Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

هجرة الأدمغة تطرق أبواب الولايات المتحدة وعواقبها ستكون كارثية

من منصات التواصل الاجتماعي إلى مكاتب الهجرة، تتردد العبارة الآتية الآخذة في الانتشار على نحو لافت: "الحلم الأميركي الجديد هو مغادرة أميركا". في هذا التقرير نرصد ظاهرة استعداد آباء وطلاب وأساتذة ومتقاعدين لمغادرة الولايات المتحدة في المستقبل القريب

أليسا بولانيوس وولداها في أوروغواي، حيث استقرت هناك للأشهر الثلاثة المقبلة مع زوجها. لا تعرف هذه الأسرة الأميركية الشابة ما إذا كانت تعتزم الاستقرار في أوروغواي بصورة دائمة، لكنها متأكدة من أمر واحد، وهو أنها لا تنوي العودة إلى الولايات المتحدة (أليسا بولانيوس)

ملخص

تشهد الولايات المتحدة موجة متنامية من الهجرة تشمل أسراً، وطلاباً، وأساتذة، مدفوعة بالاضطرابات السياسية والاجتماعية وتراجع الأمان، مما يهدد بخسائر اقتصادية وعلمية ضخمة. في المقابل، تتسابق دول مثل فرنسا وبريطانيا وكندا لاستقطاب العقول الأميركية عبر برامج ومنح مغرية، فيما يبحث الأثرياء والمتقاعدون عن خطط خروج آمنة عبر التأشيرات الذهبية. هذا التحول يعكس واقعاً جديداً يجعل "الحلم الأميركي" مرادفاً لمغادرة أميركا بحثاً عن حياة أكثر استقراراً وفرصاً أفضل.

أصبحت أليسا بولانيوس محط موجة غضب واسعة على منصات الإنترنت. فقد كتب أحدهم تعليقاً على مقطع فيديو كانت قد نشرته بعد نحو شهر من انتقالها إلى أوروغواي مع زوجها وطفليها، قائلاً: "سيكون الأمر مضحكاً للغاية عندما تعودين أدراجك"، فيما كتب آخر ساخراً من فيديو أظهر مراكز تسوق في تلك الدولة الواقعة في أميركا الجنوبية قائلاً: "لا يمكنني تخيل تربية أطفالي في مكان كهذا".

إلا أن بولانيوس لم تجامل في ردها، إذ قالت صراحة: "إنه لأمر مؤسف بالنسبة إلى أطفالك. استمتع بمشاهدتهم وهو يتعرضون لحوادث إطلاق نار في مدارس الولايات المتحدة".

كان من المفترض أن تكون السيدة بولانيوس تجسيداً حياً لما يعرف بـ"الحلم الأميركي". فقد ولدت في مدينة نيويورك، وتتحدر من عائلة أميركية ذات أصول كوبية، هاجر أفرادها إلى الولايات المتحدة أملاً ببناء حياة أفضل. وينتمي بعض أقاربها إلى ما يعرف بـ"المارييليتوس" Marielitos الذين كانوا ضمن موجة النزوح الجماعي لكوبيين وصلوا إلى فلوريدا على متن قوارب صغيرة عام 1980.

على خلاف سائر اللاجئين الآخرين إلى الولايات المتحدة، حظي الكوبيون بمعاملة استثنائية بموجب سياسة الهجرة المعروفة باسم "القدم المبتلة، القدم الجافة" Wet Foot, Dry Foot، التي سمحت لهم بالبقاء في البلاد والتقدم قانونياً للحصول على "البطاقة الخضراء" Green Card (غرين كارد أو الإقامة الدائمة)، فور وصولهم إلى الأراضي الأميركية. وحتى إنهاء الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما العمل بهذه السياسة عام 2017، كان ذلك يعني عملياً أن مفهوم الدخول "غير القانوني" إلى الولايات المتحدة، لا ينطبق على الكوبيين، وأن فرص حصولهم على "البطاقة الخضراء"، ومن ثم الجنسية الأميركية لاحقاً، كانت شبه مضمونة منذ لحظة وصولهم إلى الأراضي الأميركية.

