Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الانتظار... عبء أم قوة خفية تُعيد صياغة حياتنا؟

ليس عائقاً يمنعنا من الألفة والعيش على أكمل وجه بل هو أساسي لكيفية تواصلنا كبشر

يُنظر إليه الآن على أنه غير مرغوب فيه وغير منتج ومُبذر والأهم من ذلك خمول لأنه غير منتج (بيكسلز)

ملخص

إن احتضان لحظات الانتظار يُذكرنا، ليس بالوقت الذي نضيعه، بل بالطرق التي يُمكننا من خلالها كشف أسطورة الثقافة اللحظية ووتيرة "الوقت الحقيقي" المتسارع.

تخيل أنك لتستطيع قراءة مادة في "اندبندنت عربية" تعيش لحظات انتظار، كأن يقول لك الموقع: انتظر ريثما يتم تجهيز المادة لتقرأها. أو انتظر دورك، هناك طابور طويل يريد قراءة هذه المادة. فما رد الفعل التي ستقوم به عندها؟

طبعاً لن تنتظر لتحسب رد فعلك الصحيح، بل ستسارع في أبسط الأحوال إلى إغلاق الموقع والذهاب للبحث عن المعلومة التي تريدها في مواقع أخرى، من دون أن تكون الأولوية لدقة هذه المعلومة وطريقة تناولها وتوضيحها، المهم أن تهرب من نار الانتظار، وتسرع لتثبت أنك فعلاً ابن هذا العصر الذي ضربت الحداثة قدرته على التريث، من دون مراعاة لطبيعة الإنسان الحقيقية المتناغمة مع قوانين الطبيعة والكون، أقله من خلال عملية الزرع والحصاد التي يكون وقت الانتظار رأس مالها وفعلها الحقيقي في النمو والإثمار والإنتاج، فكل شيء يحتاج إلى وقت ليكون أو ليتلاشى.

الانتظار ليس عبئاً

في كتابه "الاستجابة المتأخرة... فن الانتظار من العالم القديم إلى العالم الآني"، حاول جيسون فارمان استعادة الانتظار ليس كعبء، بل كسمة مهمة للتواصل الإنساني والحميمية والتعلم، فكتب "الانتظار ليس وقتاً فاصلاً، فهذا الوقت، الذي غالباً ما نكرهه ولا نُقدّره حق قدره، كان قوة صامتة شكّلت تفاعلاتنا الاجتماعية، فالانتظار ليس عائقاً يمنعنا من الألفة وعيش حياتنا على أكمل وجه، بل هو أساسي لكيفية تواصلنا كبشر من خلال الرسائل التي نرسلها. إذ يُشكّل الانتظار حياتنا الاجتماعية بطرق عديدة، وهو أمر يمكن أن يُفيدنا. الانتظار مُثمر، فإذا فقدناه سنفقد الطرق التي يُشكّل بها الانتظار عناصرَ حيوية في حياتنا، كالألفة الاجتماعية وإنتاج المعرفة والممارسات الإبداعية التي تعتمد على الفجوات التي يُشكّلها.

 

إن احتضان لحظات الانتظار يُذكرنا، ليس بالوقت الذي نضيعه، بل بالطرق التي يُمكننا من خلالها كشف أسطورة الثقافة اللحظية ووتيرة "الوقت الحقيقي" المتسارع. فتَعِدُنا مفاهيم الثقافة اللحظية بإمكانية تحقيق ما نرغب فيه فوراً، لكن هذا المنطق المُسيطر على المناهج الحالية في صناعة التكنولوجيا يُغفل قوة الانتظار ودوره المُتجذّر في حياتنا اليومية.

ومع أن الانتظار يختلف عن السكون، الذي هو حال وجودية أساسية أخرى مُهددة بالحداثة، في وجود شيء ننتظره وهو أمر ننتظره، إلا أنه يتشابه في أن إعادة ضبط تجربة الانتظار، ليس على أنها مُعقّدة بل خصبة، تتطلب سكوناً داخلياً معيناً يتحدى اندفاع الروح نحو المنتظر".

