ملخص
ظل "السطمبالي" في تونس يكابد من أجل البقاء، ويعاني الإقصاء والتهميش، وفي غياب "معلّميه" قد يطاوله النسيان، على رغم ما يحمله من دلالات تترجمها إيقاعاته التي تعبّر عن رحلة الوجع والمعاناة مثل غيره من الألوان الموسيقية في العالم القادمة من الحقول والكنائس والسجون والأحياء المفقرة، كموسيقى "البلوز" و"الجاز" و"الفادو" و"الفلامنكو" وغيرها من التعبيرات الموسيقية الأخرى.
ولدت موسيقى "السطمبالي" من رحم المعاناة، وأوجاع الاسترقاق التي رافقت رحلات الأحباش والسود القادمين من جنوب شرق أفريقيا والسودان وبحيرة التشاد إلى أسواق النخاسة في تونس في قوافل الرق، وتكتنز هذه الموسيقى آلام العبيد الذين يطرقون سلاسل الحديد، ويتأوّهون بهمهمات الألم والحزن والسخط على حالهم.
رحلة هؤلاء المحفوفة بالوجع الذي حملته موسيقى "السطمبالي" وجسدته في إيقاع متجانس وآلات تجمع بين الرقص والشجن والغضب، صمدت أكثر من قرنين ونصف القرن من الزمن ولا تزال تصارع إلى اليوم من أجل البقاء، وسط ركام من الإنكار واللامبالاة لجزء فريد من التراث اللامادي، وكلون موسيقي يحفظ الوجه "الأفريقي" لتونس في مشهد موسيقى تراجيدية راقصة تجسدها رقصة غاضبة لشخصية "بوسعدية" التي تروي قصة أب اكتوى بنار فراق ابنته التي تعرّضت للسّبي.
موسيقى "السطمبالي" ليست فولكلوراً محلياً وحسب، بل طرَقت باب العالمية وصعدت على أكبر المسارح والمهرجانات في العالم من فرنسا إلى كندا إلى الولايات المتحدة، هي موسيقى عابرة للحدود، قادرة على مخاطبة وجدان كل إنسان يحمل إرثاً من الوجع أو الوصم، موسيقى تلامس آلام الإنسانية الناتجة من العبودية والعنصرية والحروب والفَقْد في كل بقعة من بقاع العالم.
تركزت هذه الموسيقى في البداية في بعض الفضاءات الخاصة، ثم انتشرت في الزوايا والمقامات في شكل "خرجات موسمية" إلى أن ولجت المهرجانات والتظاهرات الرسمية، الوطنية والعالمية، والتقت فنوناً شبيهة في كل من المغرب التي تسمى "القناوة" والجزائر وتسمى "الديوان" لتشكل صرخة الزنوج أينما حلوا، ولترسم لوحة من تاريخ الأغلال وصليل السلاسل التي تكبل أحلام هؤلاء.
فكيف تشكل هذا النمط الموسيقي في تونس؟ وكيف انتشر؟ وهل سيصمد أمام التقليعات الفنية الجديدة؟ أم سيأكله النسيان؟
موسيقى "السطمبالي" التي تُحاكي تاريخ زنوج تونس، ليست نمطاً تونسياً فريداً، بل تجد رديفاً لها في مختلف دول شمال أفريقيا، في الجزائر والمغرب وليبيا وموريتانيا.
وعلى رغم إلغاء تونس العبودية والرق في منتصف القرن الـ19 بمرسوم الـ23 من يناير (كانون الثاني) 1846، لتكون بذلك أول دولة في العالم تلغي الرق بقانون رسمي، فإن هذا اللون الموسيقي انتشر وغزا فضاءات عدة، وأصبح جزءاً من أفراح العائلات التونسية.
ولم تنشأ هذه الموسيقى في تونس نتيجة تجارة الرق وحسب، بل لعبت المبادلات التجارية مع عدد من الدول الأفريقية من خلال التقاء القوافل التجارية العابرة للصحراء الأفريقية في نشر هذا النمط الموسيقي في تونس.
