Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

أسعد عرابي رائد الحوار بين الفن التشكيلي والنقد

رسام الأحياء الدمشقية اتجه نحو التجريد الهندسي والميثولوجيا ورحل في باريس عن 84 سنة

الرسام والناقد أسعد عرابي (صفحة الرسام - فيسبوك)

ملخص

كان أسعد عرابي الذي رحل أمس في باريس (1941- 2025) من أكثر الفنانين السوريين الذين حضروا في الوسط التشكيلي العربي كرسام وباحث في علم الجمال في آن واحد. واستطاع أن يضع سيرورة الحركة التشكيلية العربية في سياقها النقدي الأوضح، وجل مؤلفاته ومقالاته وأبحاثه الغزيرة باللغتين العربية والفرنسية تركزت على تشخيص موقع هذه الحركة في العالم.

منذ دراسة أسعد عرابي التصوير الزيتي في كلية الفنون الجميلة في دمشق، حرص هذا الفنان الدمشقي المولد على أن يطبق منظور عين الطائر أو الـ"سيمرغ" (العنقاء) على مشروع تخرجه في الكلية الدمشقية عام 1965، مما لفت الأنظار إليه باكراً، وجعل من لوحته صلة وصل مع التراث العربي والإسلامي بعد قطيعة امتدت لقرون. وبرز اشتغاله في ما بعد على العلاقة بين فن الأيقونة المسيحي وفن المنمنمات الإسلامية، وعمله على أبحاث تناولت رسوم المخطوطات العباسية والصفوية والعثمانية.

واعتمد عرابي في تحقيق لوحاته على ما شرحه الإمام أبو حامد الغزالي لمريده في كتابه "مشكاة الأنوار"، ففرّق بين البصر والبصيرة، وقد اتهم فيها "حجة الإسلام" حاسة العين بسهولة تعثّرها بالأوهام الظاهرية السبعة، ومنها أن العين ترى البعيد صغيراً والقريب كبيراً، مما يفسر اقتصار مجمل لوحات عرابي على المسطحات وإلغاء الأحجام، وعلى بعدين وليس ثلاثة كما في لوحات معرضه "القيامة الشامية" في باريس عام 2019. هكذا يعوم الشكل في أعمال هذا الفنان، سواء كان حياً أو نباتياً أو هندسياً، في الفراغ، ويكشف تصويره للمشربية والفسقية وواجهاتها الأمامية في البيت الدمشقي من خلال ما أسماه الغزالي "المنظور المتوازي" أو "عين الطائر" المتعدد في أرجاء التكوين شتى. فبدت شخوص لوحاته كأن عيني الطائر تحدق فيها من أعالي القبة السماوية، في حين وزع عرابي ألوانه كمرادف لمقامات موسيقية، ووفق نوتة قلبية روحية لا علاقة لها بتصورنا عن الأجسام في الواقع الموضوعي.

عكف عرابي ضمن دراساته المنضوية في مجال علم الجمال المقارن على تعشيق التصوير بالموسيقى في أعماله، معتبراً أن الحواس جميعها تصدر عن جهاز بصيري واحد هو القلب. فالحرارة والبرودة والفروق الصباغية في اللون مثلها مثل المقام الموسيقي، تخضع لرهافة القبض والبسط بالجمع والتفريق، مما اشتغل عليه في رسالة الدكتوراه التي حصل عليها من جامعة "السوربون" في باريس عام 1987. وأمضى الفنان في أبحاثه الأكاديمية هذه عقداً من الزمن في مقاربته بين المقامات الموسيقية والطرز الزخرفية في الصناعة العربية والإسلامية، ولا سيما صناعة البسط والسجاد. وتجلت أبحاثه في مجموعات لوحاته التي أنجزها، مستلهماً القصائد التي لحنها رياض السنباطي وزكريا أحمد لأم كلثوم، فهو يعتبر أن هذه الألحان والحضرات جاءت نتيجة اكتشاف الملحن العربي للإيقاعات والمقامات من خلال الوزن السماعي الصوفي في الشعر العربي. وهذا ما ترجمه عرابي في معرضه "نوستالجيا" (القاهرة- 2011)، ناقلاً المقامية في اللحن إلى درجات من اللونية تحاكي انسجاماً بين درجات اللون والحضرة الصوفية الغنائية.