تقول أليسا بولانيوس "حظينا نحن الكوبيين برحلة هجرة مميزة للغاية إلى الولايات المتحدة. فبموجب سياسة ’القدم المبتلة، القدم الجافة‘، كان يكفي الوصول إلى الأراضي الأميركية للحصول على وضع اللجوء، ثم فتح مسار واضح نحو الجنسية. الكوبيون ينسون ذلك".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وتضيف أنه عندما يشاهد أفراد من عائلتها اليوم مقاطع تظهر عناصر من "وكالة الهجرة والجمارك الأميركية"، وهم يعتقلون أفراداً لاتينيين آخرين بأساليب قاسية، "يظنون أنهم في منأى عن هذا المصير، ويقولون: نحن لسنا مثلهم، نحن مواطنون، جئنا إلى هنا بصورة قانونية". لكنها تشكك في هذا التصنيف، معتبرة أن مفهوم "قانوني" في هذا السياق هو "نسبي إلى حد كبير" على حد تعبيرها، وتضيف: "لقد كنتم محظوظين، لا أكثر!".

يشار إلى أن أقارب بولانيوس - شأنهم شأن شريحة واسعة من الأميركيين من أصول كوبية - هم في الغالب من "الجمهوريين". وقد صوت معظمهم لمصلحة دونالد ترمب في الانتخابات، وما زالوا يواصلون دعمه.

تقول هذه السيدة ضاحكة: "كانت جدتي تصفني بالشيوعية. وكنت أرد عليها دائماً: لست شيوعية يا جدتي، أنا ديمقراطية اجتماعية".

خلال إدارة الرئيس أوباما، ومن ثم الأعوام الأربعة الأولى من تولي دونالد ترمب السلطة في الولايات المتحدة، عملت بولانيوس في قطاع الهجرة. ولا يعد هذا المسار المهني بالأمر الغريب بالنسبة إلى شخص من خلفيتها، فالأميركيون من أصول لاتينية يشكلون أكثر من 50 في المئة من عناصر حرس الحدود في الولايات المتحدة، ونحو ربع موظفي "وكالة الهجرة والجمارك" الأميركية. ويعزى ذلك جزئياً إلى ما توفره هذه الوظائف من رواتب جيدة واستقرار وظيفي، إضافة إلى الحاجة المتزايدة لعناصر الهجرة في الولايات المحاذية للحدود الجنوبية، حيث تتركز الكثافة السكانية للاتينيين - مثل "نيو مكسيكو" وكاليفورنيا وتكساس. كما يعد إتقان اللغة الإسبانية ميزة محورية في بلد يأتي فيه معظم المهاجرين واللاجئين من دول ناطقة بها.

كانت بولانيوس تشعر بارتياح في عملها لأعوام طويلة، إذ رأت نفسها تسهم في مساعدة عائلات تسعى إلى تحسين أوضاعها، وتجاوز مشكلات نظام إداري بالغ التعقيد. غير أن هذا الشعور بدأ يتبدد مع انطلاق الولاية الأولى لدونالد ترمب.

وتوضح قائلة: "غادرت هذا المجال بسبب السياسات التي بدأ بتطبيقها". وتعتبر أن الطريقة التي كانت تنفذ بها تلك السياسات على أرض الواقع، تركت آثاراً عميقة في صحتها النفسية والجسدية. وتتابع: "جميع أفراد عائلتي مهاجرون، لذلك دخلت هذا المجال بدافع صادق لمساعدة أشخاص يشبهون عائلتنا".

في نهاية المطاف، غادرت العمل الرسمي وهي تشعر بـ"الإحباط والإنهاك الكامل". وعلى رغم أنها ما زالت تقدم خدماتها في مجال الهجرة بصورة مستقلة لبعض العائلات المحتاجة، فإنها أدركت، مع انتهاء الأعوام الأربعة الأولى من عهد ترمب، أنها لا ترغب مطلقاً في العودة إلى العمل ضمن أي إطار رسمي في الولايات المتحدة.

هدأت الأمور نسبياً خلال فترة رئاسة جو بايدن، لكن المشهد تبدل مجدداً مع حلول عام 2024 وبداية الولاية الرئاسية الثانية لدونالد ترمب.

تقول بولانيوس في وصف تلك المرحلة: "مع حلول يناير (كانون الثاني) الماضي تدهورت الأمور بسرعة، وبات الوضع أسوأ حتى مما كان عليه خلال الولاية الأولى. عندها أدركنا أننا لا نستطيع خوض التجربة ذاتها مرة أخرى. ولم يعد في إمكاننا البقاء في هذا البلد، فقررنا المغادرة".

في غضون أسابيع قليلة من فوز دونالد ترمب بالانتخابات، عملت بولانيوس وزوجها على وضع "خطة مستعجلة للغاية لمغادرة الولايات المتحدة بحلول نهاية فصل الصيف". قاما بتسجيل طفليهما - وهما صبيان يبلغان من العمر أربع وست سنوات - في منهاج "التعليم العالمي" عبر منصة تعليمية تعرف باسم "باوندليس لايف" Boundless Life، التي توفر مساحات عمل مشتركة ومراكز تعليمية مصممة خصيصاً للعائلات المغتربة الكثيرة التنقل (تتوزع هذه المراكز على مقاطعة توسكانا في إيطاليا، وبلدة صغيرة في البرتغال، وجزيرة سيروس في اليونان، إضافة إلى مقر العائلة الراهن في مدينة "لا بارا" الساحلية الراقية في أوروغواي).

باع الزوجان ممتلكاتهما وودعا عائلتهما. وهما يخططان الآن لقضاء نحو عامين في السفر حول العالم، قبل الاستقرار نهائياً في المكان الذي يرونه الأنسب لأسرتهما، من دون أي نية لديهما للعودة إلى الولايات المتحدة.

تضيف قائلة: "كنا نعيش في قلق دائم من أن ينشأ طفلانا في بيئة قد يحتجز فيها والداهما لمجرد تحدثهما باللغة الإسبانية، على رغم كوننا مواطنين أميركيين. كان هذا الخوف يثقل كاهلنا يومياً". ومع مرور الوقت منذ اتخاذ الأسرة قرارها بالمغادرة، ازدادت يقيناً أكثر فأكثر بأن هذا الخيار كان القرار الصائب. فالطفلان لم يعودا يشاركان في تدريبات على طرق مواجهة إطلاق النار. ولم يعد الجيران يتابعون برامج إخبارية مثيرة للتوتر والخوف والانقسام، تزرع الشك بين الناس. أما الرعاية الصحية فهي متاحة بسهولة وبكلفة معقولة، فيما يمتاز نمط الحياة بوتيرة أبطأ، وهي أكثر انتظاماً، وأكثر ملاءمة للأطفال.

تتعرض أليسا بولانيوس لكثير من الانتقادات عبر الإنترنت، لكنها تحظى في المقابل بتأييد واسع لما تنشره. وغالباً ما تتلقى رسائل غاضبة من أميركيين يسعون إلى إخافتها وتأكيد أنها ستعود مجبرة عاجلاً أم آجلاً إلى الولايات المتحدة، أو للتعبير عن سعادتهم بمغادرة ليبراليين مثلها البلاد. لكن في كثير من الأحيان، تتلقى رسائل من أشخاص يخططون أيضاً لنقل عائلاتهم إلى خارج الولايات المتحدة. وقد كتب أحد المعلقين عندما أعلنت أسرة بولانيوس عن خططها في بداية العام: "سنرحل اعتباراً من الثاني من يناير (كانون الثاني) ولا نستطيع انتظار حلول موعد مغادرة هذا الجحيم".

هناك أجانب أيضاً يتابعون أليسا بولانيوس عبر الإنترنت، ويرغبون في إخبارها بأنهم يفكرون في الانتقال يوماً ما إلى الولايات المتحدة، إلا أنهم قرروا العدول عن ذلك في نهاية المطاف. أحد هؤلاء كتب قبل نحو أسابيع يقول: "عندما كنت صغيراً، كان حلمي كأجنبي أن أعيش في الولايات المتحدة. أما الآن، فالنضج يعني أن تفرح لأنك لم تنشأ في تلك البلاد".

بمعنى آخر، تتباين ردود الفعل على ما تنشره في هذا الإطار، لكن هناك رد فعل واحد - وهو عبارة محددة - تتكرر بصورة لافتة مراراً، ويستخدمها معلقون مختلفون على مقاطع الفيديو التي قامت بولانيوس بنشرها على مدى العام. هذه العبارة التي كان لها وقع عميق في نفسها تقول: "الحلم الأميركي الجديد يتمثل بمغادرة أميركا".

الدول التي تسعى إلى استقطاب مغتربي الولايات المتحدة

من الأسباب التي ساعدت أليسا بولانيوس على تأمين مصدر رزق لها من خلال توثيق تجربة عائلتها في الهجرة من الولايات المتحدة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، هو الاهتمام المتزايد والواسع بهذا الموضوع في الوقت الراهن. ففي مايو (أيار) الماضي، أعلنت وزارة الداخلية البريطانية أنها تتعامل مع رقم قياسي من طلبات الأميركيين الراغبين في الحصول على الإقامة في المملكة المتحدة، بحيث تم تقديم نحو ألفي طلب خلال الأشهر الستة الأولى من عام 2025 وحدها.

يشار إلى أن عدد الأميركيين الذين انتقلوا إلى الخارج في الربع الأول من عام 2025، كان أكثر من ضعف عدد الذين قاموا بذلك عام 2024. وأظهر استطلاع حديث أجرته مؤسسة "هاريس للاستطلاعات" Harris Poll إلى أن أربعة من كل 10 أميركيين يقولون إنهم مهتمون بالانتقال إلى الخارج سعياً إلى حياة أفضل. أما الأمر الأكثر لفتاً للانتباه، فهو أن هذه النسبة ترتفع لتتجاوز نصف أفراد "جيل الألفية" (الذين ولدوا في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي)، وأكثر من ستة من كل 10 من أبناء "جيل زد" (الأشخاص الذين ولدوا في الفترة الممتدة من منتصف التسعينيات إلى أوائل عام 2010).

لكن ما يثير القلق بالنسبة إلى الولايات المتحدة ليس فقط عدد الأشخاص الذين يخططون في الوقت الراهن لمغادرة البلاد، بل أيضاً أولئك الذين لن يصلوا إليها على الإطلاق. فقد شهدت معدلات الالتحاق بالجامعات الأميركية تراجعاً متواصلاً على مدى أعوام عدة، ويرجع ذلك جزئياً إلى التحولات الديموغرافية الناتجة من انخفاض معدل إنجاب الأسر. وقد تفاقم هذا الانخفاض بصورة حادة أخيراً بعد التعديلات التي أجرتها إدارة دونالد ترمب على تأشيرات الطلاب، والتي حالت دون دخول الطلاب الدوليين، الذين غالباً ما كانوا يعوضون النقص في أعداد الطلاب الأميركيين. هذا الانحدار المفاجئ - الذي بلغ 30 إلى 40 في المئة بين الطلاب الجدد الوافدين من الخارج، و15 في المئة من إجمال تسجيل الطلاب الدوليين لهذا العام الدراسي - قد يكلف الاقتصاد الأميركي خسائر تقدر بنحو 7 مليارات دولار.

في غضون ذلك، بدأت دول أخرى تسعى إلى استغلال ما بدا واضحاً من ظاهرة هجرة العقول من الولايات المتحدة، بعد الهجمات التي شنها الرئيس الأميركي السابق على الجامعات المرموقة في بلاده. فقد أطلقت فرنسا برنامج "منحة لافاييت" Lafayette Scholarship في سبتمبر (أيلول) الماضي، الذي يقدم تمويلاً شاملاً لـ30 طالباً أميركياً استثنائياً على مستوى درجة الماجستير، في مختلف التخصصات الأكاديمية - بدءاً من العلوم والهندسة مروراً بالعلوم الإنسانية وصولاً إلى الفنون - ليتسنى لهم الانتقال للدراسة في "إحدى أفضل 15 مؤسسة جامعية فرنسية" لمدة عام كامل. ويبدو واضحاً أن الهدف من هذا البرنامج هو جذب ألمع العقول الأميركية، وحضها على النظر في فرص أكاديمية ومهنية خارج وطنها الأم.

وذهبت "جامعة أيكس مارسيليا" إلى أبعد من ذلك، من خلال إطلاق برنامج "مكان آمن للعلوم" Safe Place for Science، الذي يضمن رعاية العلماء الأميركيين الذين تعرض عملهم للتهديد خلال إدارة الرئيس ترمب. وقد وصلت إلى فرنسا أول مجموعة "لاجئين علميين" بموجب هذا البرنامج - وهي مؤلفة من ثمانية أميركيين يعملون في مجالات متنوعة مثل أبحاث التغير المناخي والأنثروبولوجيا البيولوجية - في يوليو (تموز) الماضي.

في الإطار نفسه، لكن في بلجيكا، أعلنت "جامعة بروكسل الحرة" في مارس (آذار) الماضي عن جهودها المكثفة لمساعدة "الباحثين المتميزين العاملين اليوم في الولايات المتحدة، الذين يواجهون تهديداً لخطوط أبحاثهم"، على الانتقال إلى الخارج. وغادر أخيراً ثلاثة من الأساتذة المميزين في "جامعة ييل" - جميعهم متخصصون في دراسات الفاشية أو الأنظمة الاستبدادية التاريخية - إلى "جامعة تورونتو" في كندا. في الوقت نفسه، تواصلت مؤسسات أكاديمية وبحثية صينية بصورة نشطة مع باحثين أميركيين، رداً على ما وصفته وسائل إعلام صينية بـ"الثورة المناهضة للعلوم" التي رعتها إدارة ترمب، وذلك سط تغطية إعلامية واسعة النطاق في الصين.

وكان استطلاع أجري في وقت سابق من هذا العام قد كشف عن أن ثلاثة أرباع علماء البحث في جامعات الولايات المتحدة يفكرون جدياً في مغادرة البلاد. وأظهر استطلاع آخر شمل باحثين في مرحلة ما بعد الدكتوراه، يعملون في كليات في مختلف أنحاء الولايات المتحدة، أن أكثر من نصف هؤلاء تأثروا بصورة مباشرة بقرار إدارة دونالد ترمب خفض التمويل المخصص للجامعات، وذلك خلال ستة أسابيع فقط من الإعلان عن القرار.

وكان كثير من هؤلاء يتوجهون إلى أعمالهم يومياً ليجلسوا إلى مكاتبهم أو خارج المختبرات، عاجزين عن مواصلة أبحاثهم، وذلك بعد توقف التمويل الفيدرالي بصورة مفاجئة. وفي بلد يعتمد فيه نحو 90 في المئة من البحث العلمي على التمويل الذي تقدمه الحكومة الفيدرالية، تعد هذه مشكلة خطرة - ليس على مستوى البلاد ككل فحسب - بل أيضاً على مستقبل المسارات المهنية للأكاديميين.

وقد شهدت وسائل التواصل الاجتماعي نشراً واسع النطاق للمحتوى المتعلق بمغادرة الأفراد الولايات المتحدة. فمنذ عام 2021، ارتفع بصورة ملحوظة رواج المحتوى الذي يقدمه مؤثرون غادروا البلاد، وهم يسعون الآن إلى تحقيق دخل مادي لهم من بعد، عبر توثيق تفاصيل حياتهم اليومية وتجاربهم الجديدة على تطبيقي "تيك توك" و"إنستغرام". حتى على منصة "ريديت" - حيث تستخدم أسماء مستعارة ويخلو المحتوى غالباً من الصور - شهد مجتمع المهتمين بمغادرة الولايات المتحدة نمواً كبيراً ومتصاعداً على مدى الأعوام الأربعة الماضية. ويضم منتدى "ريديت/مغادرة الأميركيين" r/AMER Exit المخصص لتبادل النصائح العملية حول إجراءات الانتقال إلى الخارج، نحو 171 ألف زائر أسبوعياً وأكثر من 1000 منشور في الأسبوع.

