ملخص
"واشنطن صنعت منظمة الأمم المتحدة كأداة للتعددية، لكنها قوضت صدقيتها حين تعارضت قراراتها مع مصالحها الخاصة". الباحث الأميركي ريتشارد هاس.
مع تقاطر مندوبو الدول الأعضاء على نيويورك لإحياء أعمال الدورة الـ80 للجمعية العامة للأمم المتحدة تحت شعار "معاً للأفضل"، تدخل المنظمة الدولية عامها الـ80 وهي محملة بأسئلة أكثر من أي وقت مضى: هل ستتمكن من تجديد شبابها عبر إصلاحات جذرية، أم ستظل أسيرة شيخوخة سياسية ومؤسسية تجعلها عاجزة عن مواجهة التحديات العالمية؟
فمنذ تأسيسها عام 1945 لتكون منصة للسلام والأمن الدوليين والتنمية وحقوق الإنسان، تجد الأمم المتحدة نفسها اليوم موضع تساؤل حول جدواها في عالم تزداد صراعاته وتشابكاته، في حين تتهم الدول التي أنشأتها وعلى رأسها أميركا بخذلان المبادئ التي أعلنها المؤسسون.
على رغم أدوارها التاريخية تبدو المنظمة عاجزة أمام الملفات المستعصية. ففي أوكرانيا حال الفيتو الروسي المتكرر دون أي تحرك حاسم من مجلس الأمن، مما جعل جهود الوساطة الدبلوماسية عقيمة. وفي الشرق الأوسط، ظل الملف الفلسطيني رمزاً لفشل المنظمة في كبح التصعيد، إذ تجاهلت إسرائيل قرارات متكررة، بينما لم تتمكن الأمم المتحدة من فرض وقف فعال لإطلاق النار في غزة. تقارير أممية حديثة اتهمت إسرائيل بارتكاب جرائم ترقى إلى الإبادة، لكن غياب آليات إنفاذ فعالة حول القرارات إلى مجرد بيانات سياسية. وتفاقمت الأزمة مع عجز مالي متزايد وصل في 2025 إلى أكثر من 2.4 مليار دولار نتيجة تأخر دفعات دول كبرى، وهو ما يهدد عمليات الإغاثة الإنسانية وحفظ السلام.
ويؤكد متخصصون أن دور الولايات المتحدة يظل الأكثر حسماً في هذا السياق. فمنذ تأسيس المنظمة برعاية الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت، كانت الأمم المتحدة إنجازاً أميركياً بامتياز، لكنها في الوقت نفسه عانت "الفيتو الأميركي"، الذي استخدم أكثر من 100 مرة في مجلس الأمن لمصلحة إسرائيل، مما حال دون وضع حد لأقدم نزاع في الشرق الأوسط. هذه المفارقة، كما يصفها الباحث الأميركي ريتشارد هاس، "تكشف عن أن واشنطن صنعت المنظمة كأداة للتعددية، لكنها قوضت صدقيتها حين تعارضت قراراتها مع مصالحها الخاصة".
فلسطين قد تمنحها قبلة الحياة
يرى متخصصون أن هذه المظاهر تمثل "شيخوخة هيكلية" ناجمة عن اعتماد المنظمة على بنية قديمة تمنح خمسة أعضاء دائمين حق الفيتو غير المحدود، بما يعطل الاستجابة للتحديات الحديثة مثل النزاعات الهجينة والتغير المناخي. ومع تزايد التوترات بين واشنطن وموسكو وبكين، تراجعت قدرة المنظمة على تشكيل أرضية مشتركة، بينما انعكس الاستقطاب على معنويات موظفيها وتماسك أجهزتها.
مراكز الدراسات الدولية، مثل "مجموعة الأزمات الدولية" و"مجلس العلاقات الخارجية"، تحذر من خطر انهيار المنظومة الأممية إذا استمرت أزمتها المالية وبنيتها غير الديمقراطية. تقرير لمجموعة الأزمات وصف الوضع بأنه "أكبر أزمة وجودية منذ التأسيس"، لكنه أكد أن الأمم المتحدة تظل شبكة أمان لا بديل عنها، سواء في إيصال مساعدات لملايين الأوكرانيين أو في توفير منصة للحوار حتى في ذروة الصراعات. من دونه، كما تقول مؤسسة Vision of Humanity، "سيصبح العالم أكثر فوضى".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويشير محللون إلى أن المسؤولية الأميركية تبقى محوراً أساساً في مستقبل المنظمة. فالولايات المتحدة هي الممول الأكبر، لكنها في الوقت نفسه تعرقل أحياناً مسارات الإصلاح أو التسوية. رفضها لمؤتمر "حل الدولتين" بعد غد برئاسة فرنسا والسعودية، عد من قبل خبراء "خطأ استراتيجياً" قوض آمالاً في دفع مفاوضات جادة، بينما يراهن آخرون على أن واشنطن، على رغم تحفظاتها، لا تزال قادرة على لعب دور قيادي في إنقاذ مبادرة الإصلاح "UN80" التي طرحها الأمين العام أنطونيو غوتيريش. ويقول المتخصص الأوروبي فولفغانغ إيشينغر، إن "الولايات المتحدة، بقدراتها المالية والبشرية والدبلوماسية، هي وحدها التي تستطيع إطلاق إصلاح حقيقي، لكنها غالباً ما تكون سبب التعطيل أيضاً".
العرب المؤسسون يبحثون عن "بارقة أمل"
في المقابل، تبرز بارقة أمل في الشرق الأوسط بعد اعتماد "إعلان نيويورك" بغالبية ساحقة في الجمعية العامة، داعياً إلى الاعتراف الدولي بدولة فلسطينية تمهيداً لمؤتمر "حل الدولتين" هذا الأسبوع يوم 22 سبتمبر (أيلول) الجاري. هذا التطور وصفه معهد ISPI بأنه "فتحة دبلوماسية نادرة لإحياء التعددية"، وقد يشكل اختباراً جديداً لقدرة المنظمة على أن تكون وسيطاً ذا صدقية. أما "المجلس الأطلسي" فحذر من أن الزخم قد يتلاشى سريعاً إذا لم تدعم واشنطن وحلفاؤها الغربيون هذا المسار.
وبعثت السعودية التي كانت هي ومصر وسوريا بين مؤسسي المنظمة عام 45 من القرن الماضي، وفداً رفيع المستوى برئاسة وزير خارجيتها الأمير فيصل بن فرحان آل سعود، وعدد من الوزراء والدبلوماسيين، بهدف الاستفادة من المناسبة التاريخية في إعطاء مزيد من الزخم للقضية الفلسطينية على هامش أعمال الجمعية العامة وعدد من المبادرات والاجتماعات الرامية إلى تعزيز الأمن والاستقرار الإقليمي والدولي، ودعم الجهود الدبلوماسية والإنسانية والتنموية، من أبرزها المؤتمر الدولي الرفيع المستوى من أجل التسوية السلمية للقضية الفلسطينية وتنفيذ "حل الدولتين" على مستوى القادة، والاجتماع الوزاري الرفيع المستوى للتحالف الدولي لتنفيذ حل الدولتين.
ويرى مراقبون أن بروز عالم متعدد الأقطاب قد يمنح الأمم المتحدة فرصة لتجديد شبابها، إذ لم تعد الولايات المتحدة وروسيا وحدهما اللاعبتان المهيمنتان، بل دخلت قوى صاعدة مثل الصين والهند والبرازيل في معادلة التوازن الدولي. هذا التحول، كما يصفه الأكاديمي الأميركي ستيفن والت، "قد يدفع إلى إعادة الاعتبار للتعددية، لأنه لا أحد من الأقطاب الجديدة قادر بمفرده على إدارة النظام الدولي".
وهكذا، تدخل الأمم المتحدة عقدها التاسع وهي على مفترق طرق بين تراجع يحولها إلى شاهد عاجز على أزمات عالمية متفاقمة، وتجديد يمنحها فرصة لإثبات أن قيمها التأسيسية لا تزال قابلة للحياة. كما قال غوتيريش، "الأمم المتحدة ليست مثالية، لكنها تظل أفضل من لا شيء". فهل تعود المنظمة منصة للتوافق وصناعة السلام، أم تظل شاهداً على تفكك النظام الدولي؟ الإجابة ستتضح مع اختبارات قادمة، من أوكرانيا إلى غزة والسودان واليمن وإثيوبيا ودول جنوب الصحراء، وحيثما تنشأ الصراعات والكوارث حول العالم.