بين التشخيص والتجريد

تندرج حساسية عرابي في مزجه بين أسلوبي التشخيص والتجريد في أعماله، فمنذ حصوله على ديبلوم من المدرسة الوطنية العليا للفنون الجميلة في باريس عام 1983، عكف على عمله داخل محترفه في منطقة الديفانس بالعاصمة الفرنسية، فمن هذا الحي الباريسي وغابات أبراجه الموحشة المتصلة بالسماء، قضى الرسام السوري قرابة نصف قرن من الترحال الدائم والمتغير، بعلاقته مع اللوحة والأمكنة على حد سواء، فلم يسلك طريقاً مؤسلباً يؤدي إلى نمطية في تعامله مع اللوحة. وأكثر ما كان يميز أعماله هو التنوع الشديد في المواضيع التجريدية والتشخيصية التي جسد فيها الطرب المشرقي في ما يوازيه وما يمكن تسميته "الطرب اللوني". وحاكى المحنة السورية في كثير من الأعمال ومنها "غرق متوسطي" و"الهروب إلى اللامكان" و"أليس في بلاد الموت".

 ونقل عرابي في هذه الأعمال مشاهد من المأساة السورية، ولا سيما غرق مراكب النازحين في مياه البحر المتوسط. وجسّد تراجيديا بلاده في تنويعات لونية أفاد فيها من انعكاسات النور ودرجات ألوان قوس قزح. ففن اللوحة لديه كان عملاً مركباً يرتبط بالحدس وليس بجهالات العقل التي يقول إنها تقود إلى حقائق علمية. أما في الفن فالعمود الأساس للمعرفة الأولى، كما كان يردد دائماً، هو التجربة الروحية، واللوحة كما يعرفها عرابي هي "كائن روحي موجود في باطن الفراغ الأبيض، ومهمتنا فقط الكشف عنها"، مما رتّب على الفنان الابتعاد من وهم نقل الواقع المعيش، أو نقل الواقع الوصفي البصري، فاللوحة كثيراً ما كانت تختلط لدى صاحب "سكون الأحمر" مع سيمولوجية المعنى، مع أن اللوحة أبعد ما تكون من ذلك، مما يفسر أن اللوحة لدى عرابي مرة تكون عمودية، ومرة تكون أفقية، ومرة كان يغطي الفنان نصفها بقطعة من القماش. وعكف على إطلاق غريزته لحدسه وقلبه والطاقة القصوى في ابتداع موسيقى اللوحة، فكل لون لديه كان له صوت. وفي كل لوحة لعرابي موسيقى خاصة بها، أو ما يطلق عليه "اللوحة الصائتة" أي بمعنى لها صوت.   

وجوه الحداثة العربية

رفض عرابي ضمن كتابه "وجوه الحداثة في اللوحة العربية" ما درج النقد العربي على نعته المتسرع بـ"بداية الفن المعاصر في كل بلد عربي" الذي ما هو برأيه سوى توثيق للملامسات الأولى لممارسة طقوس اللوحة الغربية، أو ما سُمّي "لوحة الحامل" أو المَسند، مما جعل كثيراً من الفنانين العرب الرواد في فترة الخمسينيات يستعيرون مناهج لوحات المستشرقين في تصويرهم الزيتي لمناظر من بلدانهم. وهذا ما كرّس في ما بعد، ما يسميه صاحب "مدينة الغربان" غرس عادة السياح الأجانب في اقتناء اللوحة التذكارية الفلكلورية التي حققت تصورات ومواصفات مما يتخيله ساكن باريس أو لندن من تخلف المنطقة العربية. فاستبدل "رواد الفن العربي" في النصف الأول من القرن الماضي البيت بالخيمة والحصان بالجمل والغيطان بالصحارى والحضارة الراسخة بالترحال البدوي، مما وطّن صورة نمطية عن البيئات العربية.

