Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الضجر... شعرة تفصل بين الإبداع والكآبة

هناك فنانون ومخترعون نسبوا أهم اكتشافاتهم إلى لحظات انتظار وملل حتى نيوتن اكتشف قوانين الجاذبية في عزلة قسرية خلال الطاعون

الضجر لعنة العصر المفيدة (pixabay)

ملخص

جلس إسحاق نيوتن في عزلته خلال الطاعون (1665) في بيت ريفي بلا عمل وكان مصاباً بالضجر، وهناك في الحديقة خطرت له فكرة الجاذبية. أما ألبرت أينشتاين فكان يقول إن أفضل أفكاره خطرت له وهو يعزف الكمان أو يتأمل من النافذة، أي في لحظات لا "عمل" فيها، فحتى النظر في شجرة أو غيمة قد يفتح بوابة لفكرة عظيمة، فالملل الخلاق يترك الإنسان أكثر وعياً مما كان قبله.

تخيل أنك في مدينة ألعاب ضخمة تغمرها الألوان والأضواء وسط أناس تظهر على وجوهم ملامح السعادة ويحاولون الاستمتاع باللحظة.

لكن بعدما تمضي قليلاً من الوقت تشعر بالضجر وكأن كل وسائل التسلية التي أمامك تضجرك، وتشعر أنك تحتاج إلى أمر آخر تقوم به كي تخفف عنك الشعور بثقل الضجر. هذه الحال من الشعور بعدم الاكتفاء وبأن كل ما نقوم به ممل هي الوصف الذي بات يستعمله علماء النفس والاجتماع للإشارة إلى ما يشعر به إنسان القرن الـ21. فنحن أبناء عصر وفرة الخيارات من موسيقى لا تنتهي وأفلام متاحة بكثرة تتيح لك خيارات لا تحصى، وفي عالم الأخبار التي لا تنتهي إلا لتبدأ من جديد وعوالم الألعاب الإلكترونية والسوشيال ميديا التي تفتح على مواضيع لا نهائية وصور وفيديوهات ننشرها أو ينشرها أصدقاؤنا وغير الأصدقاء، ومع ذلك يزداد الشعور لدى الإنسان المعاصر بالفراغ في داخله، حال وصفها الشاعر الفرنسي سيوران بالقول "إننا نبدو كالصم في مهرجان تعزف فيه الأوركسترا".

في اللغة والنفس والاجتماع والدماغ

معنى الضجر متقارب في معظم اللغات، فهو يجمع بين السأم والملل، أو بين الفراغ والضيق. ففي العربية يعني الضجر الضيق والسأم، كأن الصدر يطبق على صاحبه، أما في الإنجليزية فكلمة boredom تعود إلى "to bore"  أي الثقب، وكأن الملل يثقب النفس أو القلب أو الروح وأحياناً الجسد إذا ما ترافق مع شعور بالاكتئاب يظهر على شكل أمراض جسدية. أما في اللغة الفرنسية فكلمة "l’ennui"  تجمع بين الملل والكآبة في كلمة واحدة. ومن الواضح في هذه اللغات الثلاث أن جوهر الضجر يظل واحداً، وهو الشعور بالسأم مترافق مع الاكتئاب أو الضيق، وقد تزداد المشاعر المرافقة كما هي الحال في زمننا المعاصر إلى الشعور باللاجدوى والشعور بالملل وانعدام الطاقة على القيام بأي عمل، وقد يترافق مع الشعور بالظلم كان يشعر الضجران بأن الحياة التي يعيشها ليست هي التي أرادها. وقد يصل هذا الشعور إلى حد يدفع صاحبه إلى عدم الأكل والعزلة وقلة الحركة وعدم الرغبة بالتواصل، فتبدأ حاله بالانتقال من مجرد شعور بالملل إلى مشاعر أكثر سوءاً، السوداوية أحد وجوهها. وينعكس ذلك بإدمان الهاتف والإفراط في الأكل وتعاطي المخدرات والدخول في علاقات عبثية، وصولاً إلى الاكتئاب والعدمية، كما يفصل علماء النفس.

أما علم الاجتماع فيرى أن الضجر مرض مديني على أساس أن كثرة المثيرات في المدن تفضي إلى بلادة الحس، أما الشاعر والفيلسوف الفرنسي باسكال فحذر منذ القرن الـ17 من أن "كل مشكلات البشر تنبع من عجز الإنسان عن الجلوس بهدوء في غرفة وحده". أما عالم الاجتماع دوركهايم فربط الضجر بفقدان الروابط الاجتماعية، بينما بعض فلاسفة مدرسة فرانكفورت وروادها مثل أريك فروم وهربرت ماركيوز اعتبروا أن الرأسمالية كنظام تحول الملل إلى أداة سياسية عبر دفع الفرد إلى الاستهلاك كوسيلة لقتل الفراغ، لكن مزيداً من الاستهلاك لم يؤد إلا إلى مزيد من الفراغ.

علم الأحياء أو البيولوجيا أضاف بعداً آخر لتفسير الضجر بربطه بخلل في الدوبامين، الناقل العصبي المسؤول عن التحفيز والمتعة.

الثقافة والفلسفة أعادتا تعريف الملل كنافذة على الزمن نفسه، أي استغلال هذا الفراغ للنظر في النفس والتأمل في العالم المحيط. وكذلك فعلت الأديان التي نظمت الفراغ كي يكون وقتاً للخلوة مع الذات والخالق يقود إلى معنى أعمق. وهناك فنانون ومخترعون نسبوا أهم اكتشافاتهم إلى لحظات انتظار وضجر، حتى نيوتن اكتشف قوانين الجاذبية في عزلة قسرية خلال الطاعون.

فوائد الضجر وأضراره

الضجر الذي يمكن تعريفه كلعنة العصر يمكنه هو نفسه أن يتحول إلى باب يفضي إلى الإبداع والوعي بالزمن والمصالحة مع الصمت والذات والوحدة.

في دراسة بريطانية حديثة، قال أكثر من 60 في المئة من الشباب إنهم يشعرون بالملل يومياً على رغم انشغالهم بأشياء كثيرة. ووجدت دراسة ألمانية أن الأشخاص الذين يصفون أنفسهم بأنهم "يشعرون بالملل يعرضون للإصابة بالاكتئاب بمعدل أعلى بـ2.5 مرة"، وأظهرت دراسة أميركية أن المراهقين الذين يشعرون بالملل باستمرار هم الأكثر ميلاً لتجربة المخدرات مبكراً. في المقابل، بينت أبحاث أخرى في علم الإبداع أن الدماغ حين لا يجد ما يشغله خارجياً يبتكر عالماً داخلياً يملأ فيه الفراغ، وغالباً ما يكون هذا العالم البديل إبداعياً لدى نوعية معينة من الأشخاص الموهوبين.

علماء النفس يرون أن الملل يشبه "جرس إنذار" يرن في العقل ليدلنا على إصابتنا بغياب المعنى. أما جيمس دانكرت فيشبهه بالجوع قائلاً "فكما يدفعك الجوع إلى الطعام، يدفعك الملل إلى البحث عن معنى"، لكن الفرق أن الطعام متوافر، أما المعنى فليس دوماً في متناول اليد.

الشاعر الفرنسي الرومنطيقي شارل بودلير اعتبر أن الملل أشد آلام البشر، وهو الذي يجعلنا نشتاق إلى أي شيء، حتى إلى الشر، وكتب أنه "ليس في الأرض شيء أشد من هذا الوحش الرابض". بينما كان الرسام المنتحر فان غوخ يكتب في رسائله عن الساعات الطويلة من الفراغ التي رسم فيها لوحاته الأكثر شغفاً بالحياة. عالم النفس الأميركي رونالد بيكمان اعتبر أن الملل ليس فراغاً في جدول المواعيد، بل فراغ في المعنى الذي نبحث عنه.

إلا أنه عبر التاريخ كانت الأديان والمعتقدات الروحية ومن ثم لحق بها علم النفس تميز بين الملل الخلاق والملل المدمر، فالأول يفتح على شرود مثمر مثل أحلام اليقظة التي تتحول إلى أفكار جديدة أو لمراجعة الذات أو حتى فرصة لانبثاق عمل إبداعي، أما النوع الثاني فيقود إلى اندفاعات خطرة، أولها الانزلاق نحو الاكتئاب.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ورأى الأديب الروسي دوستويفسكي أن الملل هو دافع كل الجرائم، فالإنسان حين يترك طويلاً في فراغ بلا معنى قد يملأه بأفعال تدميرية. بينما كتب ألبير كامو عن الإنسان الضجر الذي يواجه عبثية الوجود في رواية "الغريب"، حين يصبح الملل مرادفاً لغياب المعنى في الحياة الحديثة، فحين ينهار الرابط بين الفرد والجماعة يصبح الفراغ الاجتماعي قاتلاً. وهذا ما تعنيه نسب الاكتئاب والانتحار الأعلى في المدن الصناعية مقارنة بالقرى والمجتمعات التقليدية حيث الروابط الاجتماعية أكثر صلابة.

حين ظهر التلفزيون في منتصف القرن الـ20، بشر كثر بأنه سيقضي على الملل، وحين دخل الإنترنت إلى البيوت في التسعينيات، تأكد كثر من أن هذا الوعد سيصبح واقعاً. واليوم، مع الهواتف الذكية وتطبيقات التواصل الاجتماعي، صار الوعد ترفيهاً لا نهائياً في جيبك، لكن المفارقة الكبرى بينت أنه كلما ازدادت الخيارات ازدادت نسبة الضجر.

المفكر البولندي زيغمونت باومان، صاحب نظرية "الحداثة السائلة"، كتب أنه في عالم السرعة والخيارات اللامتناهية يصبح الصمت عدواً لا يحتمل.

ولم يكن الأدباء والفلاسفة أقل انشغالاً بالملل بل جعلوا منه موضوعاً مركزياً لفهم الوجود نفسه، فالفيلسوف الألماني مارتن هايدغر رأى أن الملل العميق يكشف لنا عن الزمن، لأن الإنسان حين يشعر أن الدقائق لا تمضي، يواجه وجوده عارياً في قلب الوقت، وكأن الملل نافذة فلسفية على الحقيقة المجردة للزمن.

اقرأ المزيد

المزيد من منوعات