ملخص
يرتبط اللبناني بـ"قصة عشق" مع سيارة "المرسيدس"، فهي رفيقته في الأفراح والصعاب منذ خمسينيات القرن الماضي وحتى اليوم. لا يكاد رجل كبير يسكن القرى اللبنانية، إلا ويتمسك بسيارته "المرسيدس" التي يعدها "أم العيلة". إلا أن جيلاً جديداً من الشباب راح يقتنيها بوصفها "سيارة كلاسيكية" أو "قطعة تراثية" عالية القيمة.
"قصة حب" تتوارث فصولها الأجيال من آباء وأبناء، هكذا يمكن وصف "علاقة اللبناني بـ’المرسيدس‘"، التي تتصف بالعمق والرسوخ. لا ينظر اللبناني إلى سيارة "المرسيدس" باعتبارها سيارة ووسيلة نقل، وإنما ترتقي في وجدانه، ومن دون مبالغة في القول، إلى مستوى "الرمز الوطني".
فالسيارة الألمانية الفاخرة لم تكن في نظر اللبنانيين مجرد مركبة، بل رمزاً للمكانة والنجاح، ومرآة لتقاليد التفاخر و"الهيبة" التي طبعت المجتمع. من سيارات الأجرة السوداء الشهيرة التي جابت الطرقات الداخلية، إلى حضورها الطاغي في الأفراح والمناسبات العائلية، وحتى تلك السياسية.
منذ الخمسينيات وحتى اليوم
إن عدنا عقوداً إلى الوراء، نكتشف أنه في خمسينيات القرن الماضي دخلت هذه السيارة إلى لبنان لتصبح سريعاً أكثر من مجرد وسيلة نقل. ففي تلك الحقبة كانت رمزاً للحداثة والرفاهية، يقتنيها الميسورون من رجال الأعمال والوجهاء، لتدل على المكانة الاجتماعية والرقي. ومع انطلاق الستينيات توسع حضورها مع ازدهار الاقتصاد اللبناني وتحول بيروت إلى مركز تجاري وسياحي في المنطقة، فباتت "المرسيدس" السيارة المفضلة للنقل الخاص ولشركات التاكسي الفخمة.
لكن مع اندلاع الحرب الأهلية (1975 – 1990) اكتسبت "المرسيدس" بعداً جديداً. وظهرت كسيارة الصمود على الطرقات المحفوفة بالأخطار، واستخدمت بكثرة في التنقل بين الحواجز وخطوط التماس، حتى صارت مشهداً يومياً يعكس صلابة اللبنانيين وقدرتهم على التكيف وسط الفوضى.
ومع التسعينيات وما بعدها، ومع انتهاء الحرب وإعادة الإعمار، استعاد اللبنانيون شغفهم بالسيارة الألمانية باعتبارها مرادفاً للفخامة والنجاح الفردي. واليوم بعد سبعة عقود، تحولت علاقة اللبنانيين بـ"المرسيدس" من رمز للحداثة والهيبة، إلى رفيق يومي في الأزمات، ثم إلى أيقونة متجذرة في الذاكرة الجماعية.
وقد أحبها اللبناني إلى حد أبدع لها الأسماء، التي باتت جزءاً من القاموس الوجداني والشعبي، فها هي "المرسيدس" موديل 200 أصبحت تكنى بـ"القطش"، والـ300 "بطة" والـ600 "الشبح"، إلى جانب كثير من الموديلات الأخرى ومنها "الصندوق العريض" و"اللف" و"أم عيون"، وكثير كثير.
هذا الأمر على بساطته بالنسبة إلى البعض إلا أنه يشكل خير دليل على "مكانة رفيعة" حظيت بها هذه السيارة في بلاد الأرز، فقد اعتاد اللبناني على منح الألقاب لتلك الأشياء التي تعنيه وتسعده.
تجربة "الملك" في الشمال اللبناني
يقدم عمر شكري الشعار، الملقب بـ"الملك" والبالغ 93 سنة، نموذجاً على التعلق بـ"المرسيدس"، فها هو "أقدم سائق سيارة أجرة على خط الضنية – طرابلس"، يستمر بقيادة سيارته "المرسيدس" 190 سوداء اللون منذ عقود، ولا يتخلى عنها.
يتحدث الشعار عن سيارة "رفيقة الدرب"، تشارك معها أجمل اللحظات، جالت في مختلف المناطق اللبنانية، وسافرت براً لمئات الأميال إلى سوريا، وتركيا وإسطنبول والخليج العربي. يستمر "الملك" بقيادة سيارته التي يصنفها البعض ضمن فئة السيارات الكلاسيكية.
مر الزمن، وأصبحت سيارته عنواناً للكفاح ورفيقة دربه، وبات "الملك" شخصية من الشخصيات المحببة لدى أبناء الشمال اللبناني، حيث ينظر إليه الكبار بكثير من الحب، ويرى فيه الصغار "الأب الكبير"، وسائقاً محترفاً ينتمي إلى الرعيل الأول من سائقي "المرسيدس" في لبنان.
يؤكد تماسك وقوة تلك السيارة الألمانية التي كانت في بعض المرات تحمل على متنها 12 راكباً من طرابلس إلى الضنية أقصى الشمال اللبناني بسبب وعورة الطرقات وندرة السيارات قبل 65 عاماً من الزمن، حين كان لا يتجاوز عدد سائقي الأجرة أصابع اليد الواحدة، وكان بعض اللبنانيين يركب في الصندوق، أو على الدفاع الخلفي للسيارة.
معرض لسيارات "المرسيدس" القديمة
ما إن تصل إلى ساحة التل في طرابلس حتى تظن نفسك في معرض لسيارات "المرسيدس" القديمة التي يقودها سائقو الأجرة، هكذا يصف أحمد الشاب اللبناني الألماني، وهو "شديد التعلق بالسيارات"، انطباعه حول ما رآه في لبنان، حيث "توجد العشرات من السيارات التي اعتنى بها أصحابها وحافظوا عليها إلى حد كبير"، معبراً عن سعادته لرؤية الموديلات القديمة من "المرسيدس"، والتي لا تتوافر إلا ضمن مجموعات محددة في ألمانيا.
ويشير الشاب إلى أنه "بينما كان يزور مدينة الميناء، رأى سائق تاكسي يقود ’مرسيدس‘ كحلية موديل 200، فأصر على الركوب معه. ولم يتردد في أن يطلب منحه الفرصة بقيادتها لمسافة قصيرة". كما يعتقد الشاب أن "اللبناني يبلي بلاءً حسناً في الحفاظ على تلك السيارات"، وهو ما نجده فعلياً لدى كثر، ممن أطلقوا بمبادرة شخصية ورشات لإعادة "إحياء" سيارات "المرسيدس" القديمة، حيث يجول أحدهم بين المناطق الشعبية ومتاجر قطع السيارات لشراء الأبواب والأغطية "الأصلية"، وبعدها يقومون بعملية تأهيل الهيكل الخارجي والداخلي للمرسيدس بغية "إعادة الحياة مجدداً إلى سيارات يفوق عمر بعضها نصف القرن".
سيارة الشاه تصل إلى لبنان
في عام 1979، أطلقت شركة "مرسيدس" موديلاً اعتبر نادراً من سياراتها رباعية الدفع الـ"جي كلاس" G class، حيث صممت خصيصاً لشاه إيران السابق محمد رضا بهلوي. وتقول التقارير إن الشاه نفسه طلب من الشركة الألمانية تصميم سيارة دفع رباعي قوية بمواصفات عسكرية للاستخدام في الجيش الإيراني، لكن لم تصل هذه السيارات إلى الجيش الإيراني بسبب الثورة، ثم أصبحت اليوم من أفخم سيارات الدفع الرباعي المدنية.
وصلت في بداية ثمانينيات القرن الماضي أعداد قليلة منها إلى لبنان، وظفر الدكتور حسان الصمد بواحدة منها، إذ يصفها بـ"القطعة الفنية" التي تستحق أعلى درجات الاهتمام والعناية.
يروي الصمد قصته الطويلة مع "المرسيدس"، التي بدأت فصولها مع "المرسيدس" 180 موديل 1964 "الجميلة والأنيقة"، قبل أن يصب جهده، ووقته على تجديد "سيارة الشاه"، إذ استغرقت العملية خمسة أعوام من الزمن. يشبه الصمد المتخصص في الفن التشكيلي، تلك السيارة بـ"لوحة فنية"، وهي إرث إنساني وثقافي، كما أنها "شاهد على مرحلة من التاريخ"، كاشفاً عن "علاقة عاطفية بينه وبين سيارته المميزة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أصبحت الـG class جزءاً من عائلة حسان، إذ تبادره والدته بالسؤال "كيف حال زوجتك الغنوجة؟" في دلالة إلى ما يقضيه من وقت معها، إذ تحظى بالحصة الكبرى من أوقات الفراغ، وينفق عليها كثيراً من المال. ويلفت الصمد "بعض اللبنانيين يتعامل مع السيارات القديمة على أنها خزنة وخزانة واستثمار بسبب ارتفاع أسعارها مع مرور الوقت"، مستدركاً "إلا أنها أكثر من ذلك إذ تنشأ علاقة عاطفية بين السيارة والمالك، ويرفض الاستغناء عنها إلا بطلوع الروح (الموت)".
يعتبر حسان الصمد أن عشاق السيارات ينقسمون إلى فئتين، الفئة الأولى تضم جامعي السيارات الأصلية من دون أي تعديل مطلق، والفئة الثانية التي ينتمي إليها الصمد، أي فئة "المنقذين"، كما يقول، الذين يتبنون السيارات المهملة في قارعة أرصفة الشارع، لإعادة تأهيلها وصيانتها.
استهل الصمد الرحلة بطلب القطع الأصلية من الشركة الأم، وراح ينقلها من متخصص إلى آخر للعودة بها إلى سابق عهدها وترميمها. يعتقد الصمد أنه "سار بـ"المرسيدس" خاصته طريق الجلجلة لترميمها، ولكن ما إن دنا من ختام رحلته في 2022 حتى شعر بفرح عظيم، إذ "يعتز بامتلاكه قطعة نادرة من سيارات ’المرسيدس‘ على مستوى لبنان"، مشبهاً شعوره بـ"شعور المزارع الذي حصد محاصيله بكل رضا، ماسحاً عرق جبينه، ومحتفلاً بعيد الحصاد". واكتسب خبرة كبيرة على مستوى تفاصيل السيارة وقطعها والميكانيك، إذ اتخذ المكسب بعداً وجدانياً شخصياً، وبعداً موضوعياً مادياً بسبب القيمة الكبيرة لتلك السيارة الاستثنائية التي يقتنيها "المشاهير والملوك ورؤساء المافيا"، كما يقول.
نادي "المرسيدس" من شمال لبنان إلى جنوبه
يتوزع محبو "المرسيدس" على امتداد الجغرافيا اللبنانية، وليس مستغرباً وجود "نادٍ" يجمع محبيها الأوفياء. يعد فادي المصري واحداً من هؤلاء الذي حقق حلم الطفولة عندما اهتدى إلى إحداها متروكة، وقرر تأهيلها من جديد، إذ استمر بالعمل عليها أكثر من عام.
يعود حب فادي لـ"المرسيدس" إلى مقاعد الدراسة، "كان كثير الشرود في الصف، يحلم بموديلات ’المرسيدس‘، ولكنه يرسم باستمرار موديلاً واحداً كثيراً ما راوده حلم اقتنائه، وهو الموديل ’مرسيدس 300‘ الذي ما زال يرسمه حتى يومنا هذا متى تحين الفرصة".
ولكن ازداد شغفه بعد انضمامه إلى مجموعة لمحبي سيارات "المرسيدس" الكلاسيكية، بدأ التجمع من طرابلس وبيروت، قبل انضمام أعداد كبيرة من سائقي الجنوب وجبل لبنان، إلى أن بلغ العدد الإجمالي 60 سيارة متشابهة من جهة الموديل واللون والمواصفات الفريدة.
وشكل هؤلاء السائقون نواة للنادي اللبناني الذي حمل بداية اسم W124 lebanon، قبل أن يصبح the W124 family Lebanon، جامعاً عائلة محبي "المرسيدس" من مختلف المناطق اللبنانية، التي تجوب المناطق كافة، حيث تحظى تلك الخطوة بتقدير وترحيب كبيرين محلياً وإقليمياً.
أنفق أفراد النادي كثيراً من المال على سياراتهم، ويعود السبب في ذلك إلى الارتباط النفسي الشديد، يصفها فادي بـ"زوجتي الأولى" و"الحبيبة" لأنها "سيارته الكلاسيكية المفضلة"، وقد "استأجر لها خيمة ضمن مرأب خاص للحفاظ عليها وحمايتها"، متحدثاً عن بعض الأدبيات الخاصة إذ "لا يمكن إعارة السيارة لأحد مطلقاً، لأن من شأن أي جرح أن يخلق خلافاً عظيماً".
جيل جديد من المحبين
تستقطب سيارات "المرسيدس" الكلاسيكية جيلاً جديداً من الملاك، ويتحدث عمر الشاب العشريني عن تعلقه المتزايد بسيارة "المرسيدس 200، القطش" التي "اشتراها الوالد المحب لتراث ’المرسيدس‘ من رجل تسعيني يقطن منطقة القبيات في عكار شمالاً"، مستذكراً أن "البائع كان متردداً بسبب ما تعنيه له، ولكنه عاد ووافق على بيعها".
يلفت عمر عن اختلاف نظرته إليها "في 2022، عندما اشتريناها كنت أحتقرها، لأننا نمتلك سيارات ’مرسيدس‘ حديثة ومكيفة. ولكن مع مرور الوقت انتقلت لقيادتها بحجة تعلم القيادة عليها، ولكن سرعان ما بدأت الاهتمام بها من خلال شراء قطع جديدة، وتنظيفها"، مضيفاً "أخيراً بت أجلس أمامها وأتأملها بعدما أيقنت قيمتها، وقدرتها على تحمل الأعباء والمشاوير الصعبة".