عالقون في الزمن

كتب إي بي تومسون أن الفراغ وعدم الجدوى المنسوبين إلى "الوقت الضائع" في الانتظار، متجذران في القيمة التي يوليها النظام الرأسمالي للعمل الإنتاجي، حيث يُقاس الوقت ويُسلّع ضمن إطار زمني بناءً على أهداف كفاءة القوى العاملة وتجنب الكسل ونفوره، وهكذا أصبح الوقت، وفقاً لتومسون، عملة تُقضى بدلاً من أن تُمرّر. والنتيجة الدائمة لهذا التحول هي أن الانتظار، في السياقات الغربية، يُنظر إليه على أنه غير مرغوب فيه وغير منتج ومُبذر، والأهم من ذلك يُنظر إليه على أنه خمول لأنه غير منتج.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ففي أوروبا، قبل قرون كانت أوقات العمل تُحدد بالمهمة لا بالساعة، وكان الناس يعملون عندما يكون هناك عمل، ويستريحون عندما لا يكون هناك عمل، ونتيجةً لذلك لم يكن هناك ما يُسمى يوم عمل، لم يكن ثمة تمييز واضح بين وقت العمل ووقت الراحة.

هذا ما يوضحه كتاب "عالقون في الزمن"، فيقول "كان الزمن في السابق يتنفس بشكل طبيعي، لم يكن مُقسّماً إلى دقائق وثوانٍ، بل كان يُقاس بإيقاع الطبيعة والشمس والقمر، وبإيقاع الجسد نفسه. كان الناس ينامون عندما يغلبهم النوم، ويستيقظون مع شروق الشمس، ويعملون حتى إشباع الحاجة، ويلتقون عندما تتقاطع مساراتهم بشكل طبيعي. لم يكن التأخير مفهوماً كما نعرفه اليوم، لأن اللقاءات لم تكن محصورة في موعد ضيق. كان الانتظار جزءاً طبيعياً من نسيج الحياة، وقت للاستراحة أو التأمل أو مراقبة العالم، وليس دقائق مُهدرة تُحسب ضدك. فلم يكن هناك جدول زمني يخنق اليوم، بل إيقاع حياتي يتكيف مع الفصول والظروف. لم يكن الذنب رفيقاً لأولئك الذين أضاعوا وقتهم، لأن الوقت لم يكن ملكية ثمينة يجب استثمارها حتى آخر قطرة، بل كان مساحة للحياة تتسع للعمل، للراحة، للّعب، والتواصل العفوي".

حدود الصبر

أما اليوم، فقد أصبح الوقت هو المال، والانتظار خطيئة يجب الهرب منها، وتشير الأدلة إلى أن نفاد الصبر أصبح شائعاً بشكل متزايد في عالمنا الحديث، وكشفت دراسة بحثية حديثة أجرتها شركة تحليل البيانات OnePoll عن بعض الأفكار القيمة حول حدود الصبر لدى 2000 شخص في المملكة المتحدة، وقد أشار عدد كبير من المشاركين إلى ارتفاع مستويات الإحباط بعد الانتظار، فاعترف 50 في المئة من المشاركين بأنهم ربما سينتقلون إلى طابور آخر إذا بدا أن الطابور الذي يقفون فيه يتحرك ببطء أكثر، واعترف 45 في المئة بفقدان أعصابهم عندما يضطرون إلى الانتظار لفترة مفرطة من الوقت.

 

وعلى نحو مماثل، كشفت دراسة أجرتها شركة أبحاث السوق "ويكفيلد ريسيرش"، عن بعض البيانات البارزة ذات الصلة بعدم صبر الناس، فوجدوا أن 72 في المئة يضغطون على زر المصعد المضاء بالفعل على أمل أن يأتي أسرع، و71 في المئة يتجاوزون الحد الأقصى للسرعة بشكل متكرر للوصول إلى الوجهة بشكل أسرع، وأكثر من 50 في المئة يغلقون مكالمة هاتفية إذا كانوا على الانتظار لمدة دقيقة أو أقل، وعليه تشير هذه المعلومات إلى أن عامة الناس يجدون صعوبة يومية في التحلي بالصبر عند مواجهة أي نوع من التأخير، فهم يتأثرون بسهولة، ولديهم فترة قصيرة من التسامح.

أثر التكنولوجيا

ويبدو أن التكنولوجيا تُجبرنا على توقع حدوث كل شيء من دون تأخير، فلا يتوقع الناس المعلومات الآن فحسب، بل أيضاً المنتجات والخدمات الفعلية الآن، إذ يتسلل الطلب على النتائج الفورية إلى كل ركن من أركان حياتنا، فتُلغي الهواتف الذكية انتظار توصيلة سيارة أجرة أو موعد غرامي أو طاولة في مطعم، ويبدأ بث الأفلام والبرامج التلفزيونية في ثوانٍ. وقد تم دعم هذه الادعاءات من خلال دراسة أخرى أجراها متخصصو خدمة العملاء في شركة KANA Software. 

 

وجدوا أن التكنولوجيا لعبت دوراً كبيراً في شكاوى وتوقعات خدمة العملاء، فقبل العصر الرقمي كانت عشرة أيام تُعتبر فترة زمنية مناسبة لتلقي رد، والآن مع إمكانية الوصول المباشر عبر الأجهزة الرقمية، انخفض متوسط ​​الإطار الزمني المتوقع بشكل كبير. وأفادت شركة KANA بأن 20 في المئة من جميع مستخدمي التكنولوجيا يقومون بالتحقق من الاستجابة مرة واحدة في الأقل كل ساعة، بينما يقوم 5 في المئة بالتحقق كل 10 دقائق. وهنا يجادل فارمان بأن المفارقة في الأمر كله هي أن التكنولوجيا التي تهدف إلى تقليل انتظارنا ينتهي بها الأمر إلى مركزيته.

العواقب والأفق

وعليه، فإن خلق توقعات بالتسليم الفوري يخلق ضغطاً داخلياً متزايداً للرضا الفوري، وهو الحاجة إلى الراحة، إذ يحذر الخبراء من أن هذه الحاجة لها ثمن. وعن هذا يقول المؤلف مارك مانسون في مقال له بعنوان "كيف تتحلى بالصبر في عالم ينفد صبره؟"، "إن مزايا الراحة قصيرة الأمد، ولها سلبيات ثابتة ودائمة، وعندما نُحسّن حياتنا بما يُناسب الراحة نُهيئ أنفسنا لشعور دائم بالانزعاج والاستحقاق".

وبما أن معتقداتنا حول ما يجب أن توفره لنا الراحة والتكنولوجيا ستظل دائماً لها حدود من شأنها أن تتحدى صبرنا، فالوعي النفسي بأن تطبيق سيارات الأجرة مثلاً قد لا يكون لديه سائقون في المنطقة عندما تحتاج إليهم، أو أن مكالماتك على الهاتف المحمول سوف تنقطع باستمرار، هو حقيقة محتملة في الحياة يجب أن نكون جميعاً مستعدين لها.

وفي كتابها "ساحة المعركة العقلية"، تقول جويس ماير "الصبر ليس القدرة على الانتظار، بل القدرة على الحفاظ على موقف جيد أثناء الانتظار"، لذا يجب علينا أن نعترف بأن نفاد الصبر سوف ينشأ دائماً عندما نحاول إجبار الحياة على إعطائنا ما نريده. وفي كتابه "الصمت يتكلم"، يذكرنا الكاتب إيكهارت تول بأنه "عندما يكون هناك صراع بين العالم الداخلي والعالم الخارجي سيكون هناك دائماً ألم ومعاناة، وعندما نستطيع أن ندرك ذلك ونغير موقفنا ونتخلى عن النزعة للسيطرة، سنكتسب إحساساً أفضل بالحرية"، لذا يقال "إن الأشخاص الأكثر سعادة يحاولون أن يلائموا الساعة مع حياتهم بدلاً من أن يجعلوا حياتهم ملائمة للساعة".

اقرأ المزيد

المزيد من منوعات