ملخص
البكاء ليس هشاشة كما صُور لنا، بل آلية مقاومة وشفاء. دمعة صادقة قد تخفض ضغط الدم، تفرغ التوتر، وتعيد التوازن للجهاز العصبي، فمتى وأين نبكي؟
كثيراً ما سمعنا عن فوائد الضحك، حتى أصبح له يوغا باسمه، ومنصات متعددة تحتفي به، من "ستاند أب" كوميدي والمسرحيات الضاحكة والأفلام الكوميدية والنكات التي تنتشر على منصات التواصل وسواها، هازماً غريمه الأبدي المتمثل في الحزن والبكاء.
وبين البكاء والضحك أيضاً قصة عضلات، فحين يندفع الفرح من الأعماق يكفي أن تنسجم 10 عضلات أو أكثر في الوجه لتضيء ابتسامة صغيرة، وإذا اتسعت الضحكة وشاركتها العينان والخدان، تتحرك 43 عضلة. أما البكاء فله لغته الخاصة، إذ تنقبض عضلة العين الدائرية وتلتحق بها عضلات الشفاه والوجنتين، فيتداخل عمل ما بين 23 و40 عضلة تقريباً، هذه الانقباضات العضلية تسهم في شيخوخة الوجه وظهور العلامات فيه، لكنها أيضاً تشبه الضحك المفرط الذي يترك آثاره على الوجه أيضاً. فعندما تشاهد علامات الوجه الظاهرة فإنها دلالة إلى أن الشخص الذي يملكها قد عبّر جيداً عن مكنوناته بكاء وضحكاً.
وكما للضحك مسرحه ومنصاته بات للبكاء أيضاً مطارحه، حتى تلك البعيدة من أحزان الفقد والموت والمرض والهجران، مطارح داخل شاشة تنقل الحزن وتستدر البكاء بهدف التنفيس عن الضغوط. فما قصة البكاء؟ وما هي فوائده؟
التطهير العاطفي
حين تفيض الدموع، تحمل في قطراتها الماء المالح من جهة، لكنها تقوم بمهمة سحب شحنات من التوتر والضغط، ما يطلق عليه علماء النفس "التطهير العاطفي"، أي تفريغ المشاعر المكبوتة بطريقة تسمح للإنسان أن يتنفس الصعداء من جديد. إذ بعد موجة بكاء صادقة، غالباً ما نشعر بخفة في الروح، كأن ثقلاً انزاح عن صدورنا. إذ تحتوي الدموع العاطفية على هرمونات مرتبطة بالتوتر مثل البرولاكتين والأدرينوكورتيكوتروبين، والتخلص منها يخفّض القلق ويعيد التوازن للجهاز العصبي.
كما أثبت العلم أن للدموع وظيفة جسدية بحتة، لا علاقة لها بالشعور والمزاج والحالة النفسية. فهي ترطب العين وتحميها من الجفاف والميكروبات بفضل إنزيم يدعى "الليزوزيم" المضاد للبكتيريا. وبحسب "مايو كلينك" فإن الدموع الناتجة من الانفعال، تؤدي إلى إفراز الإندورفينات، وهي مسكنات الألم الطبيعية في أجسادنا، ما يفسر شعور الراحة بعد البكاء، كما يخفض البكاء معدل ضربات القلب وضغط الدم، وكأنه عملية إعادة ضبط داخلية.
البكاء أفضل تفريغ
ولكن بعيداً من المختبرات، للبكاء وجه اجتماعي أيضاً ممعن في القدم. فعندما يبكي الإنسان أمام غيره، فإنه يرسل إشارة غير لفظية تطلب المساندة، إنها تلك الإشارة التي تستدعي نجدة، وكأنها لغة خاصة بين البشر لا تحتاج إلى مفردات، تدعو للتعاطف والاحتواء وتكسر الحواجز. ويقوم البكاء بمهمة تفريغ المشاعر مثل بعض أنواع العلاجات التي من شأنها التنفيس وإعادة التوازن مثل العلاج بالصراخ Screaming Therapy، أو ما يسمى بالعلاج بالصراخ البدائي Primal Scream Therapy، الذي طوره الطبيب النفسي الأميركي آرثر جانوف في سبعينيات القرن الماضي، ونشر كتاباً بعنوان "الصرخة البدائية"، يعتبر فيه أن الصراخ يمكن أن يحرر الشخص من اضطراباته العصبية، وبحيث تتلخص الفكرة بإخراج الألم النفسي عبر الصراخ بأعلى صوت". لكن أبحاثاً عديدة نشر بعضها في مجلة Psychology Today أشارت إلى أن الصراخ يمكن أن يعطي راحة لحظية، لأنه يحفز الجهاز العصبي الودي، ثم يترك الجسم يدخل في حال ارتخاء بعده، لذا فمفعوله قصير المدى، وقد لا يغير جذور المشكلة العاطفية إذا لم يدمج بأساليب علاجية أخرى.
