في أميركا تسمع كثيراً الحوار نفسه الذي يدور حول سؤال "من أين أنت؟". وقد يطرح السؤال شخص ما نشأ في الولايات المتحدة كلياً، حين يسمعك تطلب قهوة أو قطعة معجنات من نوع الـ"بَيغِل" أو شريحة بيتزا، فيجدها لحظة ملائمة للاستفسار. وقد تجيبه وأنت تهز كتفيك، مثلما يفعل الإنجليز، لكن باتقان أقل، "أنا من إنجلترا".
وقد يسألك آخر "من أي جزء في إنجلترا؟" بينما تظهر لك أسنانه البيضاء البراقة الرائعة وشعره اللماع، فتضطر إلى القول "من لندن"، لأنك إن ذكرت من أين أنت بالفعل فربما يقول "أنا لا أعرف ذلك المكان. هل هو قريب من "قصر بكنغهام" أو المرتفعات الاسكتلندية أو قرية منسية في "دِفون" زرتها مرّة وكنت في الخامسة من عمري، والآن أتوقع منك معرفتها لأن إنجلترا بالنسبة لي بحجم قرية غرينتش".
حتى الآن، يجري الحديث عادياً بينكما، ثم يأتي ما هو حتمي، "حسنا، أنا لا أعرف لندن، لأني آيرلندي".
لا بد أن المرّة الأولى التي انجرفتُ فيها إلى محادثة كتلك، كانت مع شخص لهجته من منطقة الساحل الشرقي الأميركي، لأنها تتماثل مع تلك المستعملة في جزء صغير من جمهورية آيرلندا. وفي الحقيقة، خامرني الظن بأنها المرةّ الثانية التي وقعت تلك المحادثة، لكني في المرة الخامسة بدأ ينتابني الارتياب. وبناءً على ذلك، ترتب عليّ أن أفعل مثل الآخرين، واستفسر من الآخر، "لكن أين في آيرلندا؟". عند ذلك قد يرفع الآخر يده بعصبية مجيباً عن سؤالك "آه، أنت تعرف الجنوب"، فتسأل مرة اخرى، "من كورك أو كيلكني؟"، فيرد عليك محادثك "حسناً، أنت تعرف..."، وبعد أن يضحك ثانية يجيبك "عائلتي من ضواحي دبلن". وهذا ما أعنيه، إنها دبلن دائما، أليس كذلك؟
لا تكمن البراعة في الكف عن طرح أسئلتك، وإلا فإنك قد تخرج من المكان معتقداً أنك التقيت شخصاً جاءت أمه من مدينة "لايمريك" الآيرلندية وقابلت والده في جامعة "ترينيتي كوليج" (في لندن) قبل هجرتها إلى نيويورك. قد يكون عليك أن تسأل عن العائلة التي ينتمي إليها، فتنكشف لك الحقيقة أخيرا، حين يخبرك محادثك بأنه من عائلة "تعود إلى خمسة عشر جيلاً إلى الوراء، نحن علمنا أن لنا ابن عم اسم عائلته "أومالي"، وافترضنا أنه قد يكون من تلك المنطقة".
وعند تلك النقطة، قد يكون مناسباً التذكير بأن طريقة التحقيق ليست ملائمة لكسب الأصدقاء، لكنها الطريقة التي ستجنبك إضاعة وقت طويل في الاستفسار من زميلتك التي تتابع معك دروساً في اليوغا، إذا كانت أمها "ستسافر إلى دبلن هذا العام خلال عطلة أعياد الميلاد"، بينما تكون أمها أميركية إلى حد غير قابل للجدل، ولم تفكر يوما في الحصول على جواز سفر، وستحضر عشاء عيد الميلاد لضيوفها في البيت البني الحجارة الذي ولدت فيه قبل 55 سنة بمنطقة بروكلين.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لا يحدث ذلك حصراً مع المتحدرين من سلالة آيرلندية. ثمة كثيرون يزعمون أيضا أنهم، لحسن الحظ، سويديون أو سويسريون أو إيطاليون (ولم أجد شخصاً يزعم أنه إنجليزي أو إسباني). إضافة إلى ذلك، هناك تقاليد كاملة تستند إلى هذه الهويات التي ليس لها صلة (أو إنها صلة ضئيلة) بتقاليد البلد الأصلي.
ومثلاً، هناك "صلصة أيام الأحد" التي تشكّل تقليداً تتمتع به العائلات الأميركية- الإيطالية، حيث يجتمع أفراد العائلة الكبيرة معا ليتناولوا كرات اللحم الطازجة المحاطة بالصلصة الإيطالية، مطلقين على صلصة الطماطم تسمية "المرق". أخبرني أحد الأصدقاء الأميركيين الإيطاليين أنه حين واجهته حقيقة أنه لا يوجد شخص مولود ومترعرع في إيطاليا سيفهم شيئاً إذا طلبتَ منه بعضاً من أفضل سباغيتي بالمرق لديه، لم يفعل سوى أن هز كتفيه باستنكار قائلاً "أميركيون إيطاليون، إذاً. نحن في كل الأحوال لا نعرف إذا كانت عائلتنا إيطالية حقاً. نحن خليط من الأجناس وقد أحببنا ذلك الأصل أكثر من غيره".
بالنسبة إلى شخص نشأ في أوروبا، تبدو عادة اختيار وتلبّس هويات وطنية مختلفة، أمراً شاذاً. لماذا لا يستطيع شخص في الولايات المتحدة أن يدعو نفسه أميركياً إذا سئل عن جنسيته؟ إذا أُخِذَ بعين الاعتبار الالتزام القوي بالوطنية لدى أبناء تلك البلاد، يبدو ذلك التصرف نوعاً من التنافر الإدراكي.
في المقابل، يجب أن تتذكر أن أميركا بلد حديث المنشأ، والناس فيه ما زالوا يرفعون أصابعهم مشيرين إلى مبنى ما قائلين لك بنبرة هامسة ووقورة، "تلك البناية تعود إلى أربعينيات القرن الماضي. هل بإمكانك تصور ذلك؟".
بالطبع، يمكنك أن تكون مشاكساً فتصر على أن شخصاً لم يسافر قط خارج نيويورك، لا يمكن أن يُعَدّ "سويدياً حقيقياً". وكذلك تستطيع أن تكتفي بالابتسام، وتهزّ رأسك، ثم تكتب مقالة في صحيفة تنشر على المستوى الوطني حول الكيفية التي يفهمون فيها هويتهم الموروثة.
© The Independent