أحد المشاركين كتب أخيراً: "انتقلت قبل نحو شهر من توسان إلى كوبنهاغن! أحب مدينتي الأم، لكن كم هو رائع توافر وسائل النقل العام هنا، وسهولة الحصول على الرعاية الصحية بكلفة ميسرة". وكتب شخص آخر يقول إنه انتقل إلى اسكتلندا: "أحب للغاية عدم امتلاكي سيارة، والأجمل أنني لا أشعر بأي نقص أو حرمان نتيجة لذلك".

نظرة سريعة على هذه المنشورات تظهر أن معظم الأشخاص الذين هم في طور التخطيط لمغادرة الولايات المتحدة هم من حملة الشهادات الجامعية أو العاملين في مهن عالية المهارة، ما زالت مطلوبة داخل البلاد. وقد يكون من بين هؤلاء مهندس معماري يتطلع إلى الانتقال إلى هولندا، وسائق شاحنات تجارية متوجه إلى كندا، ومستشار في تكنولوجيا المعلومات يأمل في الانتقال إلى الدنمارك، إضافة إلى مهندس برمجيات واختصاصية في علاج النطق واللغة، يسعيان إلى نقل أسرتهما الصغيرة إلى "فرنسا أو هولندا أو ألمانيا أو أستراليا أو اليابان"، كما قالا.

أما أوروغواي - حيث تقيم عائلة أليسا بولانيوس في الوقت الراهن - فتعتبر وجهة شائعة بين الراغبين في مغادرة الولايات المتحدة. ويكرر أحد المعلقين الذي يعرف نفسه بأنه متخصص في الأمن السيبراني، الأسباب نفسها التي يذكرها معظم الأفراد الآخرين لتبرير خططهم بالهجرة، قائلاً: "أنا أب لثلاثة أطفال، ونفكر أنا وزوجتي في الانتقال إلى الخارج نظراً إلى الظروف الراهنة في الولايات المتحدة. لم نعد في الواقع نشعر بالأمان - بين حوادث إطلاق النار اليومية في المدارس، وحالات الاختطاف التي تنفذها الوكالات الفيدرالية يومياً، وغيرها من الأخطار". في جملتين موجزتين، يعكس هذا البيان القاسي صورة قاتمة عن الولايات المتحدة التي وعد دونالد ترمب بجعلها عظيمة مرة أخرى.

الأثرياء للغاية يبحثون عن خطة بديلة

بالنسبة إلى محمد بينيس، فإن الارتفاع الملحوظ في أعداد الأميركيين الراغبين في الهجرة ليس سوى فرصة تجارية مربحة. فبينيس يتولى منصب نائب الرئيس المشارك في مؤسسة "آرتون كابيتال" Arton Capital، وهي شركة متخصصة في "تمكين الأفراد ذوي الثروات الكبيرة وعائلاتهم من أن يصبحوا مواطنين عالميين، عبر الاستثمار في إقامة ثانية، أو الحصول على جنسية إضافية". ويشير بينيس إلى أنه شهد خلال العام الماضي زيادة كبيرة في الاهتمام من قبل الأميركيين بهذه الخدمات.

ويضيف، "إن غالب الطلبات التي تلقتها شركتنا خلال الـ12 شهراً الماضية، جاءت من مواطنين أميركيين". ويوضح أن من بين هؤلاء "أشخاصاً يعملون في قطاع التكنولوجيا ويستطيعون التحرك بحرية أكبر، وهم على وشك بيع شركاتهم أو يمرون بالمراحل النهائية لإدارة أعمالهم. لذا، فإن الأفراد الذين يتصلون بنا ليسوا من هم فقط في الـ30 من عمرهم، بل تتفاوت أعمارهم بين الـ40 وحتى الـ60 عاماً، أي في مرحلة ما قبل التقاعد مباشرة". هؤلاء الأفراد لديهم خطط أعمال مدروسة أو ما يعرف بـ"حدث سيولة" وشيك، بمعنى أنهم على وشك الحصول على مبالغ مالية كبيرة، ويطمحون إلى استثمار هذه الأموال لضمان قدرتهم على مغادرة الولايات المتحدة خلال الأعوام القليلة المقبلة.

بينيس متخصص في مجال "التأشيرات الذهبية"، وهي تأشيرات يمكن للأثرياء الحصول عليها بدفعهم مبالغ طائلة، متجاوزين بذلك المتطلبات التقليدية للهجرة إلى بلد ما، مثل مسار "الجنسية من طريق الاستثمار" Citizenship by Investment في مالطا، الذي يمنح الجنسية بعد 12 شهراً من الإقامة مقابل دفع مبلغ 750 ألف يورو (871 ألف دولار أميركي)، إضافة إلى استثمار عقاري بقيمة 700 ألف يورو (813 ألف دولار)، وتبرع خيري بقيمة 10 آلاف يورو (12 ألف دولار).

ويوضح أن هذه التأشيرات تجعله في وضع يمكنه من توقع معدلات هجرة عقول، لأن عملاءه يخططون لها قبل أعوام من الانتقال الفعلي. فالحصول على تأشيرة ذهبية يستغرق وقتاً طويلاً ويتطلب أشهراً من الترتيبات اللوجيستية. كذلك فإن السعي إليها مكلف ولا يناسب إلا الذين يسعون إلى ضمان خطة خروج آمنة من الولايات المتحدة على المدى الطويل. بمعنى آخر، إن غالبية المتقدمين للحصول على "التأشيرة الذهبية"، هم إما في منتصف حياتهم المهنية أو على وشك التقاعد، ويخططون لإنفاق مبالغ طائلة. وهم يراهنون على أن الولايات المتحدة قد لا تبقى مكاناً مناسباً للعيش في المستقبل.

ويتابع قائلاً إن هؤلاء "يفكرون في الانتقال خلال الأعوام الثلاثة إلى الخمسة المقبلة، ويريدون التأكد من توافر خيار الإقامة عند حدوث ذلك". ويضيف "...لا تنتظر حتى تصبح مستعداً للانتقال كي تحصل على ’التأشيرة الذهبية‘، بل تقدم عليها قبل ذلك بقليل، لتضمن تثبيت وضعك والاستفادة من الشروط القائمة". ويشبه هذه النظرة بما قاله إيلون ماسك عن الأرض عند حديثه عن السفر إلى الفضاء: إنه مكان رائع للعيش فيه الآن، ولكنك تحتاج دائماً إلى خطة خروج محكمة.

ويؤكد بينيس أن الاهتمام بالتأشيرات الذهبية "تزايد بصورة كبيرة"، ويعود ذلك جزئياً إلى التغيرات السياسية. فالأشخاص الذين كانوا يعتقدون سابقاً أن بإمكانهم الهجرة بسهولة، يواجهون الآن تصاعداً في المشاعر المعادية للمهاجرين في جميع أنحاء العالم. كذلك فإن الاحتجاجات الأخيرة ضد المغتربين الأثرياء الذين يرفعون كلف المعيشة في الدول ذات الدخل المنخفض، جعلت الأثرياء يخشون فقدان حريتهم في التنقل التي اعتادوا عليها. ويتابع قائلاً: "كنا نعتبر القدرة على التنقل أمراً مفروغاً منه، أما الآن فنرى أن الأمور تغيرت، ولم يعد هناك أي وضع قائم يضمن الحرية في التنقل كما في السابق".

يعمل بينيس مع كثير من الأثرياء، لكنه لاحظ أيضاً اهتماماً متزايداً من جانب الأميركيين الذي ينتمون إلى الطبقة المتوسطة، بالحصول على إقامة في الخارج. وفي هذا السياق، يقول: "ليس من المستغرب استثمار 250 ألف يورو (290 ألف دولار) لشراء عقار في اليونان والحصول على الإقامة هناك. هذا المبلغ هو في متناول الذين لديهم وظيفة جيدة وبعض الأصول في الولايات المتحدة - فنحن لا نتحدث عن ملايين. يبقى هذا خياراً متاحاً لأفراد الطبقة الوسطى، والطبقة الوسطى العليا، وبالطبع أصحاب الثروات الكبيرة، كخطة بديلة للإقامة في مكان آخر".