وتنظم في بعض العيادات في اليابان وكوريا جلسات صراخ جماعي للموظفين كوسيلة لتخفيف ضغط العمل. ويشعر المشاركون بالراحة بعد الجلسة، لكن الأثر عادة موقت.
تفريغ من نوع آخر يتجلى بالتحطيم، كتكسير الزجاج أو ضرب مجسّم ما قد يكون دمية على شكل مدير أو رئيس مؤسسة معينة. والفكرة تفريغ الغضب على جسم بديل بدل الشخص الحقيقي، ولكنه يدخل ضمن ما يسمى العلاج بالتفريغ العدواني Aggression Venting، ومثل الصراخ يعطي شعوراً فورياً بالارتياح، لكنه يمكن أن يعزز السلوك العدواني على المدى الطويل، لأن الدماغ يتعوّد على ربط الغضب بالفعل العنيف بحسب ورقة بحثية لبراد بوشمان نشرت عام 2002 في مجلة علم النفس الاجتماعي والشخصية.
ويوجد في الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا ودول أخرى ما يعرف بغرف الغضب Rage Rooms حيث يدفع الناس المال لكسر صحون وزجاج وأثاث. ويقر المشاركون أنهم يشعرون براحة بعد الجلسة، إلا أن الدراسات تشير إلى أن هذه الممارسات لا تعالج المشاعر العميقة بل تؤجلها. لذا يعد من الأفضل التفريغ من دون عوارض جانبية، وفي هذا المجال تظهر الرياضة والمهارات البدنية مع الصراخ كحل صحي نفسياً وجسدياً، ويكون التفريغ حركياً وصحياً، لأن التمارين الرياضية، خصوصاً التي تتطلب مجهوداً كبيراً كالركض السريع، الملاكمة، الكيك بوكسينغ (نوع من فنون القتال والملاكمة يعتمد على اللكم والركل)، تساعد على خفض هرمونات التوتر وزيادة إفراز الإندورفينات مثلما يفعل البكاء. كما تعطي أثراً طويل المدى لأنها تبني قدرة الجسد على التعامل مع الضغوط، ولا تحمل أخطار تكريس السلوك العدواني كما في التكسير والضرب. وتعد الرياضة أقرب للبكاء في الأثر الصحي، وحتى أكثر فاعلية على المدى الطويل لأنها تبني آلية مستمرة للتعامل مع الضغط.
وهكذا يظل البكاء فريداً لأنه يجمع بين تفريغ نفسي داخلي يتجلى في إخراج هرمونات التوتر، ووظيفة اجتماعية تتجلى في استدعاء التعاطف والدعم.
بكاء اليابان وكفكفته
وقد نشرت شبكة CNBC تقريراً عام 2018 أثار الجدل حول ما سمي بمعلمي البكاء في اليابان، حيث ينصح الموظفون بالبكاء مرة واحدة أسبوعياً لتخفيف ضغوط العمل، باستخدام أفلام أو كتب أو موسيقى حزينة. لاحقاً، أوضح حساب "اليابان بالعربي" أن ما ورد عن "مدربي البكاء" أقرب إلى الأساطير الإعلامية، ولم يصل اليابانيين أي تعليم رسمي بهذا الخصوص.
ومع هذا، ذكرت "ناشيونال جيوغرافيك" أن اليابان وجدت للبكاء صيغة جديدة اسمها "روي كاتسو"، أي "نشاط البكاء"، إذ يجتمع الناس لمشاهدة مقاطع مؤثرة ثم يُتركون ليذرفوا دموعهم بلا خجل.
