ملخص
إذا كانت الخلافات بين أوكرانيا وكل من المجر وسلوفاكيا يغلب عليها الطابع الاقتصادي في معظمه، فإنها تعود بالنسبة إلى بولندا إلى التاريخ القريب، ومنه ما يتعلق بالإرث التاريخي والذاكرة الجماعية التي لا تزال تذكر عمليات التطهير العرقي التي قامت بها منظمة القوميين الأوكرانيين.
ما بين ثوابت التاريخ والجغرافيا وتشابكها مع قضايا الحاضر وتعقيداته السياسية والاقتصادية تتصاعد الخلافات بين أوكرانيا وجيرانها من بلدان شرق أوروبا، ونخص بالذكر منها المجر وسلوفاكيا من جانب، وبولندا من جانب آخر. وكانت المجر وسلوفاكيا توجهتا برسالة مشتركة إلى الاتحاد الأوروبي يطالبان فيها باتخاذ إجراءات ضد أوكرانيا احتجاجاً على قصفها لأنابيب نقل النفط الوارد إليهما من روسيا، وهو ما ردت عليه المفوضية الأوروبية بـ"أن لدى البلدين احتياطات كافية لـ90 يوماً". في الوقت الذي أعلنت فيه هاتان الجمهوريتان عن انتهاء احتياطاتهما من النفط، وتحولهما إلى الاستهلاك من مخزونهما الاستراتيجي بكل ما يمثله ذلك من أخطار.
وإذا كانت الخلافات بين أوكرانيا وكل من المجر وسلوفاكيا يغلب عليها الطابع الاقتصادي في معظمه، فإنها تعود بالنسبة إلى بولندا إلى التاريخ القريب، ومنه ما يتعلق بالإرث التاريخي والذاكرة الجماعية التي لا تزال تذكر عمليات التطهير العرقي التي قامت بها منظمة القوميين الأوكرانيين، وما ارتكبته من جرائم دموية في حق البولنديين إبان سنوات الحرب العالمية الثانية، وتبني أوكرانيا لرموز "بانديرا" وتخليدها بوصفها رمزاً لتمجيد الإرهاب والنزعات المتطرفة منذ قيام "الثورة البرتقالية" في موجتها الأولى عام 2004.
وكانت كييف الرسمية أعلنت ستيبان بانديرا زعيم منظمة القوميين الأوكرانيين "بطلاً وطنياً" وأقامت له التماثيل والنصب التذكارية في عديد من مناطق غرب أوكرانيا، بينما تتهمه بولندا بقتل الآلاف من مواطنيها وارتكاب كثير من جرائم "إبادة الجنس" والتطهير العرقي في حق مواطنيها بالمناطق التي جرى ضمها إلى أوكرانيا من أراضي شرق بولندا، بموجب نتائج الحرب العالمية الثانية، فضلاً عن تمجيد رموز القوميين الأوكرانيين التي سرعان ما أعلنت بولندا عن "مساواتها بالرموز النازية"، إضافة إلى تركة الحرب المجرية السلوفاكية، التي خلقت على رغم قصر مدتها (ثمانية أيام) إرثاً من عدم الثقة والحدود المتنازع عليها، وتخشي قيادات البلدين من احتمالات تجدد مثل تلك الخلافات حول الحدود.
تفجير خط أنابيب "دروجبا"
كانت المجر ومعها سلوفاكيا المجاورة اتخذتا منذ اندلاع الأزمة الأوكرانية عام 2014 موقفاً موحداً مناوئاً لأوكرانيا، وهو ما انعكس على سياساتها، وما أعلن عنه فيكتور أوربان رئيس الحكومة المجرية في كثير من قراراته حول رفضه التصويت مع مطالب أوكرانيا الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي وإلى عضوية "الناتو"، إلى جانب رفضه تقديم الدعم العسكري أو مروره عبر الأراضي المجرية، فضلاً عما اتخذه من مواقف معارضة لفرض العقوبات الأوروبية ضد روسيا. وكان أوربان عزا عدم موافقته على انضمام أوكرانيا إلى الـ"ناتو" إلى أخطار الجريمة الأوكرانية المنظمة وغير المنظمة وإغراق الأسواق المحلية بالمنتجات الزراعية الأوكرانية الرخيصة الثمن والقيمة، إلى جانب المصالح الاقتصادية المباشرة، وبخاصة في مجال الطاقة والأمن، وما أعلنه أيضاً روبرت فيتسو رئيس وزراء سلوفاكيا.
وقد جاء قرار حظر صادرات الحبوب الأوكرانية إلى كل من البلدين ليضيف مزيداً من التوتر إلى العلاقات بين هذه البلدان، وهو ما زاده حدة قصف أوكرانيا لخط أنابيب نقل النفط "دروجبا" (الصداقة) عبر الأراضي الأوكرانية إلى كل من المجر وسلوفاكيا خلال الأسابيع القليلة الماضية، على رغم أن أوكرانيا كانت تستفيد من منتجات ذلك النفط الروسي التي تستوردها من سلوفاكيا.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وقد أعلنت السلطات المجرية والسلوفاكية تحذيرها للسلطات الأوكرانية، وطالبت بالامتناع عن مثل هذه التصرفات التي اعتبرتها تهديداً مباشراً لأمن الطاقة في البلدين. ونقلت صحيفة "ماجيار نيمزيت" عن رئيس الحكومة المجرية قوله إن "الرئيس زيلينسكي يهدد المجر علانية، وأعترف بأنهم يقصفون خط أنابيب (دروجبا) لأننا لا ندعم عضويتهم في الاتحاد الأوروبي". وأضاف أن قرار الشعب المجري صائب في ظل هذه الظروف، مشيراً إلى استحالة الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي "عبر الابتزاز والتفجيرات والتهديدات"، على حد تعبيره.
وحذر أوربان من أن تصريحات زيلينسكي "ستكون لها عواقب وخيمة". وعلى نحو وصفته "الصحيفة الروسية" الجريدة الرسمية للدولة بـ"البائس"، نصح وزير الخارجية الأوكرانية أندريه سيبيغا السلطات المجرية بإرسال شكواها وتهديداتها إلى الأصدقاء في موسكو"، مشيراً إلى أن "أمن الطاقة في المجر في أيدي السلطات المجرية".
من جانبه قال وزير الخارجية والعلاقات الخارجية المجرية بيتر سيارتو إن خط أنابيب النفط "دروجبا" تعرض لهجوم من جانب القوات المسلحة الأوكرانية ثلاث مرات "خلال فترة وجيزة" - ليلة الـ22 من أغسطس (آب)، ولاحقاً في الـ24 من أغسطس". ودعا بيتر سيارتو كييف إلى الكف عن تهديد بلاده، والتوقف عن شن هجمات جديدة على أمن الطاقة في البلاد، وذلك ما دفع وزير الخارجية الأوكراني أندريه سيبغا إلى الرد على نظيره المجري سيارتو بطلبه حول عدم إصدار أوامر إلى زيلينسكي". وعلى رغم ما قاله سيارتو حول أن المجر لم توقف صادراتها من الطاقة الكهربائية التي تصدرها لأوكرانيا وتبلغ نسبة 30-40 في المئة من الواردات الأوكرانية. وعزا المسؤول المجري ذلك إلى أن "المجر تعلم ماذا يمكن أن يعني مثل هذا القرار من تأثير في الأطفال في أوكرانيا". وقال إن "المجر لا تريد أن تلحق سوءاً بالشعب الأوكراني، وفي ذلك يكمن الفرق بيننا وبين السلطات الأوكرانية بما تتسم به من مستوى أخلاقي شديد التدني"، كما أعلن انضمامه إلى مثل هذا الموقف جيرجي هوياش مدير مكتب رئيس الحكومة المجرية، بقوله "إن انضمام أوكرانيا إلى الاتحاد الأوروبي قد يكون خطأً تاريخياً، إذ إنها لا تفي بشروط المرشح لعضوية الحلف بسبب التهديدات التي يتعرض لها أمن الطاقة في الدول الأعضاء بالاتحاد الأوروبي".
وفي هذا الصدد نقلت صحيفة "إزفيستيا" شبه الرسمية الروسية عن ماريا زاخاروفا الناطقة الرسمية باسم وزارة الخارجية الروسية قولها "إن هجمات القوات المسلحة الأوكرانية على خط أنابيب نقل النفط (دروجبا) كانت بمثابة قرصنة مباشرة"، على حد تعبيرها.
وكانت صحيفة "بوليتيكو" كشفت من جانبها عن أن الرئيس الأميركي دونالد ترمب نجح في إقناع أوربان رئيس الحكومة المجرية بالتخلي عن معارضته لطلب أوكرانيا الانضمام لعضوية الاتحاد الأوروبي، وإن كشفت مصادر أخرى عن أن رئيس الحكومة المجرية لا يزال عند موقفه الرافض لانضمام أوكرانيا إلى الاتحاد الأوروبي. وأشارت الصحيفة إلى أن الاتحاد الأوروبي قد يبدأ مفاوضاته حول انضمام كل من أوكرانيا ومولدوفا إلى عضويته خلال الأيام أو الأسابيع القليلة القادمة، مما سيسمح "بكسر الجمود" في شأن انضمام دولتي أوروبا الشرقية إلى الاتحاد الأوروبي خلال الأشهر القليلة المقبلة.
خلافات في الاتحاد الأوروبي
فرض الاتحاد الأوروبي حظراً موقتاً على استيراد الحبوب الأوكرانية في 5 بلدان من أعضائها، بما في ذلك بولندا والمجر وسلوفاكيا، لحماية أسواقها المحلية، مع السماح بالعبور إلى دول أخرى، غير أن كلاً من بولندا والمجر وسلوفاكيا رفضت التخلي عن رفع الحظر بصورة أحادية عندما انتهى الحظر في الـ15 من سبتمبر (أيلول) 2023، مخالفة بذلك سياسة التجارة الموحدة للاتحاد الأوروبي، مما تسبب في اندلاع الأزمة داخل بلدان الاتحاد، وكان سبباً في اتهام المفوضية الأوروبية لهذه البلدان بتقويض الوحدة. وما إن تراجعت أصداء هذه المشكلة حتى عادت الخلافات إلى الظهور مرة أخرى، على وقع تكرار إصرار المجر على رفض التصويت مع ضم أوكرانيا إلى عضوية الاتحاد الأوروبي، ووقوفها مع سلوفاكيا ضد الدعم العسكري لأوكرانيا ومرور الشحنات والقوات العسكرية عبر أراضيهما.
وقد جاءت الأزمة الأخيرة التي اندلعت نتيجة قصف المسيرات الأوكرانية لأنابيب نقل النفط الروسي إلى كل من المجر وسلوفاكيا، في وقت مواكب للقرار الذي اتخذه كارول نافروتسكي الرئيس الجديد لبولندا حول حظر صرف الدعم المادي الذي كانت أقرته بولندا للمهاجرين الأوكرانيين إلى العاطلين منهم عن العمل، إلى جانب تصريحاته حول رفض مساواة الرموز القومية بالرموز الفاشية والنازية، ومنها النصب والتماثيل التي أقامتها السطات الأوكرانية لتخليد ذكرى أعضاء المنظمات القومية، ومنهم ستيبان بانديرا الذي أقرته السلطات الأوكرانية "بطلاً قومياً"، ولا تزال السلطات الروسية تعده من أنصار النازية والمعادين لروسيا والاتحاد السوفياتي السابق، وذلك على رغم الحيرة التي تنتاب القيادات البولندية بين دعمها القوي لأوكرانيا من جانب، وحساسيتها التاريخية القديمة تجاه علاقاتها مع روسيا من جانب آخر، ولأسباب تعود إلى ما أقتطع من أراضيها ولا يزال يرزح تحت سيطرة أوكرانيا في الشرق منها، وذلك ما استهدف الرئيس البولندي السابق أندريه دودا الالتفاف حوله وتجاوزه بما وقعه من معاهدات واتفاقات حول منح البولنديين وضعية قانونية خاصة حول حرية الحركة والتنقل في أوكرانيا، إلى جانب وجود ما يزيد على 15 ألفاً من الجنود البولنديين المقاتلين في صفوف القوات الأوكرانية، وهو ما وصفه المحلل السياسي الروسي فيكتور شوغالي بأنه بمثابة "ضم ناعم" من بولندا للأراضي الواقعة غرب أوكرانيا، بحسب ما أشارت "سكاي نيوز عربية"، فضلاً عما تكابده بولندا من ضغوط اقتصادية داخلية.
وعلى رغم ما سبق أن قاله الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي حول أن التقارب والمساعدة والدعم على جبهات عدة يدفع ما يشوب علاقات أوكرانيا مع بولندا من خلافات تاريخية إلى خلفية المشهد العام لهذه العلاقات، فإن بولندا تتفاعل بحدة مع القضايا المتعلقة بمأساة "مذبحة فولين" التي راح ضحيتها زهاء 50 ألفاً من البولنديين، إلى جانب ضحايا جيش التمرد الأوكراني، وستيبان بانديرا، في إشارة إلى التناقضات التاريخية بين البلدين، وهو ما سبق أن أشرنا إليه في تقرير سابق لـ"اندبندنت عربية" من موسكو. وإذا أضفنا إلى كل ذلك ما يظل عالقاً بذاكرة التاريخ من اقتطاع أجزاء كبيرة من شرق بولندا، وهي الأراضي التي ضمها ستالين إلى شرق أوكرانيا بموجب نتائج الحرب العالمية الثانية، فإن صورة خلافات البلدين تصبح أكثر قتامة.