ملخص
لم يكن تجليد الكتب مجرد ورق ونايلون يلتصق على الغلاف، إنما طقس اجتماعي يعلن بداية العام الدراسي، يملأ البيوت بالضحكات ورائحة الورق الجديد. من الربط القبطي في مصر القديمة إلى الأفلام اللاصقة الحديثة، ظل الغلاف يمد الكتاب بعمر أطول ويحفظه لطلاب متعاقبين. وبين الفقاعات الصغيرة والـ"إتيكيت" بخط اليد، بقي التجليد بطاقة هوية وحنين جماعي يعاودنا كل خريف.
أغمضوا عيونكم وتعالوا إلى رحلة خاصة بهذا الفصل.
الرائحة تشبه المطر الأول ممزوجاً برائحة الورق الجديد الحاد والنايلون، يكفي أن نغمض أعيننا قليلاً حتى نشمها ونشعر بها، رائحة الخريف الأول وبرودة الطقس الخفيفة، التي كانت تعلن أن موسم المدرسة قد اقترب أو بدأ. تعالوا واجتمعوا حول طاولة أو على سجادة لتغليف الكتب المدرسية، لا شك في أن ألوان نايلون التغليف قد قفزت من ذاكرتكم البصرية المثقلة بالحنين إلى يومكم المثقل بالعمل والانشغالات كافة.
طقوس تغليف الكتب
من النادر أن نجد طالباً من أجيال ما قبل الأجهزة اللوحية لا يحمل ذكرى مرتبطة بتجليد أو تغليف الكتب، حينها كانت البيوت تضج بالأطفال، وكان لكل واحد مزاجه، لكنه ينضبط أخيراً بمريول المدرسة ولون التجليد الذي تفرضه المدرسة أو الأهل. فبعد صيف طويل من اللعب في الحارات، وتسلق الأشجار، والزيارات إلى بيوت الأجداد والقرى، كان التجليد بمثابة الانضباط الأول الذي يعيدنا لحياة منظمة.
كتب مغلفة، برنامج دراسي يومي، وحرص على أن تبدو كتبنا في أبهى صورة أمام المعلمين والزملاء. كانت تلك الأغلفة الصغيرة أقرب إلى بطاقة هوية اجتماعية، تظهر مدى اهتمامنا بكتبنا، وكانت وأحياناً موضع مقارنة بيننا وبين زملاء الصف.
رحلة صغيرة عبر الزمن تقودنا إلى فصل خاص من الذاكرة، حين كان أهلنا يشترون لنا الكتب المدرسية ومعها رولات أو لفائف التجليد. نعود للبيت فنقضي سهرة طويلة نجلد فيها الكتب، نلصق "الإتيكيت" بعناية، ونكتب أسماءنا بخط مرتب قدر الإمكان. ولم يكن اختيار لون التجليد يستغرق وقتاً طويلاً، يومها لم تكن الخيارات كثيرة، الشفاف والأزرق الشفاف فقط.
وعندما ظهر التجليد الملون، شعرنا كأننا اكتشفنا عالماً جديداً من الألوان. ولكن كان من الضروري دائماً أن يظل العنوان واضحاً، لذا بقي التجليد في حدود الشفافية. وكان النايلون يشد على الأطراف ويلصق من الداخل بقطع لاصقة، إذ لم يكن التجليد اللاصق الجاهز قد انتشر، بل ورق شفاف يحتاج إلى قص دقيق وصبر طويل. وعندما ظهر التجليد ذاتي الالتصاق، أصبحت العملية أسرع، لكنه بدا في بداياته رفاهية تخص العائلات الميسورة، وكذلك المزين بنقشات زهور أو خطوط هندسية أو رسوم للحيوانات.
وبين القديم والجديد، بقي للتجليد معنى أبعد من مجرد غلاف. كان إعلاناً لبداية العام، وطقساً يعيد للنظام مكانته في حياتنا بعد فوضى الصيف. هي أوقات محفورة في الذاكرة الجمعية، هي لحظات حنين جماعية، كنا نستعيدها كل عام مع رائحة الورق الجديد، كأنها إعلان صامت بأن موسم العلم والحياة بدأ من جديد.
وهكذا لم تقتصر عادة تجليد الكتب المدرسية على قص ورق ملون وورق لاصق يحيط بالدفاتر والكتب، فقد كانت طقساً اجتماعياً بامتياز. حينها كان البيت يتحول إلى ورشة صغيرة، قد يشارك فيها جميع أفراد العائلة، وتتناثر الضحكات والحماسة والنقاش بين المقصات والشريط اللاصق.
منذ متى نجلد الكتب
تجليد الكتب ليس اختراعاً حديثاً، فالعادة بدأت مع بدايات التعليم النظامي في المنطقة، حين كان الحفاظ على الكتاب المدرسي ضرورة اقتصادية، لأنه ينتقل من طالب إلى آخر. لم يكن الأمر ترفاً، بل حماية لرأسمال صغير هو الكتاب، ليبقى صالحاً لسنوات، اليوم تغير المشهد. صار بعض الأهل يفضلون عدم تجليد الكتب، وقد قلصت التكنولوجيا من قيمة الكتاب الملموس. بعضهم الآخر يستعين بخدمات المكتبات، التي تجهز الكتب في دقائق معدودة بآلات حديثة.
التجليد من الجلد إلى النايلون
التجليد بمعناه التقني القديم حكاية قديمة تعود للقرن الثاني الميلادي، حين ابتكر الرهبان الأقباط في مصر ما عرف بالربط القبطي، وهي خيوط متينة تجمع الملازم (الملزمة عبارة ورقة كبيرة تطوى وتقص لتشكل 16 صفحة). هكذا ولدت أولى أشكال التجليد كما نعرفه، ولم تكن الغاية منه التزيين إنما حماية النصوص المقدسة من التلف بسبب كثرة التداول. وعبر القرون الوسطى ثم الحديثة، تطورت تقنيات التغليف بالجلد والرق ثم الورق والقماش، قبل أن تنتقل الصناعة من العمل اليدوي إلى التجليد الصناعي.
عرف القرن 19 بثورته الصناعية، حين ابتكر الأميركي ديفيد سمايث آلات خياطة آلية للكتب وعرفت باسمه، وانتقل التجليد من ورش الحرفيين إلى خطوط الإنتاج، ليصبح في متناول ملايين الطلاب حول العالم، والهدف كان تقليل الكلفة والوقت مع الحفاظ على متانة الربط.
ولكن أول غلاف واق خارجي موثق يعود لـ1829 في بريطانيا.
وكان هذا الغلاف في البداية يلقى جانباً بعد شراء الكتاب كونه مجرد حماية موقتة للغلاف الداخلي الأصلي والمزخرف من الخدوش والأوساخ أثناء التوزيع والاستخدام، لكنه تحول لاحقاً إلى حامل بصري وتسويقي بحد ذاته. أما الغلاف الخالي من أية مواد بصرية ومجرد درع للكتاب تحول ليكون باكورة التغليف المدرسي للكتب، ثم تحول في منتصف القرن الـ20 إلى عادة مدرسية مع ظهور الأفلام اللاصقة، وهي عبارة عن مواد رقيقة ومرنة على شكل شرائط أو لفائف، مصنوعة غالباً من البلاستيك أو الورق أو مواد مركبة. بذلك دخل البلاستيك والورق اللاصق إلى بيوتنا، حتى صار مشهد المقصات واللاصق والفقاعات الصغيرة تحت الغلاف جزءاً من ذاكرة جماعية. كما ظهرت لاحقاً حلول أخرى لتغليف بلاستيكي جاهز بجيوب تدخل إلى طرفي الكتاب أو الدفتر وصولاً إلى التغليف الشفاف اللاصق، ثم إلى الأغطية القماشية المطاطة قابلة للاستبدال والغسل، وكلها لخدمة بيئات مدرسية تتطلب حماية سريعة وإمكان نزع وإعادة الاستخدام.
تدوير الكتاب وترشيد الإنفاق
في بعض المدارس العربية تضاعفت أهمية التغليف لسبب اقتصادي واجتماعي وبيئي، فالكتاب المدرسي غالباً ما يعاد استخدامه لسنوات، ولهذا كان الأهل يحرصون على تغليفه لحمايته من الرطوبة والتمزق.
وقد أصدرت وزارة التربية في المملكة الأردنية عام 2022 تعليمات رسمية لاسترداد كتب الصفوف العليا وإعادة توزيعها، بهدف تدوير الكتب وترشيد الإنفاق وتقليل الهدر. هذه السياسة كثفت شعبية التغليف لحماية الكتب طوال العام. ونشرت السعودية تعاميم متكررة تؤكد أهمية الحفاظ على الكتاب وتسليمه نهاية كل فصل، مع رسالة بيئية بعدم إتلاف الكتب. أما في البحرين فقد أقامت إدارة لتوزيع واستلام منظم للكتب وتحديثات رسمية بمواعيد التسليم والاستلام كل عام، مما ينسجم مع ثقافة المحافظة على الكتاب.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لماذا نجلد الكتاب؟
لأن الكتاب لم يكن يوماً مجرد أوراق وحبر، فهو عالم من السحر والمعرفة يحتاج إلى غلاف يحافظ عليه من مرور الزمن وأصابع الطلاب الذين يخبئون قلقهم في صفحاته، فيرسمون على الغلاف تارة، وقد يشوهون معالمه تمزيفاً أو قلة اهتمام، وهكذا فإن أول أسباب التجليد كان الحماية والمتانة. منذ العصور الأولى وجد التجليد ليمنح النصوص عمراً أطول، أن ما بين الدفتين فيستحق أن يعيش أكثر من صاحبه، ولكن مع الكتب المدرسية يلعب الاقتصاد وإعادة الاستخدام دوراً مهماً. فكثيراً ما ورث الأخوة كتبهم لإخوتهم الأصغر أو استبدلت مع طلاب آخرين، فالكتاب المدرسي لم يكن يوماً ملكاً فردياً، بل ضيفاً ينتقل من طالب إلى آخر، أو من صف لصف، لذا يحتاج إلى معطف خارجي يحفظه من الشطب والتمزق.
ومن البلاستيك الشفاف الذي يلمع تحت ضوء الغرفة إلى الأقمشة والألوان التي تمنح الكتاب شخصيته الخاصة، كان الغلاف يترك مساحة صغيرة يكتب فيها الطالب اسمه، كأنها بطاقة تعريف أو توقيع شخصي. وكل الأغلفة هدفها النظافة والإبقاء على الكتاب سليماً قادراً على إتمام واجباته مع أكثر من تلميذ ولسنوات عديدة، وكلما كان التجليد متقناً أطال بعمر كتابه الزائر.
ذاكرة شخصية وطقس اجتماعي
تتذكر زهراء ستيورات أن والدتها كانت تتولى تجليد الكتب، ثم راحت هي تشارك في هذه المهمة مع مرور السنوات. بالنسبة إليها، كان عالم القرطاسية بأسره يبعث على الفرح، وكانت زيارة المكتبة لشراء الأغراض المدرسية لحظة احتفالية بحد ذاتها. تعترف أنها لم تعد تجلد الكتب اليوم، لكنها تحتفظ بحنين قوي لتلك الأجواء. حتى الفقاعات الصغيرة التي كانت تظهر تحت الجلادة اللاصقة لم تكن مصدر انزعاج، بل لعبة بريئة كانت تستمتع بها وكأنها جزء من الطقس.
وترى آلاء حيدر في التجليد علامة فارقة لبداية العام الدراسي، كانت تفرح بالكتب الجديدة المغلفة، وتعتبر تلك اللحظة رمزاً للانطلاق من جديد. تقول إن ابنها اليوم لا يختبر التجربة نفسها، إذ لا يحتاج إلى كتب أو قرطاسية كما كان الحال في الماضي، فتتمسك هي بتجليد دفاتره البسيطة لتعيد لنفسها طقساً ارتبط بطفولتها. وتروي كيف كان ظهور الفقاعات تحت الغلاف يثير المرح قديماً، بينما الآن يبعث فيها شعوراً بأن العمل لم ينجز كما يجب.
وتقول جنين "ما أذكره من أيام تجليد الكتب أن اللون الأزرق كان بالنسبة إلينا رمزاً للرقي والكلاسيكية، بينما الشفاف يبدو متواضعاً قليلاً، أما الألوان الزهرية وغيرها فكانت خارج القائمة تماماً. كان التجليد بالنسبة إلينا جلسة مميزة لا تنسى، فالفكرة كانت دائماً أي كتاب سيبدو أجمل وأرتب، خصوصاً أننا كنا إخوة متتابعين في الصفوف، فنرث أحياناً كتب بعضنا بعضاً، إذا كانت حالها تسمح، ونحاول أن نعيد لها حياة جديدة من خلال التجليد. صحيح أن الغلاف يحمي الكتاب من الخارج، لكنه لم يكن يمنع ما في الداخل من صفحات مطوية أو مشروخة. ومع ذلك، في الأقل كان الغلاف يعطي الكتاب مظهراً لائقاً".
