ملخص
كسر المخرج الروسي الكبير ألكسندر سوكوروف صمتاً دام عقداً من الزمن، ليطل بضربة فنية مُتقنة أعادته إلى مهرجان البندقية السينمائي (27 أغسطس/آب - 6 سبتمبر/أيلول)، حيث كان عُرض قبل عشر سنوات فيلمه ما قبل الأخير "فرنكوفونيا".
جديد سوكوروف، "يوميات مخرج"، فيلم ملحمي يمتد خمس ساعات وخمس دقائق (مع استراحة 15 دقيقة ظهر عدّها التنازلي على الشاشة)، ليكون أطول فيلم يشارك في دورة هذا العام.
شهد العرض العالمي الأول للفيلم حضوراً ضم المخرج نفسه وعدداً من أعضاء فريقه، من بينهم المنتج والمدير السابق للـ"موسترا" ماركو مولر، أحد المقرّبين من سوكوروف. شاهدناه في صالة غير تقليدية هي في الواقع هنغار، تساقط المطر على سقفه فشكّل خلفية صوتية أضفت بُعداً حسياً على التجربة البصرية.
أهمية هذا الفيلم لا تقتصر على عودة سوكوروف فحسب، إنما في كسره حاجز العزلة المفروضة على السينما الروسية في المهرجانات الأوروبية منذ اندلاع الحرب على أوكرانيا قبل أكثر من ثلاث سنوات. ففي ظل استبعاد شبه تام لصنّاع السينما الروس من التظاهرات الفنية الدولية- باستثناء من أعلنوا معارضتهم الصريحة للنظام ويعيش معظمهم خارج روسيا- يبرز حضور سوكوروف، الذي لا يزال محسوباً على الداخل الروسي، كاستثناء لافت.
يمتد الفيلم ليستعرض حقبة الاتحاد السوفياتي من عام 1957 حتى انهياره في 1991، كما عاشها سوكوروف نفسه. ومع أن مدته تتجاوز خمس ساعات، فالزمن ينساب فيه بخفة، كما لو أننا أمام مشاهدة لا تتجاوز الساعتين. يُمسك بنا الفيلم منذ لحظاته الأولى، ويغمرنا في عالمه من دون أن يمنحنا فرصة للمقاومة أو الفكاك.
هو عمل خارج التصنيفات التقليدية، اختار مهرجان البندقية إدراجه خارج المسابقة الرسمية. يقدّم قراءة شخصية وعامة في آن، ترصد تقلبات نصف قرن من التاريخ السوفياتي، بلحظاته الطوباوية المضيئة وتناقضاته وصراعاته الكبرى، وصولاً إلى انهياره الحتمي بعد أن حكم الملايين وغيّر ملامح العالم. إنه فيلم عن الأفكار حين تتحوّل إلى أنظمة، وعن الأيديولوجيات حين تُشكّل حياة البشر وتُعيد صوغ المصائر. لا يكتفي سوكوروف بسرد التاريخ، إنما يعيد تأمله من الداخل، كأنما يُحاكم زمناً نحن أبناء تداعياته المباشرة. يصنع هذا كله، معتمداً على قوة الصور التعبيرية، من دون أن يتحدّث.
يرى سوكوروف فيلمه على أنه مساحة مفتوحة للتأمل الحر، يقول: "أمنح المشاهد حرية التتبّع والتحليل، وبناء روابطه الداخلية الخاصة، واستنباط الإشارات إلى أحداث القرن العشرين. في هذا العمل، ينصهر الأدب والسينما في تيار إبداعي واحد يتجاوز القوالب الوثائقية التقليدية، ليخلق تجربة فنية فريدة تتخطى حدود النوع والأسلوب".
الروس بارعون في لعبة التقطيع، وهم بحقّ أساتذة المونتاج منذ أن وضع سيرغي أيزنشتاين قواعده الذهبية التي لا تزال حية ومؤثرة حتى اليوم. وإذا كان سوكوروف قد سطع سابقاً في مجال اللقطة الواحدة- كما في فيلمه الشهير "الفُلق الروسي"-فإنه يخوض في "يوميات مخرج" مغامرة معاكسة تماماً، تقوم على المونتاج كتيمة سردية مركزية، بل كفلسفة بصرية. فالفيلم مؤلف من آلاف اللحظات المقطّعة والموصولة، لقطات خاطفة لا تدوم الواحدة منها أكثر من ثوان معدودة، تُحدث إيقاعاً لاهثاً، مستلهماً من تقنيات الدعاية السياسية الكلاسيكية.
كل ما نراه، باستثناء لقطات قليلة يظهر فيها سوكوروف وهو يدوّن تواريخ في دفتره، هو مواد أرشيفية، "نيوز ريل" (أخبار سينمائية). سوكوروف لم يصوّر منها شيئاً بنفسه. هذا الاستخدام الذكي والمكثّف للأرشيف لا يخدم فقط البناء الفني، بل يحمل موقفاً واضحاً؛ وكأن الفيلم بأسره هو رد صامت على موجة العداء الثقافي لروسيا التي تفجّرت بعد غزو أوكرانيا، وعبّرت عن نفسها من خلال الإقصاء التام للفن الروسي من المشهد الأوروبي.
قد لا يكون سوكوروف من أنصار فلاديمير بوتين، لكنه أيضاً ليس من أولئك الذين خضعوا بالكامل لمقاييس الغرب في التصنيف والتجريم. هو لا يخلط، كما تفعل أوروبا الرسمية، بين روسيا الفن والفكر والثقافة، وروسيا السياسة والنظام. في نهاية المطاف، نحن أمام مخرج يبلغ منتصف السبعينيات، يتنقّل بعصا، ويملك ما يكفي من الاطلاع والرؤية لكي يميّز بين ما ينبغي الدفاع عنه وما يجب تجاوزه. هو رجل محافظ لا شك، وطني النزعة، لا يدّعي الحياد، لكنه لا يساوم على جوهر فنيته.
ينبش المعلم دفاتره القديمة ليُخرج منها جديداً يعيد تركيب الزمن بمعناه الوجودي والسياسي. كل شيء حاضر في هذا الفيلم، كافة التواريخ التي صنعت النصف الثاني من القرن العشرين: من الصراعات الكبرى إلى النكبات التي شكّلت وجدان عدة أجيال.
عوالم متعددة
تتوالى على الشاشة أسماء كثيرة، من عوالم السياسة والفكر والفن والعلوم. نسمع عن أوسكار نيماير، وليم فولكنر، فلاديمير نابوكوف، ويتني هيوستن، إديت بياف، ألبير كامو، مارتن لوثر كينغ، بوريس باسترناك، جمال عبد الناصر، غولدا مائير... وصولاً إلى إيلون ماسك وليونيل ميسي. وغيرها من الأسماء التي شكّلت مشهداً كونياً متداخلاً.
يحتفي سوكوروف بالحياة مثلما يرثي الموتى- أولئك "الأحبة الافتراضيين" الذين لم يعرفهم شخصياً، لكنه ارتبط بهم وجدانياً وثقافياً. يقوم بمسح بصري وتأملي لتواريخ صنعت زمنه الشخصي، وزمن الحرب الباردة: سباق محموم نحو غزو الفضاء، وسباق آخر أشد فتكاً نحو امتلاك السلاح النووي، واختراعات قلبت حياتنا رأساً على عقب، من بينها الإنترنت. من دون أن ينسى دائماً الإشارة إلى قمع السلطات السوفياتية باسم المصلحة العامة الذي تُرجم بالاعتقالات ومناهضة الرأي الحر، وأسهم في إبعاد المثقفين عن بلدهم.
هو زمن أبطاله شارل ديغول ونيكيتا خروتشوف وليونيد بريجنيف وتشي غيفارا، وزمن وودستوك وثورات الشباب، وسنوات الانقلابات والانتحارات، والتحطمات الجوية والهزات الأرضية التي كانت تخلّف الجثث والأيتام في بقاع الأرض المختلفة. لا نحتاج إلى الساعات الخمس التي يستغرقها الفيلم لنُدرك أن تلك الخمسين سنة التي يتناولها ربما كانت الأغنى في تاريخ البشرية من حيث التحوّل والتعقيد.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
كل هذا يبقى في كفة، وحين تظهر على الشاشة أسماء الأفلام والمخرجين، ننتقل إلى كفة أخرى بالكامل. هنا يتجلى حبّ سوكوروف الحقيقي، عشقه الخالص للسينما والفن والثقافة. نلمس مدى عنايته واحتفائه بمخرجين مثل إنغمار برغمان وستيفن سبيلبرغ بنفس القدر من الاهتمام، من دون أن يضع حواجز بين السينما النخبوية والجماهيرية. في خضم صخب الأحداث التي تغمر العالم، لا ينسى أن يذكّرنا بالجمال، بصانع الجمال: الفن السابع. يضع إصبعه بدقة على الفرق بين ما يُفرض عليه كفنان من أوضاع، وما يسعى هو إليه.
هناك سحر غريب، طاغٍ، في تدفّق الصور التي ينسج منها سوكوروف رائعته هذه، على رغم أنه لم يصوّر منها شيئاً بيده. ومع ذلك، تنصهر هذه اللقطات الأرشيفية في وحدة سردية متماسكة، كما لو أن المخرج كتب لها سيناريو مفصّلاً ثم انطلق لتصويره بنفسه. هنا يتجلّى الفارق بين مخرج يملك حسّاً سينمائياً وآخر لا. الصور غير متساوية في طبيعتها أو طاقتها، لكن يد الفنان قادرة على تطويعها وتوجيهها، كما لو أنه خلقها من العدم. ومع ذلك، لا أدّعي أنني أعرف من أين يأتي سوكوروف بهذا الفن. هو وحده، على الأرجح، من يملك سرّه.
هل أراد سوكوروف أن يصنع فيلماً عن انطفاء الأيديولوجيات في العالم تاركةً الرأسمالية تسرح وتمرح، أو عن انهيار الأمل في المجتمع؟ في رؤيته للقرن العشرين، تلوح أيضاً إشارات خفية وصامتة إلى ما لا يُقال كثيراً عن زمننا الحاضر: فراغ وإفلاسٌ. كأننا نعيش في ظل العالم الذي كان، ولا نملك مشروعاً للعالم القادم.
ومع هذا، فإن في فيلمه شيئاً يخترق القلب تدريجاً. سوكوروف، في "يوميات مخرج"، يطرح نفسه كمعلم تنويري، ضمير من ضمائر القرن العشرين، شاهداً ومُفسّراً، ومعاتباً أحياناً. ومن خلاله، تتجلّى مرارة وحكمة تلك الجملة التي يقولها في أحد تعليقاته: "العالم القديم لا يتغيّر".