص التالية، نجد الفتاة كنزة على دراجتها الهوائية في شوارع وهران، عازفة كمان تعشق أوبرا براهامس و"زفاف لوفيغاروا"، و"إكسير الحب"، و"مدام بيترفلاي"، و"أفول الآلهة"... تتعرف إلى حسين الذي يعيش في فرنسا ويزور والدته في وهران، يطاردها، يحضر حفلة موسيقية تحييها كنزة، تدور معه في شوارع المدينة ومقاهيها، ثم يريد أن يتزوجها، لكن شرط أن تترك العزف وتغير ملابسها وحياتها، فتعود إلى بيتها مخذولة "تبكي سوء ظنها وحدسها" بشاب يعيش في باريس ويفكر على هذا النحو. فحظها ليس أقل سوءاً من حظ نعيمة مع الإجهاض.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ومثل نعيمة وكنزة، نماذج مختلفة، فشخصية خيرة لا تختلف كثيراً ولا جوهرياً، فهي تزوجت صغيرة السن وغير متعلمة، وانتقلت من فلاحة في القرية إلى حياة المدينة في وهران وصخبها، مع زوجها الذي وجد في المدينة مجالات اللهو والعبث، فراح يخونها مع صديقتها. وحين تشاهده خارجاً من عندها تتمرد وتحمل أولادها وتعود إلى أهلها في القرية. يرسل لها ورقة الطلاق، فتضطر للعمل في الحقول لتعيل أبناءها، مما لا يعجب أحداً، لكنها تواجه الجميع في ما يشبه المحاكمة، وحين ترى من كان زوجها مع امرأة أخرى وطفل صغير، تتجاهل المشهد وتكمل طريقها، استقلاليتها.

وقريباً من هذه الشخصية، شخصية ماريا التي تتزوج بعد حب، لكنها في الليلة المشهودة، تجده يرضخ لطلب والدته بضرورة الإسراع في إنهاء عملية فض البكارة وتقديم المنديل الملطخ بالدم. وحين لا يجد الدم في المحاولة الأولى، يروح يكيل لها التهم بفقدان العذرية والتشكيك بماضيها، مما يضطرها لتركه، فهو "رجل لا يقوى حبه على حمايته من نفسه". وكذلك الحال مع حورية التي تتزوج بعد حب من شاب مقاول ثري، لكنه يعاملها كدمية (حورية)، ويرضخ لأمه في تسمية الطفلة البكر، ويبدأ بفرض شروط لم يكن يتحدث عنها. تجد حورية نفسها تخاطبه: "أتخيل أحياناً أنني طير زينة تضعه في قفص.. صورة تعلقها على جدار بيتك"، ثم تترك له كل ما يعجبه منها، حتى إنها تقص شعرها الذي يحبه وتتركه له. وتحمل ابنتها وتغادر.

الضحية متهمة

في قصة "أصبحت امرأة"، نموذج "الزهرة" مختلف قليلاً، لكنه جوهرياً ينتمي إلى فئة المرأة المتمردة، فزوجها من "التنابل"، أنجبت منه ثم ضجرت حياتها معه، وصارت تلجأ إلى جار لهم يتعاطف معها. وفي لحظة ما يفاجئها زوجها في أحضان الجار، ويحاول إطلاق النار عليه، فيصيب شخصاً عابراً، فيتم اتهام الزوجة "الخائنة" بالقتل، وتدخل السجن وتخرج، هائمة على وجهها بعد تخلي الجميع عنها. تسافر إلى وهران، وبعد تشرد تعمل لدى عائلة، تكسب بعض المال، ثم تعشق رجلاً هنا، وتكتشف أنها معه "أصبحت امرأة".

وأخيراً، في قصة "لقاء"، وهي قصة ذات طابع ثقافوي، علم-نفسي، نلتقي بشخصية المثقفة "العانس كاملة" التي تحاكم صديقاتها الخانعات، بل تجلدهن، ومن خلالهن تحاكم شخصية بل فكرة "شهرزاد"، ولا ترى فيها أكثر من "غلام من الصقالبة..". ونتوقف عند هذه المحاكمة قليلاً، فهي تمثل "خلاصة" للتجارب السابقة تقريباً. فهنا، وفي مقهى حميمي الطابع في وهران أيضاً، نجد كاملة، وللاسم دلالاته طبعاً، تمضي وقتاً للقراءة والكتابة والاستمتاع، ثم تدعو صديقتين لها، وتبدأ بجلدهما، بمحاكمتهما، ثم محاكمة كتاب "ألف ليلة وليلة".

وفي هذا السياق تتطرق إلى شخصية شهرزاد، فلا ترى فيها سوى "غلام من الصقالبة نفذ كثيراً من مطامح الرجال، واكتفى بدور الدمية التي تلهي لا أكثر. لو كانت حقاً امرأة لتصرفت بحب وإنسانية أكبر، لربما كان حال النساء والرجال في شرقنا ومغربنا أرقى من حال الدمية. سهرات شهرزاد الواهمة لم تكن إلا كسل المرأة ونشاط الكاتب.. معظم النساء فيها إما عفريت أو ساحرة أو مجرد فاكهة معلقة على شجرة جنة يحرسها رجل". وقد اختارت الصقالبة قاصدة الخصيان تحديداً، فهم من يخدمون في القصور، وقصور الحريم تحديداً.

فعلى الرغم من أن "النساء لا يفعلن ذلك"، أي فعل الخيانة على طريقة الرجل، فإن "الزهرة" حين تعشق جارها، تحت وطأة حياة قاتلة مع زوجها، فهي تدخل السجن وتتشرد وتعمل في أي عمل لتعيش. وبذلك فهي تدفع ثمن سلوك "خطأ" ارتكبته من دون وعي منها لما تفعل، ويحسب للكاتبة قدرتها على الوقفة التأملية والتحليل للشخصية بأعماقها وسلوكياتها الظاهرة، وأفكارها وخيالاتها وهلوساتها، وقراءتها للقرية والمدينة قراءة عميقة واعية.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة