ملخص
الاحتفالات القومية للإثيوبيين مناسبات جامعة بين كل القبائل، فلكل منها أهازيجها وفنونها الخاصة، ويشهد أغسطس من كل عام مهرجان أشيندا، الذي تحتفل به قومية شعب تيغراي كمناسبة تستمر مظاهرها أسبوعاً كاملاً، وتخرج فيه الفتيات في كل أرجاء إثيوبيا بما فيها العاصمة أديس أبابا يغنين ويضربن الدفوف.
الأعياد القومية الإثيوبية تمثل مناسبات جامعة لا تقيدها العرقية في الانطلاق إلى الفضاء القومي، حيث تمتزج أفراح الأجناس جميعها في كل المناطق. واحتفالية أشيندا الخاصة بأهل الشمال الإثيوبي أعطت هذا العام معاني الوحدة الوطنية الجامعة بالتفاعل الذي شهدته في كل أرجاء البلاد بما فيها العاصمة أديس أبابا، حيث تلونت بتشكيلات الزي القومي الإثيوبي. فهل تمثل المناسبات القومية وحدة وطنية يرجوها النظام وتقصر عنها السياسة؟
الاحتفالات القومية للإثيوبيين مناسبات جامعة بين كل القبائل، فلكل منها أهازيجها وفنونها الخاصة، ويشهد أغسطس (آب) من كل عام مهرجان أشيندا، الذي تحتفل به قومية شعب تيغراي كمناسبة تستمر مظاهرها أسبوعاً كاملاً، وتخرج فيه الفتيات في كل أرجاء إثيوبيا بما فيها العاصمة أديس أبابا يغنين ويضربن الدفوف.
تعطي الاحتفالية نموذجاً لوحدة قومية فريدة، إلى جانب ما تمثله من بعد سياحي تختلط فيه ألوان ملابس الفتيات بجماليات الطبيعة، جاذبة السياح والزائرين الذين يتفاعلون مع الأهالي مقلدين الأهازيج والغناء.
العشب الأخضر
يقول الكاتب الإثيوبي المتخصص في الشؤون الاجتماعية محمد شافي، إن "احتفالية أشيندا تحتفل بها إثيوبيا بدءاً من الـ16 وحتى الـ25 من أغسطس من كل عام، ولديها ارتباط مباشر مع الديانة المسيحية الأرثوذكسية، إذ تأتي مباشرة بعد إكمال الصيام الذي يستمر مدة أسبوعين ويدعى محلياً بـ(صوم فيلستا). وكلمة أشيندا تعني بلغة (التقرنجة) لأهل الشمال (العشب الأخضر الطويل)، ولديها تسميات عدة على حسب المناطق في البلاد، فعلى سبيل المثال في إقليم أمهرا يطلق عليها (اللشاداي) ويتم الاحتفال بها من الـ16 إلى الـ21 من أغسطس. وفي مدينة أديغرات بشمال إثيوبيا يطلق عليه (ماريا)، ويتم الاحتفال بها من الـ15-17 من أغسطس. أما في مدينة أكسوم التاريخية فيطلق عليه (أينواري)، ويجري الاحتفال بها من الـ23-25 من أغسطس من كل عام، وطبقاً للثقافة المحلية فإن المغزى من (صوم فيلستا) يأتي تخليداً لذكرى وفاة السيدة مريم العذراء". ويوضح "احتفالية أشيندا عقب عادة الصوم الطوعي مباشرة، وهي مرتبطة بالفتيات الصغيرات أو اللاتي في مقبل الشباب، ليعرضن فنونهن بالرقص والغناء عند حلول المناسبة متزينات بارتداء الملابس التقليدية الجميلة التي تعكس الثقافات الفريدة لأهل الشمال وغيره من المناطق، وتطوف الفتيات البيوت والأماكن العامة والأسواق وهن يؤدين الغناء والرقصات الشعبية التي تلقى الترحاب من مختلف فئات الناس، فيتجاوبون معهن بالهدايا والعطايا النقدية والطعام الذي يتمثل في الخبز الشعبي الإثيوبي المسمى بـ(الملوال)".
ويضيف "مهرجان أشيندا مرتبط عادة بمعطيات الزينة المحلية، بخاصة الكحل الذي يتم استخراجه من الأرض، وتسود به الفتيات أعينهن، مع تسريح شعورهن بتسريحة مميزة تسمى (بغامو)، إلى جانب ارتدائهن الملابس التقليدية من الجلباب الطويل بألوانه المتعددة، تزينه بعض الفتيات بأعشاب خضراء تربطها الفتاء حول خصرها كرمز جمالي يشير إلى الاحتفالية. وتنتشر الفتيات بأزيائهن والدفوف التي يحملنها متنقلات إلى مختلف الأماكن في القرى والمدن، ويأتي كثير منهن إلى العاصمة أديس أبابا لينتشرن في الأسواق ومختلف الأماكن، يقدمن فنونهن نظير ما يحصلن عليه من هدايا وفئات نقدية يعدن بها إلى أهاليهن وقد أدين طقوس الأشيندا في حرية تهبها لهن المناسبة، وتسامح مجتمعي يقدر قيمة هذه الأعياد. وتعتبر أيام أشيندا للفتيات أياماً سعيدة، وهي فرصة لعرض جمالهن، وهناك مفهوم متداول لدى الشعب بأن المرأة المنتظمة في الاحتفال مستجابة الطلبات من قبل الأسرة، وهي حرة تستمتع بوقتها وتمرح مع قريناتها".
تراث إنساني
من جهته يقول الباحث الإثيوبي عزيز عبدالحي "في قلب المرتفعات الشمالية لإثيوبيا ينبض إقليم تيغراي كل عام بروح احتفال مهرجان أشيندا. ويعود هذا الاحتفال إلى تاريخ قديم، وهو مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالفتيات غير المتزوجات في سن البلوغ. ويأتي موعد الاحتفال بعد أسبوعين من انتهاء صيام السيدة العذراء (المعروف محلياً بـ"فيلستا") في التقويم المسيحي الأرثوذكسي. وكأن انتهاء الصيام بمثابة إشارة للبدء في الاستعداد للاحتفال، الذي يعتبر مكافأة وتكريماً للفتيات على صيامهن وتكريساً لأنوثتهن وقوتهن"، ويضيف "تقليدياً، كان الاحتفال يقتصر على هؤلاء الفتيات، وكن يرتدين ملابس قطنية تقليدية جديدة ومطرزة بألوان زاهية، ويزين أنفسهن بأفضل الحلي الفضية والمجوهرات. والسمة المميزة للاحتفال، التي اشتق منها اسمه هي عشب (أشيندا) الذي تصنع منه شرائط تعلقها الفتيات حول خصورهن للزينة والرقص مدة ثلاثة أيام، ويتجولن في قراهن ومدنهن ويطرقن أبواب الجيران لتهنئتهم، ويغنين ويرقصن على أنغام الطبل التقليدي (كوبرو)، وينشدن أغاني تمجد الأنوثة والقوة المجتمعية. وكانت العائلات تكافئهن بالمال أو الحلويات أو الخبز في طقس يعزز التماسك الاجتماعي ويعلن عن دخول الفتيات مرحلة جديدة من حياتهن".
ويوضح عزيز "شهد احتفال أشيندا تحولاً كبيراً في العقود الأخيرة منعه من الاندثار وجعل منه أيقونة ثقافية. لم يعد حدثاً محلياً صغيراً، بل أصبح مهرجاناً ضخماً يحتفى به في المدن الرئيسة مثل ميكيلي وعدوا وأكسوم وعادي قرات وحتى أديس أبابا، وامتد إلى خارج إقليم تيغراي وإثيوبيا، حيث تقيم الجاليات التيغراوية في جميع أنحاء العالم احتفالاتها الخاصة به. والأهم من ذلك، أن المشاركة لم تعد حكراً على الفتيات غير المتزوجات، اليوم تشارك النساء من جميع الأعمار، من الطفلات إلى الجدات في الرقص والغناء، بل والأكثر لفتاً للانتباه هو مشاركة الرجال بشكل فعال من كل القوميات كمتفرجين نشطين وأحياناً كراقصين، مما وسع نطاق الاحتفال ليكون عيداً للجميع. وجاء هذا التحول مدفوعاً بتسليط إعلامي كبير محلي ودولي، وحضور لافت لكبار المسؤولين والسياسيين. وقد أصبح المهرجان مقصداً سياحياً مهماً، يجذب الزوار من مختلف أنحاء إثيوبيا والعالم، مما ينعش الاقتصاد المحلي ويعرض ثراء التراث الإثيوبي".