وكغيرها من الأنماط الموسيقية لم تقتصر هذه الموسيقى على الزنوج وحسب، بل انضم عدد من التونسيين إلى فِرق عدة التي تحترف تلك الموسيقى التي تعرضت لصنوف من الوصم بخاصة لارتباطها بالاحتفالات التي تقام في الزوايا ومقامات الأولياء الصالحين تبرّكاً بكراماتهم، علاوة على ما تنتجه ذروة الانتشاء الموسيقي من "تخميرة" إلى حد الإغماء، والتي ارتبطت بطقوس روحانية تتمثل في طرد الأرواح الشريرة.
ولم تسلم موسيقى "القناوة" في المغرب، من الوصم حيث اعتُبرت "موسيقى شيطانية" وجب وضع حد لها، إلا أن محاصرة هذه الأنماط الموسيقية ولئن نجحت في التقليص من عدد ممتهنيها إلا أنها لم تحدّ من انتشارها في تلك الحقبة من تاريخ تونس وصمدت إلى اليوم.
رحلة الوجع من "برّ السودان" إلى تونس
يقول رياض الزاوش وهو رئيس جمعية ثقافة فن السطمبالي في تونس "إن هذه الموسيقى قادمة من أفريقيا، وتحديداً مما كان يسمى وقتها ’برّ السودان‘ أي بلاد السودان، وكانت زاوية ’سيدي سعد‘ في مرناق في ضواحي تونس تجمع فرق ’السطمبالي‘"، مضيفاً أن "السطمبالي" موجود في ولايتي تونس وصفاقس (جنوب) وتسمى أيضاً "البنقة"، وأثرت في الموسيقى التونسية.
وأوضح الزاوش أن هذا الفن ظهر في بدايات القرن الـ19، وكان موجوداً في عدد من الديار التونسية كـ"دار كوفة" و"دار الجماعة" و"دار برنو"، وزاوية "سيدي علي الأسمر" التي بقيت الوحيدة التي تؤمّ موسيقى "السطمبالي" إلى اليوم مساء كل جمعة في شكل فقرات تنشيطية.
ويشير الزاوش إلى أن "عناصر فرقة ’السطمبالي‘ كانوا جميعهم من ذوي البشرة السوداء، وكانت بعض العائلات التونسية تبدأ حفل الزفاف بفقرة راقصة من ’السطمبالي‘"، نافياً "أية صلة لهذه الموسيقى باستحضار الأرواح والشعوذة والسحر، لافتاً إلى أن "الذبائح التي كانت من (التيوس) ذكور الماعز، كانت فقط للتبرك ومن أجل إطعام الزوار".
ويعتبر رئيس جمعية ثقافة فن السطمبالي أن هذا الفن كان يشكل جزءاً من تنشيط المدينة، إذ يُقبل الجمهور على متابعة فقراته، والاستمتاع برقصات "بوسعدية" بملابسه الغريبة وقناعه الأسود المُخيف، بينما تواجه هذه الموسيقى اليوم خطر الاندثار بسبب تراجع الدعم وعدم اهتمام مؤسسات الثقافة بهذا اللون الموسيقي، وغيابه عن المهرجانات، عكس ما كان في السابق عندما كانت الدولة تولي عناية لـ’السطمبالي‘ وتعتبره جزءاً من التراث اللامادي".
ويشدد الزاوش على أن "تونس هي جزء من أفريقيا ولا يمكن إنكار هذه الحقيقة، مستنكراً ما يواجهه هذا الفن من صعوبات، ورافضاً الفكرة الرائجة على أن هذه الموسيقى ليست تونسية، لذلك لا تتم برمجتها في مختلف المهرجانات الوطنية الرسمية".
وفي هذا السياق، تم تأسيس جمعية ثقافة فن السطمبالي في 2016 "من أجل الحفاظ على هذه الموسيقى التي تواجه شبح الاندثار وسط النكران والرفض الرسمي لهذا اللون الموسيقي".
شخصية بوسعدية... ورقصة الحزن والسخط
تشكلت صورة "بوسعدية" في المخيال الشعبي التونسي في شخصية رجل بملامح مخيفة يجوب شوارع المدينة يبحث عن ابنته التي تم سبيها لبيعها في سوق النخاسة، واستُخدمت صورة "بوسعدية" لتهدئة الأطفال وتخويفهم، كذلك استخدمت مصطلحات "الغول" أو "بوشكارة" وهي أسماء يهابها الأطفال وتبث في قلوبهم الخوف.
وتقول بعض الروايات الشفوية إن شخصية "بوسعدية" لواحد من الأولياء الصالحين بتونس واسمه "سيدي سعد شوشان"، وهي شخصية رجل أسود يخفي وجهه ببرقع، ويلبس زيّاً صنع من فرو الحيوانات، وريش بعض الطيور، ويضع فوق رأسه جمجمة رأس جمل أو خروف، ويمسك بعض الأدوات الحديدية، ليقرعها محدثاً ضجيجاً يرقص على أنغامه، ويسرد في مشهدية حزينة قصة ابنته التي تعرضت للسبي لتباع في سوق العبيد، لذلك تنكر وأصبح يجوب الشوارع بحثاً عنها.
"القمبري" شريان "السطمبالي"
رقص سريع وموسيقى ذات إيقاع متواتر وآلات غريبة، تلك هي مكونات موسيقى "السطمبالي" الذي ظل فناً غريباً بين أهله إلى اليوم، والشخصية المحورية بلا منازع في هذه الموسيقى هي شخصية عازف "القمبري" أو ما يسمى بـ "أليَنّا" (yenna)، أو (المْعَلّمْ)، بكل ما يحويه الاسم من قداسة ورمزية روحانية، وهو الذي يرث موهبة العزف على هذه الآلة، إضافة إلى كثير من العناصر الأخرى على غرار عازفي الشقاشق والمغنّين والراقصين.
ويعتبر العازف بلحسن ميهوب واحداً من "العصافير النادرة" التي تعزف على آلة القنبري الذي تحدث إلى "اندبندنت عربية" قائلاً "ورثتُ هذا العزف عن والدي عبدالمجيد عازف القمبري، الذي كان هو أيضاً مْعلّماً، وأصل اللقب العائلي ليس "ميهوب" بل "بوركومندا" وهو ما يعني أننا الأصل لأن العائلة قَدمت من أفريقيا".
ويضيف ميهوب أنه ولد في أجواء موسيقى "السطمبالي"، التي يعتبرها "نشوة" أو (شيخة) بالعامية التونسية، موسيقى حالمة تحمل عازفها إلى عوالم الطهر والحب والخلود، هي نوع من التطهر الروحي، والتصوف رافضاً ما يُروج حول هذا الفن من بعض الممارسات التي تتحدث عن استحضار للأرواح والسحر.
ويؤكد ميهوب أن "’السطمبالي‘ يجمع بين المدحيات والغناء الصوفي، وفقرات غنائية، تبرّكاً بأولياء الله الصالحين، على غرار، سيدي منصور، وسيدي سعد، وسيدي عبدالقادر، وأن جذور هذه الموسيقى من أفريقيا أما تشكلها النهائي فكان في تونس من خلال القمبري وبقية الآلات والرّقصات وهي جزء من الهوية الثقافية التونسية".
الاندثار يتهدّد "السطمبالي" في تونس
وبمرارة يضيف المتحدث "تونس يفترض أن تفتخر بهذا الفن، لكن لا توجد إستراتيجية وطنية للثقافة في تونس، وجميع المشاريع الثقافية اكتسحها الجانب التجاري"، مستحضراً التجربة المغربية التي أولت عناية كبيرة للثقافة وتم تثمين التراث اللامادي وإدراج "القناوة" كمنتوج ثقافي وسياحي مهم.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويخلُص إلى القول إن "هذا الفن سيندثر، ما دامت الدولة لا تعيره أي اهتمام، ولا يتم تعليم الأجيال الجديدة كيفية العزف على الآلات الموسيقية المستخدمة فيه"، لافتاً إلى التجربة التي خاضها من خلال التدريس مدة ثلاثة أعوام في المعهد العالي للموسيقى بتونس إلا أن التجربة لم تستمر".