يعد أسعد عرابي أول من قال بمعنى الحداثة كنهضة متجددة، وأثبت أن "الحداثة العربية كانت متخلفة نصف قرن تشكيلي عن ركب النموذج الغربي"، وأن انطباعية النصف الأول من القرن الـ20 بالنسبة إلى المحترف العربي عموماً، لم تكُن سوى أصداء لمجريات النصف الثاني من القرن الـ19 الأوروبي الانطباعي، بمثاله الأسطع كلود مونيه (1840-1926). وأعلن عرابي في كتابه "صدمة الحداثة في اللوحة العربية"- (دار نينوى- عام 2009) أن التجريدات الغنائية العربية ما هي سوى اجترارات لما جرى تقديمه إبان الحرب العالمية الثانية.

هذه الصرامة النقدية الأكاديمية حملت ابن حي ساروجة الدمشقي إلى توضيح الإرباك الذي أصيبت به مفاهيم الحداثة العربية الفنية التي أرجعها الفنان والباحث الأكاديمي في قسم كبير منها، إلى تواضع الاتصال مع المحترفات العالمية، وعن تراجع ظاهرة الجماعات الفنية المستقلة في المنطقة العربية بسبب انعدام الحريات، أو ما سماه "الغياب المتدرج للديمقراطية الثقافية" في مساحة المشهد التشكيلي، سواء القومي منه أو القطري.

بهذا المعنى قبض عرابي على إشكالية النقد والناقد الفني للعروض التشكيلية، واعتبر أن مهمة الناقد في المنطقة العربية استحالت إلى "دلاّل" للعمل الفني لا أكثر، وشوشت في كثير منها عملية التلقي الحر للعمل الفني، ولا سيما النقد الأدبي المنبثق من الصحافة اليومية، فكُرّست عبر كوكبة من هؤلاء حفنة من نجوم التشكيل الذين نجحوا في نسخ، وتهجين، بعض التجارب العالمية الرائدة، ومن دون أن يلتفت "الفنانون النجوم" إلى ثراء التراث العربي والإسلامي، وضرورة الإفادة منه في تأصيل تجاربهم خارج النموذج الاستشراقي.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

أفاد عرابي من دراسته الرسوم العملية في المخطوطات العربية القديمة التي تقارب صيغ الرسوم في المنمنمات التي تزين دواوين الشعر الغزلي، وكشف خلال أبحاثه اللافتة عن أن رسم كتاب "الحيوان" للجاحظ ورسوم "كليلة ودمنة" لابن المقفع لا ينفصلان في صوغهما الفني عن الرسوم الساخرة الشهيرة التي زيّن بها يحيى بن محمود الواسطي (القرن الـ13 ميلادي) مقامات الحريري. فقد تعامل هؤلاء الرسامون مع الكائنات الحية المصورة وكأنها ألعاب ميكانيكية أو شخصيات رمزية منتزعة من مسرح خيال الظل، وكذلك المخططات الدينية والمعمارية لا تختلف عما سماه "الهندسة الشعرية الحالمة" التي اعتمدها فنانون مجهولون في كتاب "ألف ليلة وليلة"، ولا سيما في الطبعات غير المهذبة من كتاب الليالي العربية.

نعى اتحاد التشكيليين السوريين الفنان والباحث أسعد عرابي الذي رحل في منفاه الباريسي عن عمر ناهز 84 سنة، وهو تنقل خلال فترته الأولى بين صيدا (موطن أبيه) ودمشق (موطن والدته)، وغادر منذ عام 1975 إلى العاصمة الفرنسية. وأقام الراحل أكثر من 70 معرضاً فردياً ومشتركاً، من بينها معارضه في غاليري "وان" في بيروت ومعارض الربيع والخريف في حلب ودمشق. وله دراسات ومقالات عدة في جريدة "الحياة" اللندنية والصحف والمجلات الفرنسية المتخصصة. وانطلق عرابي في أعماله من الأحياء الشعبية القديمة (دمشقيات)، وقدمها في صياغة خاصة واتجه إلى التجريد الهندسي وعمل على الأساطير والميثولوجيا والمسخ، وأعماله موجودة في المتحف الوطني في دمشق ومعهد العالم العربي – باريس وفي متحف برشلونة للفن المعاصر والمتحف الوطني في نيودلهي وفي وزارة الثقافة السورية وفي مجموعات خاصة.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة