ملخص
يستدعي الروائي العماني سليمان المعمري طيف الزعيم المصري جمال عبدالناصر، "بعد 6 آلاف سنة على رحيله"، من منظور روائي فانتازي، يمزج الواقع بالتخييل، في زمن الربيع العربي
في الـ28 من سبتمبر (أيلول) الجاري تمر الذكرى الـ55 لرحيل الزعيم المصري جمال عبدالناصر (1918–1970) ليتأرجح الجدل في شأنه مجدداً بين المديح والنقد. ويطل هذا الجدل كذلك من بوابة الأدب في رواية الكاتب العماني سليمان المعمري "الذي لا يحب جمال عبدالناصر" (دار الشروق – القاهرة)، التي تستحضر قائد ثورة 23 يوليو (تموز) المصرية من زاوية فانتازية.
تفتتح الرواية بأن يستيقظ عبدالناصر في قبره "في زمن ثورات الربيع العربي" قبل، ويطلب من "حراس العالم الآخر" الخروج من ضريحه إلى الدنيا، فوافقوا على طلبه، على أن يقوم عقب خروجه مباشرة، بزيارة مصري مقيم في سلطنة عمان، اشتهر بأنه يكرهه بشدة. هناك يتعين على الزعيم الراحل أن ينجح في انتزاع ولو واحد في المئة من حقد الرجل عليه، لتكون مكافأته عودة كريمة إلى مصر، غير أن هذه الزيارة تترك وقعاً صاعقاً على المصحح اللغوي "بسيوني سلطان"، الذي ينهار فزعاً ويدخل في غيبوبة طويلة تمتد لأشهر ما إن يرى الرجل الذي يكرهه.
شخصية إشكالية
تقوم بنية الرواية على شهادات زملاء "بسيوني سلطان" في صحيفة "المساء"، إحدى الصحف الأشهر والأوسع انتشاراً في سلطنة عمان. ومن خلال هذه الشهادات يتكشف للقارئ جانب بعد آخر من شخصيته المعقدة. يمنح الكاتب لكل سارد صوته الخاص ليعرض تجربته مع "بسيوني"، بما يجعل الرواية أقرب إلى بانوراما متعددة الأصوات. هذه الشهادات تكشف عن قناعاته السياسية والأيديولوجية وعن طبيعة علاقاته المتوترة مع محيطه المهني والاجتماعي.
يظهر "بسيوني" بوصفه شخصية إشكالية تجمع ما يدفع إلى كراهيتها والتعاطف معها في وقت واحد. ولد عام 1936 لإحدى أسر قرية كمشيس (شمال مصر)، التي كثيراً ما عانت تبعات قوانين الإصلاح الزراعي والتأميم التي أطلقها جمال عبدالناصر. تلك القوانين حولت عائلته من أسرة إقطاعية ثرية إلى أسرة معدمة. صودرت ممتلكات جده بما فيها مصنعه الذي بناه بجهده، وسلبت سيارته، وحتى العمارة التي شيدها في حي راقٍ بالقاهرة، لم يعد بمقدورهم الاستفادة منها بفعل قانون الإيجار، الذي يمنح المستأجر عقداً، يقيم بموجبه في الشقة المستأجرة طوال حياته ولورثته الحق في أن يقيموا فيها بعد موته، من دون أي زيادة في الأجرة المقررة سلفاً. وهو ما حال دون تمكين "بسيوني" من توفير شقة لابنه في العمارة ذاتها، مما جذر كراهيته لعبدالناصر، وأصبح داعية إلى سبه في كل مكان.
غير أن هذه الكراهية الشخصية تتناقض مع صورة عبدالناصر لدى العمانيين، الذين لا يزالون يرونه رمزاً قومياً وبطل العروبة الأول، يتذكرون عبارته الشهيرة: "ارفع رأسك يا أخي"، ويستحضرون فيه حلم الوحدة العربية. لتبرز الرواية أن عبدالناصر في المخيال الجمعي العربي، شخصية يصعب اختزالها في قوالب مبسطة أو آراء جاهزة، نتيجة لحضورها الراسخ في نفوس الملايين بصورة يصعب زحزحتها.
حبكة الرواية
تتأسس حبكة الرواية على التناقض الدائم بين رؤية "بسيوني سلطان" للعالم ومواقف الشخصيات المحيطة به. فعبدالناصر يحضر في وعيه بوصفه الشيطان الأكبر الذي يطارده في كل مكان، ما يدفعه إلى تقييم علاقاته الإنسانية والسياسية والدينية والثقافية وفقاً لمعيار واحد: الموقف من ناصر. بهذا المنطق، يصر على أن يفسخ ابنه خطوبته من حبيبته، لأن والدها كان ناصرياً، ويفرض عليه أن يقطع صلته بصديقه، لأنه صوت في الانتخابات الرئاسية التي تلت ثورة 25 يناير (كانون الثاني) 2011 لحمدين صباحي ــ الذي يراه امتداداً لنهج عبدالناصر ــ فالعالم في وعييه ينقسم إلى معسكرين لا ثالث لهما: معسكر الخير الذي يعادي ناصر، ومعسكر الشر الذي يحبه أو يتبنى أفكاره.
وهذه المسألة تكشف عن رؤية "بيسوني" عموماً للحياة، فهو كما يقول عنه رئيس القسم الثقافي في الصحيفة: "لا يرى الحياة إلا من منظور نظارته الضيقة" (ص76).
عبر الأصوات المختلفة التي تتولى عملية السرد داخل الرواية تتواصل عملية الكشف عن أبعاد ملامح شخصية "بسيوني سلطان" المتطرفة في مواقفها، فهو يحمل أحكاماً حادة تجاه الفرق الإسلامية المختلفة كالشيعة والإباضية، ويرفض الشعر الحديث، معتبراً إياه شكلاً من صور إفساد الذوق، يطلق على الحداثيين لقباً تهكمياً "الحداثيين" نسبة إلى الغائط، كما يزعم أن الترجمة عمل غير لائق، "لأنها تتعامل مع لغة غير المؤمنين". تتسم أحكامه بالعمومية والقطعية، لكنها لا تخلو في الوقت ذاته من روح كوميدية سوداء بسبب الأخطاء الفادحة التي يرتكبها في عمله مصححاً لغوياً.
فبناءً على توجيهات السياسة التحريرية للصحيفة، كان يستبدل بعض الكلمات في النصوص، مما أوقعه في مواقف محرجة. غير كلمة "الإصلاح" إلى "التطوير"، كما بدل تعبير "سيدات الأعمال" إلى "صاحبات الأعمال"، وعنوان رواية "سيدات القمر" إلى "صاحبات القمر"، مما أثار غضب مؤلفتها وعدد من المثقفين العمانيين. هذه التدخلات المتكررة في مقالات الكتاب ونصوصهم تسببت في كثير من المشكلات للصحيفة مع الكتاب.
إعلام مقيد
لا تتوقف الرواية عند كشف أبعاد شخصية "بسيوني سلطان" وحده، فهي في جوهرها رواية أصوات تتقاطع فيها الرؤى والشهادات، وتتحول إلى ما يشبه رواية شخصيات. تمتد لتعري ملامح شخصيات أخرى في محيطه، مثل رئيس تحرير الصحيفة، الذي يقدم باعتباره نموذجاً للطامحين في السلطة، الساعين إلى منصب وزير الإعلام، ومن ثم يتغاضى عن المهنية، مبرراً انصياعه لرغبات السلطة بأن الحفاظ على رضاها هو الضمان الوحيد لاستمرار الدعم المادي من الحكومة وتدفق الإعلانات التجارية، وإلا فمصير الصحيفة التوقف. وبهذا المنظور تضيء الرواية جانباً شديد الحساسية من واقع الإعلام العربي، حيث تتداخل السلطة بالتمويل، ويتحول الصحافي أو المسؤول الإعلامي إلى أداة توجه وفق المصالح السياسية والاقتصادية.
وتمتد الرواية أيضاً إلى فضح تناقضات "اللجنة الوطنية لحقوق الإنسان"، عبر شخصية زوجة رئيس التحرير، التي تتعامل مع عضويتها في اللجنة بوصفها واجهة اجتماعية أكثر من كونها التزاماً فعلياً بالدفاع عن الحقوق. ترى أن دور اللجنة يقتصر على تنظيم المحاضرات بين الفينة والأخرى، والمشاركة المتكررة في البرامج التلفزيونية، والإدلاء بالتصريحات الصحافية، ثم اختتام العام بالمهرجان الذي يقام في العاشر من ديسمبر (كانون الأول)، احتفالاً بحقوق الإنسان. لكن خلف هذه الواجهة البراقة، تكشف الرواية عن سطحية هذه الممارسات حين تصر تلك السيدة على أن تنادى خادمتها باسم "مديرة المنزل"، لأن كلمة "خادمة" أو "شغالة" لا تليق في نظرها بأن تذكر في بيت عضوة في لجنة وطنية لحقوق الإنسان!
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
بهذا الأسلوب الساخر يفضح النص ازدواجية الخطاب الحقوقي في العالم العربي، الذي تتحول فيه حقوق الإنسان إلى شعارات وواجهات للتباهي الاجتماعي، بينما تغفل الممارسة الفعلية أبسط مبادئ الكرامة الإنسانية.
الطبقية
ولا تتوقف شخصية زوجة رئيس التحرير عند فضح تناقض الخطاب الحقوقي وحده، بل تكشف أيضاً عن أزمة أخرى مرتبطة بالعادات والتقاليد في المجتمع العماني، متعلقة بالتراتبية القبلية التي تتحكم في مصائر الأفراد. فقد حرمت هذه السيدة من حبيبها الأول، لأن والدها رفض ارتباطها به بدعوى أن عائلته أقل منزلة من أسرتهم، ولا يليق أن تجمعهم مصاهرة. هذا الحرمان العاطفي دفعها في النهاية إلى الزواج من "المرهون"، الذي لم يتقدم إليها حباً بقدر ما كان مدفوعاً بالطمع في جاه أسرتها ومكانتها الاجتماعية.
يحضر الهم السياسي في الرواية بوضوح، غير أن حدته تنكسر بروح الدعابة التي صيغت بها شخصية "بسيوني سلطان". فالثورة التونسية تستحضر عبر زميله في الصحيفة، الذي يكشف أبعادها وكيف جرى الانقلاب عليها من قبل الإسلاميين. بينما تأتي ثورة 25 يناير المصرية عبر شخصية المترجم المصري الذي شارك فيها، ليضيء أثرها العابر للحدود، على سلطنة عمان، حيث اندلع حراك مشابه في "ساحة الشعب"، كسر حاجز الخوف لدى المواطنين وأكد مطالبهم في محاربة الفساد، وإصلاح المؤسسات، وترسيخ بناء الدولة. تنقل الرواية على لسان المتظاهرين أن: "الاعتصامات حررت الفرد من مخاوفه كما أنها حررت السلطة من هواجسها وأوهامها الأمنية، وهو ما أدى إلى انفراجة في الحالة السياسية" (ص174). بذلك يتحول النص إلى سجل سردي يلتقط لحظة تاريخية فارقة في العالم العربي.
تنتهي الرواية، التي تمزج بين الواقعي والتخييلي، بصورة دائرية، باستيقاظ جمال عبدالناصر في قبره في عيد ثورة يوليو بعد 6 آلاف سنة، طالباً من حراس العالم الآخر أن يعيدوه إلى الحياة مرة أخرى. هذه النهاية الرمزية تشير إلى استمرار الجدل حول شخصيته طالما استمرت الحياة، كما يلاحظ الراوي: "كثر خارج الضريح يتحدثون عن هذا الضريح، بعضهم يحبه إلى درجة التقديس ويقولون إن قبره روضة من رياض الجنة، والبعض الآخر يبغضونه أشد البغض ويشيعون أن قبره حفرة من حفر النيران". لتؤكد الرواية ثنائية الحب والكراهية، وعلى المكانة المعقدة التي يشغلها ناصر في الوعي العربي، كمحور لنقاش لا ينتهي.