ملخص
أمضى هوغارث سنوات نشاطه الفني، وهو لا يتوقف عن نقل الأعمال المسرحية وحالات المجتمع، وحتى التواريخ القديمة وأعمال شكسبير، إلى سلاسل فنية تكاد تعطينا أبهى وأصدق صورة عن المجتمع اللندني، والواقع الفني في تلك المرحلة من تاريخه.
في كل مرة نتحدث فيها عن الفنان الإنجليزي وليام هوغارث لا يكون ثمة مهرب من أن نعرفه، قبل أي شيء آخر، بأنه واحد من أوائل الفنانين الأوروبيين، الذين عرفوا كيف يستغلون "التقنيات" الحديثة لإدخال فنونهم إلى البيوت البسيطة، بعدما ظلت تلك الفنون حكراً على دارات الأثرياء الذين ورثوا الفن من الكنيسة كما من سراة القوم.
وبالنسبة إلى هوغارث (1697 – 1764)، الذي ولد في لندن ليرحل فيها، وبالتالي لا بد من اعتباره دائماً فنان تلك المدينة بامتياز، بقدر ما سيكون تشارلز ديكنز روائيها، فإن الوقت قد حان لاستغلال تقدم الطباعة المدهش للعمل على نشر اللوحات الفنية، بما في ذلك ما هو ملون منها، في داخل البيوت "بأرخص كلفة وأبهى حلة" كما كان يقول بنفسه، وذلك من خلال نسخها في المطابع، وبيعها حتى في أكشاك الصحف.
ومن هنا لن يكون غريباً أن نذكر كيف شهد النصف الأول من القرن الـ18 ازدهاراً في انتشار الفن في بيوت الطبقات الوسطى، وحتى عدد من بيوت الطبقات الأقل مدخولاً. ولن يقتصر الأمر على انتشار لوحات هوغارث وحده، بل سيشمل مئات الأعمال الفنية لمعاصريه وللقدماء، أسهمت في تشكيل الذائقة الفنية في تلك الأزمنة المبكرة، بل ربما يمكننا أن نقول أيضاً إنها سهمت في ترسخ وعي طبقي مدهش.
ويمكننا أن نخرج من هذا الواقع للقول إن تلك "الديمقراطية الجديدة"، التي تماشت مع انتشار الفن، قد تلازمت مع تجديدات في الأشكال والمواضيع، طاولت الفن نفسه مساهمة في إبداع تلك الواقعية الإنجليزية، ولا تزال سائدة حتى اليوم ومتفوقة على غيرها من الواقعيات في الفنون الأوروبية. والحقيقة أننا حين نخص بحديثنا الحالة الأوروبية هنا، فما هذا إلا لأننا نعرف أن الصينيين واليابانيين قد سبقوا معشر الإنجليز، ليس في ذلك فقط، بل كذلك في التقدم المبكر الذي عرفته لديهم تقنيات النسخ والطباعة، غير أن هذا موضوع آخر.
سلاسل من المواضيع
أما موضوعنا هنا فهو هوغارث نفسه وفنونه، بل بصورة أكثر تحديداً، تلك "السلاسل" من الأعمال الفنية التي كان الجمهور اللندني العريض يستسيغها ويقتني منسوخاتها بإقبال لا سابق له في تاريخ الفن.
ولعل المثال الأسطع على هذا الواقع انتشار مسرحية "أوبرا المعدمين" لجون غاي، وهي كما نعرف، الأصل الإنجليزي لمسرحية "أوبرا القروش الثلاثة" لبرتولد بريخت وأريك فايل، في كثير من البيوت اللندنية بفضل سلسلة رسوم حققها عنها هوغارث نفسه. لكننا نعرف طبعاً أن رسوم "أوبرا المعدمين" لم تكن العمل الوحيد الذي أطل من خلاله هذا الفنان "الشعبي" الاستثنائي على جمهوره العريض، فالحال أن هوغارث قد أمضى سنوات نشاطه الفني، وهو لا يتوقف عن نقل الأعمال المسرحية وحالات المجتمع، وحتى التواريخ القديمة وأعمال شكسبير إلى سلاسل فنية تكاد تعطينا أبهى وأصدق صورة عن المجتمع اللندني والواقع الفني في تلك المرحلة من تاريخه، مرحلة تواكبت مع بدايات الثورة الصناعية وخروج اللندنيين من البيوت إلى الشوارع، والأزقة التي أبدع الفنان في تصويرها في لوحات تسارع المواطنون لاقتناء منسوخاتها.
ولعل من أبدع تلك المجموعات، سلسلة من أربع لوحات حملت عنواناً عاماً هو "مراحل اليوم الأربعة"، في عمل رباعي لم يفقه شعبية في تاريخ إبداع هوغارث سوى سلسلة "أوبرا المعدمين"، ولكن أيضاً سلسلة "الزواج على الموضة"، التي قد نعود لها لاحقاً، مفضلين هنا أن نتوقف عند "مراحل اليوم"، بالنظر إلى أنها تأتي في سياق يصل بين فن هوغارث وفنون سابقيه من الذين صوروا سلاسل عن "الفصول الأربعة"، كما فعل بيتر بروغل في الرسم أو فيفالدي وهايدن في الموسيقى، علماً بأن تميز هوغارث كمن في انتشار سلسلته في العدد الأكبر من البيوت اللندنية تبعاً لما أشرنا أعلاه.