ويتابع "على رغم تسويق احتفال أشيندا على أنه عيد ثقافي وطني لقومية تيغراي، فإن جذوره الحضارية تظل واضحة كونه يمثل رمزاً للهوية الإثيوبية الوطنية الجامعة لكل القوميات كتراث إثيوبي حضاري، وفي خضم هذا الوعي برز طموح جديد تتبناه حكومة إقليم تيغراي والحكومة الفيدرالية الإثيوبية، وهو السعي إلى تسجيل احتفال أشيندا في قائمة التراث الثقافي غير المادي لـ’اليونيسكو‘، ويهدف هذا المسعى إلى حماية هذا التراث من الاندثار وتوثيقه علمياً، والاعتراف بقيمته الإنسانية العالمية، ووضعه على الخريطة الثقافية الدولية، ويشكل هذا دليلاً على النجاح الكبير الذي حققه المهرجان في تحويل نفسه من طقس محلي إلى تراث وطني وإنساني".
أشيندا تواكب الحوار
يقدر عدد القوميات في إثيوبيا بأكثر من 80 قومية ذات ثقافات وتقاليد متباينة تجليها المناسبات العامة والخاصة، وتمثل كل من قومية الأرومو والأمهرا وتيغراي مقدمة القوميات الكبيرة، ولكل منها عاداتها واحتفالاتها التي تشترك فيها بقية القوميات ضمن تلاقٍ قومي يعكس روح التسامح. فإلى جانب مناسبة (الأشيندا) هناك احتفالية (بوهي)، ويحل تاريخها قبيل انتهاء موسم الأمطار الرئيس وقبل حلول السنة الإثيوبية الجديدة بثلاثة أسابيع، وهي احتفالية خاصة بقومية الأمهرا في مناطق قجام بشمال وشمال شرقي إثيوبيا.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أما مهرجان (أريتشا) فهو من كبريات المهرجانات الخاصة بقومية الأرومو المنتشرة في بقاع واسعة بالبلاد، وتسمى الاحتفالية أيضاً بعيد الشكر، وتحل في نهاية سبتمبر (أيلول)، ويستمر الاحتفاء بها حتى أوائل أكتوبر (تشرين الأول) من كل عام، وترتبط بموسم حصاد المحاصيل كشكر للخالق على الأمطار والخيرات، ويحتشد في أيامها المواطنون من الأرومو وغيرهم بالملايين في كل مكان مرتدين الأزياء القومية، ويتجمهر بعضهم حول أغادير المياه، وبخاصة حول البحيرات المقدسة كبحيرة (هورا هرسادي) بمنطقة دبرزيت قرب أديس أبابا.
وجاءت مناسبة أشيندا هذا العام مواكبة لمعطيات الجهد الحكومي تجاه "الحوار الوطني الإثيوبي"، الذي ظلت تعمل له الحكومة الإثيوبية خلال الفترة السابقة، وكانت لجنة الحوار الوطني أعلنت عن قرب إطلاق مشاوراتها مع الجاليات الإثيوبية المقيمة في أميركا الشمالية وكندا وغيرها، بعد إكمال عملها في مختلف المناطق بالداخل الإثيوبي، ويأتي الانتقال للخارج كخاتمة للتكوينات الشعبية الجامعة في إطار جهود "مفوضية الحوار الوطني" الرامية إلى توسيع المشاركات الشعبية، وتكامل عمل الداخل مع الخارج بهدف تحقيق أكبر قدر من الإجماع الوطني.
وتكونت "مفوضية الحوار الوطني الإثيوبي" في فبراير (شباط) 2022، بهدف جمع الشمل الإثيوبي، وهي مفوضية لها جسم قانوني، وليس لها أي انتماء سياسي، ولا تقع تحت ضغط حكومي أو خاص في عملها، وتتبع مجلس نواب الشعب، ويتركز عملها على تهيئة الظروف المواتية للتوافق الوطني عبر مرحلتين. الأولى تحديد الأسباب الجذرية للانقسام العميق والخلاف بين المجتمع الإثيوبي من خلال البحث والحوارات العامة. وثانياً إجراء حوار وطني فاعل، وتقديم توصيات إلى الجهات المعنية، مع تصميم نظام مراقبة لتنفيذ تلك التوصيات.