ظلت موسيقى "السطمبالي" إرثاً عائلياً هشّاً يصعب استدامته، في غياب اعتراف رسمي من مؤسسات الدولة كتراث لا مادي يشكل جزءاً من الهوية الثقافية التونسية، لذلك اندثرت بعض الآلات والأنماط في "السطمبالي" كـ"القبقابو" الذي لم يعد هناك من يعزفه، بينما يكابد بلحسن ميهوب من خلال عروض فنية تمزج بين "السطمبالي" والموسيقى التونسية في محاولة منه لترسيخ هذا النمط في المدونة الموسيقية التونسية.
وآلة القمبري التي هي أساس "السطمبالي" تجمع ثلاث آلات في آلة واحدة، وتختلف عن "القمبري" المغربي ولها تسميات مختلفة منها "الهجهوج" و"العويشة".
"السطمبالي" موسيقى تونسية أصيلة
في المقابل، هناك مقاربة أخرى تنفي الأصول الأفريقية لـ"السطمبالي"، وتعتبره فناً تونسياً أصيلاً تشكّل في سياق ثقافي وتاريخي عاشته تونس منذ قرون.
ويرى عدد من الباحثين في الموسيق على غرار زهير قوجة أن "السطمبالي" لون موسيقي تونسي، لا علاقة له بالعبيد والرق والأفارقة، بل "يعود إلى أصل تونسي أمازيغي"، مؤكداً "غياب الجانب التوثيقي في تونس، والاختصاص والتنقيب والتحري عن أصل الأشياء، حتى نصل إلى تقصّي أسباب عدم رواجها في المشهد الفني الموسيقي اليوم".
وقدم قوجة عرضاً موسيقياً بعنوان "مزيج"، على مسرح الأوبرا بمدينة الثقافة في صيف 2022، تتقاطع فيه ألوان موسيقية من "السطمبالي" ومن التراث، باستخدام آلات موسيقية تونسية في عزف فقرات من "السطمبالي"، وامتزجت في العرض، موسيقى الشمال والشمال الغربي والجنوب الغربي والوسط، كما جمع بين آلات "القمبري" و"الشقاشق" و"الجامبي" و"الطبلة" و"الزكرة"، وكذلك "المزود" و"القصبة الشاوية" والآلات الموسيقية الإلكترونية كـ"الغيتار" و"الأورغ"، كما تم عزف إيقاعات "السطمبالي" بآلة العود مما يعكس تنوع وثراء التراث الثقافي اللامادي التونسي.
وفي غياب الحَسْم العلمي الدقيق لأصول موسيقى "السطمبالي"، قد يصح كونها ذات أصول أفريقية، إلا أنها امتزجت فعلاً بالموسيقى التونسية لتشكل مدونة ثرية، على رغم ما تواجهه من تهميش كغيرها من التقاليد الفنية التونسية، ولولا اهتمام عدد من الموسيقيين بهذه الأنماط وإعادة عرضها في أشكال جديدة للجمهور لقُبِرت تحت غبار النسيان.
الموسيقى التقليدية والأجيال الجديدة
لا تزال الموسيقى التقليدية التونسية تواجه معضلة نقلها من جيل إلى جيل بما يساعد على ضمان استمرار تداولها وجعلها أكثر وصولاً إلى وجدان الجمهور باعتبارها إرثاً ثقافياً عريقاً، ومشتركاً مجتمعياً لا يستهان به، وهو ما يدعو عاجلاً إلى تصحيح المسار في مستوى السياسة الثقافية في تونس، في اتجاه سياسات وإجراءات تثمّن الموروث، وتحافظ على جذوته وتضمن استمراريته، من جيل إلى آخر.
ظل "السطمبالي" في تونس يكابد من أجل البقاء، ويعاني الإقصاء والتهميش، وفي غياب "معلّميه" قد يطاوله النسيان، على رغم ما يحمله من دلالات تترجمها إيقاعاته التي تعبّر عن رحلة الوجع والمعاناة مثل غيره من الألوان الموسيقية في العالم القادمة من الحقول والكنائس والسجون والأحياء المفقرة، كموسيقى "البلوز" و"الجاز" و"الفادو" و"الفلامنكو" وغيرها من التعبيرات الموسيقية الأخرى.