تلك العتمة اللندنية
تتألف السلسلة إذاً من أربع لوحات، رسم الفنان ثلاثاً منها بألوان مائية موحدة، ليصار إلى تلوينها طبيعياً لاحقاً، بينما رسم الرابعة، وهي لوحة "الليل"، مباشرة بالألوان، وأتت اللوحات كالعادة موحدة في قياساتها (نحو 41 سم عرضاً في مقابل نحو 49 سم ارتفاعاً). وإلى "الليل" تحمل بقية اللوحات العناوين البدهية التالية، "الصباح" و"الظهيرة" و"المساء".
ولكن لأننا في لندن لا بد أن يكون من الصعب تمييز مرحلة من اليوم المرسوم، بين لوحة وأخرى. ففي نهاية الأمر، وتماماً كما ستكون الحال أدبياً في روايات "اللندني" المبدع الآخر، تشارلز ديكنز، تنتشر العتمة على طول مراحل اليوم انتشار السابلة في الحارات والأزقة على طول تلك المراحل أيضاً، وكأن الفنان أراد أن يخبرنا أن لندن لا تنام، غير أن العتمة تبقى هنا نسبية كحالها في الواقع اللندني، الذي تصور لوحات السلسلة فروقاته على أية حال، من خلال نوعية القوم المنتظرين هنا أو العابرين، ودائماً في مشاهد خارجية وفي مناطق متشابهة، لكنها تصور في حد ذاتها فوارق اجتماعية. وقد تلامس تلك الفوارق حالات تذكر بأحدث معينة أو بشخصيات محددة، مستمدة من عروض مسرحية أو حكايات معروفة أو ما شابه ذلك.
ولعل أطرف مثال على ذلك ما يرد في لوحة "الصباح"، إذ يبدو الأمر وكأن هوغارث يصور فيها مشهداً معروفاً للندنيين، بل حكاية محددة، هي حكاية تدور بالقرب من حانة يبدو أنها أقفلت أبوابها للتو تاركة على الرصيف متسولين أشعلوا ناراً يتدفأون بها، في انتظار أن يمر بهم محسنون، غير أن فألهم سيخيب، إذ إن السيدة الأنيقة التي تمر بهم وتعطيهم بمنظرها واهتمامها شيئاً من الأمل، سرعان ما ستبدو بخيلة مأزومة مكتئبة، بحيث يصعب القول إنها قد تبالي بهم. فهي لا تتنبه لمصيرهم، بل للعناق الذي ترصده بين عاشقين سعيدين يتعانقان إلى جانبهم، مما يثير حسدها ويزيد من إحساسها بوحدتها، التي تجعلها تنظر ناحية المتسولين باحتقار تشوبه اللامبالاة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
إنها حالة اجتماعية تكاد تكون روائية في حملها عدداً من الدلالات والإشارات التي يوزعها الفنان على طول اللوحة توزيعاً يكاد يعكس الطبقية البريطانية الكداء، بصورة بديعة لكنها مخيفة في الوقت نفسه. وهو ما يعطي لوحات السلسلة الأربع نكهة تحليلية اجتماعية، لا ينقصها البعد السيكولوجي، إن نحن تنبهنا إلى تفصيل أدخله الرسام في لوحته، يعطيها بعداً روائياً آخر لا شك فيه. فنحن نلمح تحت طرف مئزر تلك السيدة، التي لا شك أن الرسام قد أراد لها أن تشغل مركز اللوحة لأهمية وجودها في المكان، طرف لوحة بورتريه تحملها ومن الواضح أنها تمثلها، ولكن لماذا تنقلها؟ ولماذا تحت مئزرها؟ ولماذا تظهر طرفها هنا؟ طبعاً نحن لا نملك أجوبة على أي من هذه الأسئلة، لكن في إمكاننا أن نخمن أن اللندني الذي يشاهد هذه اللوحة في ذلك الزمن، كان قادراً على تلمس إجابات قاطعة.
وهذا بالتأكيد ما يمكننا افتراضه بالنسبة إلى لوحة "الظهيرة"، حيث يشغل المركز شخصان يعبران، رجل وامرأته؟ ينتميان إلى طبقة وسطى، لكن الرسام يزرع من الإشارات ما قد يحدد علاقة لكل منهما بوضعية اجتماعية ما، قد تحيل إلى عمل أدبي أو مسرحي معين، تبرج المرأة الفاقع، واللون الأزرق الذي يغمر كفي الرجل، مما يوحي بكونه صباغاً أو مطبعياً.
وينطبق مثل هذا البعد التفسيري على أية حال على البيئة العائلية التي يصورها هوغارث في اللوحة الثالثة من السلسلة، "المساء"، ثم استطراداً على اللوحة الرابعة والأخيرة "الليل"، إذ يستعيد الرسام أجواء البؤس، ولا سيما من خلال النار التي أشعلها المتسولون الذين أعادوا انتشارهم أملاً في الحصول على ما يسد رمقهم، مع بدء مرور الموسرين متوجهين إلى سهراتهم. في اختصار هي حكايات ملهمة وجديدة المحلية رسمها هوغارث في هذه المجموعة من اللوحات أدخلت الحكايات والمواقف إلى كل بيت، كما أدخلت في طريقها ذلك الوعي الطبقي الذي لم يضاه المجتمع اللندني في قوته التعبيرية أي مجتمع آخر، وعرف الفن كيف يلتقطه بكل قوته وخبرته.