وكذلك فإن فكرة أخرى أطلقها رجل الأعمال الياباني هيروكي تيراي لم تبقَ تجربة شخصية، وصارت خدمة متكاملة يشارك فيها ما يعرف بـ Ikemeso Danshi، أو "الفتيان الوسيمون"، الذين يرافقون المشتركين ويمسحون دموعهم أيضاً. وقد وصفت "ذا أتلانتيك" هذه الجلسات بأنها محاولة جماعية لتفريغ الضغط النفسي في مجتمع يقدّس الانضباط ويكبت العاطفة. وكانت مجلة "تايم" قد ذكرت أن بعض المكاتب في طوكيو تسمح للموظفات باستئجار "رفيق بكاء" ليشاهدن معه فيلماً حزيناً أثناء العمل، وكأن اليابانيين ابتكروا صيغة رسمية للدموع.
البكاء والحزن الجماعي
تشهد الديانات طقوس حزن أو بكاء بهدف تذكر تاريخي لمأساة ما كما في "الجمعة العظيمة" ذكرى صلب المسيح لدى المسيحيين، أو لمأساة كربلاء لدى المسلمين الشيعة، ذكرى مقتل الحسين ورجال عائلته وأصحابه. ولهذه الممارسات آثار عميقة على الصعيد النفسي والاجتماعي. ويرى علم النفس أن الحزن الجماعي، بما فيه البكاء، يحرر هرمونات التوتر ويفرز الإندورفينات، ما يمنح إحساساً بالراحة بعد الألم. وحين يكون البكاء جماعياً، كما في مجالس "عاشوراء"، فإن المشاعر تتضاعف عبر ما يسمى العدوى الانفعالية Emotional Contagion إذ يتأثر الشخص بدموع الآخرين، فيشعر بانتماء قوي ويفرغ حزنه بشكل أعمق. ولا ينحصر البكاء هنا بالحزن على الماضي، بل يعلن فيه الباكي رفضه الظلم وتجديد ولائه للمبدأ الذي يحتفي به.
وكما في المسرح التراجيدي الذي تحدث عنه أرسطو، يوفر مشهد كربلاء مساحة للتطهير الوجداني، فيعيش الحضور المأساة، ويذرفون دموعهم، ثم يخرجون بشعور من الصفاء والراحة، وكأنهم أعادوا ترتيب انفعالاتهم. كذلك فإن الطقوس الدينية العاطفية كالحج، أو الطقوس الصوفية، تعد تجارب تخفّض معدلات الاكتئاب والقلق لدى المشاركين لأنها تمنحهم وسيلة آمنة للتعبير عن المشاعر بحسب كتاب صدر عام 2009 بعنوان "كيف يغير الله دماغك" للكاتبين أندرو نيوبيرغ ومارك والدمان.
وتساعد المشاركة في الألم الجماعي بتعزيز التضامن، وتُشعر الفرد أنه ليس وحيداً في حزنه أو في قضيته، ما يصفه عالم الاجتماع الفرنسي إميل دوركايم بالتلاحم الاجتماعي إذ تذوب الفردية في الشعور الجمعي، ويخرج المشاركون بانتماء أقوى لجماعتهم.
وغالباً ما تذكر عبارة أن كل شخص يبكي مآسيه وأحزانه الخاصة، وتساعد المناسبات الدينية أو المآتم والتعازي التي يكون فيها البكاء واضحاً وجماعياً في تأليب مشاعر المشاركين حتى لو لا يعرفون الشخص المتوفي.
حراس الطقس العاطفي للمجتمع
وفي الحضارات القديمة عُرف الندابون وامتدوا حتى عصرنا، ومهنتهم الإبكاء إما من خلال الكلام الشعري الحزين والمواويل، أو من تعداد مزايا الميت بأسلوب تراجيدي يُبكي الحاضرين، وكلما كان الإبكاء قوياً يعد موظف الندب ناجحاً ومطلوباً. أما قديماً، فكان موضوع الندب ومحترفو البكاء والحداد من أعمق الطقوس الإنسانية، لأنه يعكس كيف حولت المجتمعات الحزن الفردي إلى طقس جماعي منظم. ويكاد وجودهم أن يملأ العالم من وادي النيل إلى الصين القديمة، مروراً باليونان وروما، وحتى المجتمعات العربية.
وأطلق على الندابات المحترفات في مصر القديمة "المعوّلات"، ويظهرن في بعض النقوش على جدران المقابر يلطمن وجوههنّ، وهنّ يعلنّ الحزن ويعملن على انتقال الميت إلى العالم الآخر بطريقة لائقة عبر الصوت الجماعي الحزين، كما يذكر الباحث الألماني يان أسمان في كتابه "الموت والخلاص في مصر القديمة".
وفي روما واليونان كانت الندابات يستأجرن في الجنائز، ويعددن مناقب وصفات الميت ويلطمن ويبكين بأصوات عالية. ووصف أرسطو هذه الطقوس بأنها نوع من "التطهير الجماعي الذي يشبه التراجيديا المسرحية.
وقبل الإسلام كانت النياحة أو الندابة تستأجر للندب على الميت بعبارات شاعرية وغنائية، وعلى رغم أن الإسلام نهى عن "النياحة المأجورة" إلا أنها ما زالت شائعة حتى الآن في بعض أرياف الدول العربية.
وكانت الندابات المأجورات يقدن مسيرات الجنازة في الهند والصين بالبكاء والنواح أياماً عدة، ويملأن المكان بصوت الحزن الجماعي، ما يدل إلى مكانة الميت وتكريمه بخاصة لدى الهندوس.
وما زالت مهنة الندابين قائمة في بعض القرى بالهند والصين وأفريقيا، وأحياناً في الأرياف العربية بشكل محدود. وحيث يقوم البعض بالندب من دون تقاضي أجر وكأنه يقدم خدمة تعاطف فائقة لأهل الميت. أما في الغرب فقد اختفت تقريباً كمهنة، لكنها عادت بشكل رمزي في بعض أغنيات "الجاز" الجنائزية في المآتم مثلاً في نيو أورلينز التي تحول الصوت فيها من نواح إلى موسيقى، حيث تبدأ الجنازة بلحن بطيء وحزين، ثم تنقلب إلى "جاز" راقص يحتفل بحياة الميت، في موكب يبدأ بجزء جنائزي بطيء وحزين تؤديه فرقة موسيقية صغيرة بالآلات النحاسية، تعزف ألحان روحية حزينة ترافق النعش، وبعد الدفن ينقلب المشهد فجأة إلى موسيقى مبهجة وإيقاعات راقصة، وينضم الناس المعزون خلف العائلة والفرقة، يرقصون ويهتفون احتفالاً بحياة الميت.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الفن يعطي الإذن بالبكاء
لكن ليست كل دمعة تأتي صدفة، بعض النساء وجدن في تقطيع البصل حجتهنّ المثلى، فهناك، بين لوح التقطيع وسكين المطبخ، تنهمر الدموع من دون أسئلة محرجة ولا تبرير ثقيل. والمركب الذي يطلقه البصل يتكفل بدور الصديق، ويمنح العيون فرصة أن تفرغ ما حملته من أثقال تحت غطاء كيماوي مشروع. وأحياناً يبحث الإنسان عن سبب للبكاء، عن مشهد يفتح الباب أمام مشاعر مكتومة، فيلجأ كثيرون إلى مشاهدة الأفلام الحزينة، في مشهد تتحول فيه الشاشة إلى مسرح آمن للتطهير العاطفي. فعندما تنهار بطلة الفيلم أمام موت الحبيب، على سبيل المثال، أو يتألم البطل من فراق أمه، يبكي المشاهد ليس فقط تعاطفاً مع القصة التي يشاهدها، لكن لأن دموعه الخاصة كانت تنتظر إذناً بالانفجار. فيصبح الفيلم وسيلة لتفريغ التوتر وإعادة التوازن النفسي. والذين يبكون عادة أثناء مشاهدة الأفلام أو المسرحيات أو عند سماع أغنية حزينة أو قراءة قصة هم الأشخاص ذوو الحساسية العاطفية العالية، والذين يعانون ضغوطاً مكبوتة. وتعد القصص والأفلام والفنون التي تستدر البكاء بيئة محمية، حيث القصة خيالية، لكن رؤية شخصيات تبكي تحفّز العدوى الانفعالية كما يسميها علماء النفس، والنتيجة النهائية تطهير وجداني، يخرج فيه المشاهد من قاعة السينما أو أمام الشاشة وكأنه ترك بعضاً من أثقاله خلفه. وتشكل الأفلام الحزينة طقساً شخصياً للراحة النفسية، مثل فيلم "تيتانيك" وNotebook وسواهما. وتنشر بعض المجلات ووسائل الإعلام لوائح لأفلام أو مسلسلات "مؤثرة ستجعلك تبكي بحرقة"، ما يدل إلى اهتمام القراء في إيجاد تلك الفسحة لذرف الدموع.