مواقف من تحت التجليد!
من جهته يخبر صلاح إنه كان في مدرسة بقرية صغيرة، وكان التجليد هناك قصة بحد ذاته. فالأساتذة والمعلمات كانوا يتفحصون الكتب المغلفة وكأنها معيار للنظام، هذا مجلد بطريقة مرتبة، وذاك كيفما اتفق. بعض الأهالي لجأوا إلى إعادة استخدام أوراق قديمة مستخدمة، أو حتى أقمشة في تغليف الكتب. "أذكر أننا كنا نرى كتباً مغلفة بأكياس نايلون الخبز، حتى إن طبعة الكيس كانت تظهر بوضوح على الغلاف، وكان ذلك مدعاة للسخرية بين التلاميذ، وذات يوم سخرت معلمة من أحد الطلاب قائلة ’هل جئت بربطة خبز أم بكتاب؟ هل ستأكل الكتاب؟‘، لا أنسى وجه الطالب حينها، فقد شعر بإهانة بالغة، ولم يكن وقتها بيننا من يعرف معنى كلمة ’تنمر‘، لكننا أدركنا أنها قسوة جارحة. واليوم، حين أتذكر الموقف، أشعر بمرارة لما عاشه ذلك التلميذ من خجل أمام رفاقه".
وتروي نهى حرب أن الجزء الأصعب في عملية التجليد كان قص شريط اللصق، لم تكن هناك رولات منظمة "للسكوتش" كالتي بين أيدينا اليوم، بل كانت تقطع بالمقص كيفما اتفق. كبيرة أو صغيرة، يصعب التحكم بها. "كنت أنزعج إذا خرجت أطوالها غير متساوية، أو التصقت بصورة عشوائية. ولا أنسى يوماً، بعدما أنهينا تجليد أحد الكتب، اكتشفنا وجود مسطرة صغيرة محشورة بين الغلاف والكتاب، حاولنا سحبها، فمزقنا جزءاً من الداخل وأعدنا العمل من جديد. ما زالت هذه الذكرى تضحكني حتى الآن، إذ كلما رأيت كتاباً مجلداً أتفقده بخوف أن يكون داخله شيء منسي، كقلم صغير أو مسطرة سقطت سهواً!"
وتقول تهاني النوري "كنت أستمتع كثيراً بتجليد الكتب، وخصوصاً لحظة شد الغلاف بالمسطرة ليبدو مستقيماً تماماً. كنت أميل أكثر إلى استخدام التجليد الملون، فإذا صادفت صورة لأشخاص على الدفتر غلفته فوراً، أما إن كان يحمل رسوماً من الزهور والورود، كان يسعدني أكثر ويزيد الكتاب جمالاً، فالتجليد بالنسبة إلي لم يكن مجرد حماية للكتاب، بل إضافة تمنحه روحاً خاصة.
في السنوات الأخيرة، صرت أرسل كتب أولادي إلى المكتبة القريبة لتجلد هناك في مقابل سعر معقول جداً، لكن ذكرياتي مع التجليد ما زالت حية. أكثر ما يثير الحنين في داخلي "الإتيكيت" التي كنا نكتب عليها الأسماء. أولادي اليوم يختارونها كما كنت أفعل، نقضي ساعات في انتقاء الأشكال والرسوم، وأظن أنني ما زلت أحتفظ ببعضها في بيت أهلي، كنت أحب جمعها وأعتبرها جزءاً من متعتي الصغيرة التي لا تنسى.
بين الحنين إلى الفقاعات التي تتحول إلى لعبة، ورائحة الورق التي تبشر ببداية جديدة، يتضح أن التجليد ليس مجرد وسيلة لحماية الكتاب. هو طقس اجتماعي ونفسي، جزء من ذاكرة شخصية لكل طالب عايش تلك اللحظات. ومع تغير صورة التعليم اليوم، واختفاء الكتب الورقية تدريجاً لصالح الوسائل الرقمية، يبقى التجليد شاهداً على عصر مضى، وذكرى حية تتناقلها الأجيال بحنين وابتسامة.
وأنت ماذا تتذكر من أيام حفلات وورش التجليد؟