وهدف التوافق الوطني الذي تعمل من أجله الحكومة الإثيوبية عبر "مفوضية الحوار الوطني" يأتي لطي تجارب مريرة انعكست في حروب وخلافات عانتها إثيوبيا على مر الأعوام، سواء عبر تاريخها القديم أو الحديث، وآخرها الحرب التي استمرت عامين بين الحكومة الإثيوبية وجبهة تحرير تيغراي، والتي أدت إلى خسائر باهظة في الأرواح والممتلكات، حيث لا تزال إثيوبيا تعاني حتى اللحظة تبعات خلافات وتنافسات انعكست آثارها على بعض المناطق.
تلقائية الشعوب
ضمن أهم ما أفرزه النظام الفيدرالي الإثيوبي عام 1995، الذي يجمع الآن بين 12 إقليماً إثيوبياً، إضافته تنافسية المناسبات والأعياد القومية بين مختلف المناطق والقوميات، التي تمثل حافزاً قومياً نحو وحدة وطنية (عفوية) تعمل لها تلقائية الشعوب في احتفالاتها هنا وهناك، وتجني ثمارها الحكومة في تلاقٍ شعوري جامع وفاعل لدى كل القوميات، وقد قالت الحكومة الفيدرالية في مناسبة أشيندا الحالية إنها ستواصل تقديم الدعم اللازم لمختلف المهرجانات والاحتفالات الشعبية لكل الإثيوبيين بمختلف إثنياتهم، بما يضمن الحفاظ على قيمة تلك العادات الثقافية الأصيلة.
وتتزامن احتفالية أشيندا مع عدد من الأعياد والمناسبات الوطنية وهي (أيام باغومين، ورأس السنة الإثيوبية، ومهرجان مسكل)، بما يضيف بعداً ممتداً لكثير من المهرجانات التي تجمع بين الفرحة القومية والتماسك الوطني، فضلاً عن تنشيطها قطاع السياحة بالتفاعل المنسجم عبر السياح والزائرين مع ما تعكسه تلك المناسبات من فنون.
تقول الناشطة القانونية السودانية وسام معاوية، إنها جاءت إلى إثيوبيا للمرة الأولى، ولكن على رغم ما سمعته عن البلاد مسبقاً فإنها فوجئت بحقيقة الواقع الإثيوبي في كثير من العادات والطبائع التي يتميز بها الشعب الإثيوبي. وفي مقدم ذلك تميزه في الأعياد والمناسبات القومية، وما ينجم عنها من تفاعل يعم كل أبناء الوطن بمختلف قبائلهم وتوجهاتهم. ومناسبة الأعياد تعكس جوانب أخلاقية تتمثل في الحرية الحقيقية التي تشهدها أيام الاحتفالات، وتنعكس في الأمان والاستقرار وسيادة القانون، وفي تنقلات (فتيات الأشيندا) وهن يقمن بالرقصات والألعاب والغناء بفرح وانسجام".
أما الباحث في الشؤون الأفريقية يوسف ريحان، فيقول إن "الاحتفالات والمهرجانات بمختلف مناسباتها تعكس تراث الإنسان، وتعتبر تقاليد مهمة يجب المحافظة عليها والاهتمام بها لأنها تعبر عن معطيات ثقافية ودينية وتاريخية، وتحمل في طياتها كثيراً من قيم الشعوب نحو السلام والتعايش الحضاري، كذلك تعكس التنوع والتعدد الثقافي في بلد كإثيوبيا، الذي يتمتع بثراء حضاري كبير". ويوضح أن "الاحتفالات تسهم بصورة رئيسة في عملية الإصلاح المجتمعي والسياسي لأنها ترجمة لأفكار الوحدة والتكامل، بخاصة في ظل تطلعات الفيدرالية العلمية التي تقوم على قاعدة حقوق القوميات وإعطائها صلاحيات مدروسة، والانتقال إلى نظم جديدة تعزز فيها قيم الوحدة الوطنية من دون ملامسة حقوق القوميات في إطار هوياتها الخاصة المعبر عنها ثقافياً في مثل هذه الاحتفاليات". ويضيف "هدف آخر تحققه المناسبات والمهرجانات هو إسهامها غير المباشر في الاقتصاد من خلال تنشيط حركة السياحة في ظل وجود بيئة سياحية جاذبة تتوفر على بنية تحتية جيدة، ومن خلال الطبيعة والمناخ كذلك، وكلها عوامل تتكامل لجعل مثل هذه الاحتفالات فرصة لتحقيق مكاسب عدة، فعبرها تتجلى إرادة الشعب الإثيوبي وحكومته نحو سلام حقيقي".