يعد المتقاعدون عنصراً بالغ الأهمية بالنسبة إلى الاقتصاد الأميركي. فقد كشف أخيراً "المعهد الوطني لأمن التقاعد"، أن إنفاق هؤلاء وحده يسهم في توليد نحو 1.5 تريليون دولار من الناتج الاقتصادي في مختلف أنحاء الولايات المتحدة سنوياً، إضافة إلى توفير نحو 7.1 مليون وظيفة، وأكثر من 224 مليون دولار من عائدات الضرائب. وإذا ما اختار هؤلاء إنفاق دخلهم التقاعدي خارج البلاد، فإن هذا "الأثر الاقتصادي الهائل الذي يعود بالنفع على كل مجتمع تقريباً في الولايات المتحدة" - كما وصفه المدير التنفيذي للمعهد دان دونان، عند مشاركته في نشر التقرير - سيكون معرضاً للضياع، مما سيتسبب بعواقب بالغة السلبية.

مستقبل مختلف

تعمل أليسا بولانيوس وأفراد أسرتها على الاستقرار في أوروغواي، الدولة التي تتسم بطيبة شعبها وبهوائها النقي. ويتطلع ولداها إلى ارتياد المدرسة كل صباح. لكن هناك في المقابل تحديات أمام الأسرة. فمن جهة، لا تتمتع أوروغواي بتنوع ثقافي كبير، مما ينعكس على خياراتها الغذائية، إذ تقول: "لا أجد قهوة كوبية، وإذا ما رغبت بتناول طعام مكسيكي، فلا أعثر عليه".

أما ابنها البكر فيفتقد بصورة خاصة عائلته ودفء منزله.

وتقول في هذا الإطار "يسألني ابني البكر: ’لماذا لا نعود إلى فلوريدا؟‘. وعلي أن أحاول التعامل مع الموقف بلطف. فكيف لي أن أشرح له أن فلوريدا ليست آمنة، لأن الناس هناك لا يحبون الذين يتحدثون بالإسبانية مثلنا؟ الأمر صعب. أعتقد أن الطريقة الوحيدة لمواجهة ذلك هي السفر معهما، وإظهار لهما أن هناك كثيراً من الأماكن الرائعة في العالم".

كثيراً ما كانت الولايات المتحدة بالنسبة إلى أليسا رمزاً للمهاجرين: فهي فرصة لتذوق أطعمة مختلفة، والتعرف إلى أناس من جميع أنحاء العالم، وتوسيع آفاق الفرد. وتتذكر أليسا طفولتها في نيويورك بنوع من الحنين، ويحزنها بشدة أن تتغير تلك المدينة وتصبح أقل تنوعاً نتيجة سياسات ترمب.

وتتابع قائلة "كانت نيويورك بوتقة انصهار ثقافي ضخمة، وقد نشأت فيها محاطة بعدد كبير من الثقافات المختلفة، إلى درجة أنني شعرت عند سفري للمرة الأولى خارج البلاد، وكأنني قد زرت أماكن أخرى من قبل. ففي شمال المدينة تجد مطاعم دومينيكية في منطقة هايتس، وفي منطقة كورونا التي نشأت فيها، كانت كوينز تضم مزيجاً من الإيطاليين والمكسيكيين، بينما كانت ’جاكسون هايتس‘ تقدم المأكولات الكولومبية. لذا، يحزنني أن بقية البلاد لا تدرك جمال هذا التنوع الثقافي، وكيف يضفي على الولايات المتحدة طابعاً مميزا".

لكن كيف ستبدو أميركا إذا ما رفضت هذا التنوع المجتمعي؟ تقدم البيانات لمحة مثيرة للقلق. فعلى رغم أن مختلف الإجراءات تنفذ تحت ذريعة تعزيز النمو الاقتصادي، فإن الأرقام نفسها تشير إلى أن الاقتصاد الأميركي نفسه هو الأكثر عرضة للخسارة.

© The Independent

المزيد من تحقيقات ومطولات