دموع النساء أكثر
وتشير دراسة لماري بيث أوليفر نشرت عام 2000 بعنوان "دراسة العوامل المرتبطة بالاختلافات بين الجنسين في الاستمتاع بالأفلام الحزينة" إلى أن النساء أكثر ميلاً لاستخدام الفن لاستدعاء البكاء، على رغم أن الرجال أيضاً يلجأون إلى السينما في لحظات الوحدة أو الانكسار. أما المراهقون فيرون في الدموع وسيلة لفهم أنفسهم وبناء هويتهم العاطفية، بعد أن هجروا البكاء منذ الطفولة حيث بكاؤهم كأطفال كان مقبولاً ومبرراً وطبيعياً.
وفي مقال كتبه الدكتور بول زاك، الأستاذ في جامعة "كليرمونت" للدراسات العليا، ونشر بمجلة Psychology Today، فإن مشاهدة مقاطع مؤثرة من الأفلام ترفع هرمون الأوكسيتوسين بنسبة تصل إلى 47 في المئة، وهو الهرمون المسؤول عن التعاطف والارتباط الاجتماعي. هذا الارتفاع يجعل المشاركين أكثر عطاء وسخاء حتى تجاه غرباء، كما تبيّن أن النساء أكثر استجابة من الرجال، وكذلك فإن الدماغ لا يميز بين إنسان حقيقي على أرض الواقع وصورة متخيلة على الشاشة، وكلاهما كافٍ لإطلاق الدموع والتعاطف.
البكاء المكبوت مرض
ليس البكاء في الحداد مجرد تعبير عاطفي، فهو جزء من عملية نفسية طبيعية تساعد على استيعاب الفقدان. لكن في مجتمعات كثيرة، يتوقع من الناس، بخاصة الرجال أن يتماسكوا ولا ينهاروا، ما يجعل الكبت سيد الموقف، لكن هذا الكبت قد يبدو قوة من الخارج، يترك داخله ندوباً نفسية وجسدية بسبب الحزن غير المعاش أو المؤجل، وقد يظهر لاحقاً في شكل اكتئاب، أو قلق، أو حتى انفعالات غاضبة بلا سبب واضح، ويحمل الجهاز العصبي الضغط غير المفرّغ، ما يزيد من معدلات الأدرينالين والكورتيزول في الدم، وقد يؤدي إلى مشكلات جسدية مثل الأرق واضطرابات النوم، وارتفاع ضغط الدم، وضعف جهاز المناعة، وآلام جسدية مزمنة تعرف بالأعراض الجسدية للحزن، لذا من الأفضل عيش الحزن والحداد وإعطاؤه الوقت اللازم للمحافظة على الصحة النفسية والجسدية.
ويساعد الحداد الجماعي على التعبير، فبعض الثقافات، تشجع طقوس الحداد الجماعي إذ يعبّر الجميع عن مشاعرهم بالصراخ أو البكاء معاً. وهذا يخفف العبء ويمنح شعوراً بالاحتواء، بينما في مجتمعات أخرى، يكافأ الصامت القوي الذي لا يذرف دمعة، والمفارقة أن الأول يسهل عليه تجاوز الحزن، بينما الثاني قد يحمل ثقله سنوات.
ويرى علم النفس الحديث أن البكاء في الحداد ليس ضعفاً بل مرحلة ضرورية في رحلة القبول، ضمن ما يعرف بمراحل "كوبلر- روس" للحزن Kubler-Ross، وهي نموذج نفسي يصف استجابات الإنسان للحزن والفقدان، وتتكون من خمس مراحل "الإنكار، الغضب، المساومة، الاكتئاب، والقبول". وضعتها الطبيبة السويسرية الأميركية إليزابيث كوبلر- روس عام 1969 في كتابها On Death and Dying معتبرة أن من يتجاوز هذه المراحل من دون تفريغ صادق، قد يبقى عالقاً في حلقة من الألم غير المنتهي.