ملخص
لا ينتظر "الجيل Z" بياناً حكومياً، ولا يهاب المؤسسة التقليدية أو العقد الاجتماعي أو التراتبيات الراسخة، بل يصنع "الرأي" الخاص به عبر موجات متزامنة من رموزه وتعريفاته الخاصة لقيم مثل الخير والشر والصواب والخطأ. وبهذا المعنى، فإن تأثره وتفاعله لا يأتي من عناوين نشرة الثامنة أو مانشيتات الصحف، بل من كم المعلومات المتراكم لديه وتنوعها من كل الفضاءات، ومن مصادره الخاصة التي يثق بها.
كثيراً ما كانت المعرفة تنتقل بصورة عمودية، من الجد إلى الأب، ومن الأب إلى الابن، ومن الكبير إلى الصغير، ومن الشيخ إلى أتباعه، ثم من المعلم إلى التلميذ، وحتى من الصحافيين إلى القراء... وذلك عندما كانت مصادر المعرفة والمواقف التي تسمى في مجملها رأياً عاماً واضحة، لكن شيئاً جوهرياً تغير مع "الجيل Z"، الجيل الذي وُلد ونشأ وشبَّ مع الإنترنت وتطبيقاته، الجيل الذي يبني هويته ومواقفه في فضاءات رقمية لا تعرف سقفاً ولا حدوداً، فيتبادل المواقف "أفقياً" مع أقرانه لا "عمودياً" مع أوصيائه، لتنشأ بذلك تحالفات عالمية عابرة للحدود تُبنى على التواصل والتعريفات المشتركة لا على الصور النمطية المتوارثة ولا على المصادر التقليدية.
"الجيل Z" لا ينتظر بياناً حكومياً، ولا يهاب المؤسسة التقليدية أو العقد الاجتماعي أو التراتبيات الراسخة، بل يصنع "الرأي" الخاص به عبر موجات متزامنة من رموزه وتعريفاته الخاصة لقيم مثل الخير والشر والصواب والخطأ. وبهذا المعنى، فإن تأثره وتفاعله لا يأتي من عناوين نشرة الثامنة أو مانشيتات الصحف، بل من كم المعلومات المتراكم لديه وتنوعها من كل الفضاءات، ومن مصادره الخاصة التي يثق بها. حتى ولدت سردية عالمية بديلة للسردية التقليدية، سردية كونية جامعة لجيل يشكل شريحة واسعة عالمياً، يقرأ الأحداث وفق ثنائيات وتضادات قد تبدو بسيطة أو سطحية مثل الخير والشر، والحرب والسلام، والموت والحياة، لكنها في وعي هذا الجيل ذات سياق قوي ومتماسك.
وما يجعل هذا الجيل مميزاً هو استقلاليته المبنية على معارضته للتقليد والتقليديين، فهو لا يقبل أن يقاد بسهولة أو أن يوجه، بل يعتمد على أدواته ومصادره في التحقق والمقارنة قبل أن يتبنى أي موقف أو يسلم بما سلمنا به. إذ يتعاطى مفرداته ومصطلحاته الخاصة ويبني قناعاته من خلال شبكات داخلية ناشطة... بالتالي فإن مواقفه التي نستغربها وننبهر بجرأتها، ونتعمق في دراسة مصادرها، هي في حقيقتها مجرد تبادل أفقي عبر منصات خاصة تمثل مصانع للرأي العام الجديد. فالأفريقي الذي يحمل ذاكرة الفقر والنزوح وعدم المساواة، تتجاوب شبكاته بسرعة مع المظالم، من آسيا إلى أميركا اللاتينية، فتتداخل القصص، قمع الشرطة وجدار عازل ومجزرة وسجن، فيتولد موقف موحد ضد الظلم أينما كان بغض النظر عن تبريراته.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وما جرى أخيراً في نيبال مثال واضح يشرح الفكرة، فللمرة الأولى نرى حركة احتجاجية بهذا الحجم منزوعة القيادة التقليدية، لا زعيم كاريزمياً، ولا حزب منظماً، ولا نقابة تقود المشهد. ومع ذلك كانت القدرة على الحشد والتنظيم عالية جداً بفضل الأدوات الرقمية، إذ تحولت مجموعات وتطبيقات مثل Discord وTelegram وTikTok إلى ما يشبه "المقرات السياسية" الجديدة، إذ تكتب البيانات وتحدد أماكن التجمع وتدار النقاشات بصورة أفقية. هذه الطبيعة اللامركزية جعلت السلطات عاجزة عن "قطع رأس الحركة"، لأنها ليست مبنية على شخص أو نخبة صغيرة، بل على شبكة موزعة. وهذا يعني أن "جيل Z" يخلق عالماً سياسياً موازياً، يفرض سرديته من خلال عالمه الرقمي، ويرفض الإملاء العمودي من الحكومات أو الإعلام التقليدي، بالتالي، لن يبقى حبيس المنصات بل سيتحول خلال أعوام قليلة إلى ناخبين وبرلمانيين وصانعي قرار، وقادة رأي في الجامعات والشركات. وحينها لن يكون تأثيرهم مجرد ضغط رقمي أو احتجاج إلكتروني، بل إعادة تشكيل لموازين السياسة والإعلام من الداخل. وقد رأينا مؤشرات ذلك في حملات المقاطعة الاستهلاكية التي قادتها حسابات شبابية وأثرت في قرارات شركات ومنصات، وكذلك في تحركات الجامعات والشارع تجاه قضايا مثل غزة، إذ انتقلت بوصلة التعاطف عالمياً بكثافة لافتة نحو معاناة المدنيين، حتى صارت صور الدمار مادة ضاغطة أحرجت الموقف التقليدي، وانعكس ذلك على الثقافة الشبابية عندما خرجت احتجاجات واسعة ضد جرائم الاحتلال في غزة، وطرحت أسئلة محرجة، حتى لم يعد الاصطفاف مع الاحتلال في الغرب "بداهة" خارج المساءلة، بل بات موقفاً يدفع ثمنه سياسياً واقتصادياً.
"الجيل Z" لا يؤمن بموثوقية وشرعية من يملك المنصات التقليدية والصوت العالي، بل يؤمن بمن يقدم له رواية تخاطب عالمه... لهذا، فإن موقفه اللافت والقوي من الاحتلال الإسرائيلي على سبيل المثال ليس موجة عابرة، بل ملامح وعي أفقي جديد يعادي الفراغ الأخلاقي في السرديات التقليدية، ولديه الانتشار والأدوات القادرة على تغيير قواعد صناعة الرأي العام العالمي.