ملخص
بعدما استعادت بيروت شيئاً من استقرارها، متحدّيةً تبعات الحرب الأخيرة، بدأت تنفض عن كتفيها غبار الخراب، وتستعيد نبضها الثقافي والفني. المسرحيات، المعارض، المهرجانات… كلها عادت تتكاثر كزهور الربيع بعد شتاء طويل. وها نحن اليوم على موعد مع أعرق التظاهرات السينمائية في لبنان: مهرجان السينما الأوروبية.
هذا المهرجان- الحدث الذي ترعاه بعثة الاتحاد الأوروبي، انطلقت أولى دوراته في منتصف تسعينيات القرن الماضي، ولا يزال صامداً في وجه التحديات، على رغم العثرات الكثيرة التي حالت دون انعقاد بعض نسخه في الأعوام الماضية. وبين جميع التظاهرات السينمائية التي عرفتها بيروت، كان هذا المهرجان– ولا يزال– الأقرب من الجمهور والأكثر شعبيةً. فما الذي يطلبه المتفرّج المتعطش إلى سينما مغايرة أعمق من تلك التي تقدّمها الصالات التجارية، سوى فرصة الغوص لعشرة أيام متتالية في عوالم السينما الأوروبية، بما تحمله من رؤى مختلفة وحكايات نابضة؟
تُقام الدورة الحالية من مهرجان السينما الأوروبية بين 30 أبريل (نيسان) و11 مايو (أيار)، في مجمّع "متروبوليس"، الذي أعاد فتح أبوابه أخيراً بعد ست سنوات من الإقفال القسري، نتيجة الانهيار الاقتصادي والأزمات السياسية التي عصفت بالبلاد بدءاً من أواخر عام 2019. هذا المجمّع الذي وُلد وسط أزيز الطائرات خلال حرب تموز (يوليو) 2006، ظلّ مقصداً لعشّاق السينما في لبنان طيلة ثلاثة عشر عاماً، قبل أن يضطر إلى التنقّل بأنشطته بين أماكن متفرقة، أبرزها "المركز الثقافي الفرنسي". اليوم، وبعد تدشين المقر الجديد في حي مار مخايل البيروتي في أواخر العام الماضي، عادت السينما التي لا تستهويها قاعات الأفلام التجارية لتجد بيتاً دافئاً يعانقها، ولينعم الجمهور المحبّ للشاشة المستقلة والفن السابع بمكان يشبه أذواقهم.
وبعد أن احتضن المقر الجديد سلسلة نشاطات، من بينها أسبوع خاص بالفيلم البرازيلي، ها هو يستعد لاستقبال الجمهور مجدداً في هذا المهرجان الذي سيقدّم 21 فيلماً أوروبياً حديثة الإنتاج، تعود للعامين الأخيرين، إلى جانب فقرة "سينيه كونسير"، إضافة إلى فيلم كلاسيكي اختاره المهرجان ليُعاد اكتشافه من الجيل الجديد: "خامون خامون" للإسباني بيغاس لونا. ويتضمّن البرنامج عرض 12 فيلماً قصيراً من توقيع سينمائيين لبنانيين شباب، في احتفاء صريح بجيل جديد من الحالمين بالكاميرا. أما الافتتاح والختام، فالأول يتولاه "فلو" للمخرج اللاتفي غينتس زيلبالوديس الذي فاز بـ"أوسكار" أفضل فيلم تحريك طويل هذا العام، فيما الثاني سيكون مع "أبو سليم رسول الغرام" ليوسف معلوف الذي يعود إلى عام 1962 وقد تم ترميمه أخيراً.
"الغرفة المجاورة" لبدرو ألمودوفار
ثلاثة سينمائيين أوروبيين كبار ستُعرض أفلامهم في هذا الحدث. نبدأ بـ"الغرفة المجاورة" للإسباني بدرو ألمودوفار الذي فاز عنه بـ"الأسد الذهبي" في الدورة الأخيرة من مهرجان البندقية. في هذا الفيلم، قرر صاحب "كل شيء عن أمي" أن يروي حكايته بالإنجليزية، اللغة التي لا يتقنها. ألمودوفار، الذي بنى سينماه داخل حدود إسبانيا، وبين شخصيات يعرفها جيداً، يأخذنا هذه المرة إلى فضاء ثقافي واجتماعي مختلف. لكنه لا يفعل ذلك من باب التغيير الشكلي أو الرغبة في "العالمية"، بل لأن اللغة الجديدة تتيح له مدخلاً آخر إلى هواجسه القديمة وفي مقدمها الموت. الموت عند ألمودوفار سؤال دائم. هو ليس مجرد حدث درامي، بل نَفَس خفي يتسرّب إلى العلاقات، إلى الجسد، إلى الرغبة. قد لا يكون هذا الفيلم استثنائياً، لكنه لحظة دقيقة في مسيرة فنّان يواصل البحث، حتى بعد كل ما حقّقه. البحث عن لغة، عن حياة، وعن معنى للموت.
لا يحتاج ألمودوفار إلى أكثر من امرأتين كي يبني عالماً كاملاً. الأولى، تيلدا سوينتون، التي سبق أن اختبرها في فيلم قصير. والثانية، جوليان مور، التي يبدو أن حضورها هنا يثبت أنها تنتمي إلى عالمه أكثر ممّا كنّا نظن. الاثنتان تلتقيان في نقطة بسيطة لكنها ثقيلة: قرار الموت. سوينتون تؤدي دور امرأة أنهكها السرطان وما عادت تنتظر معجزة. تُقرر أن تأخذ مصيرها بيدها. تختار ألا تموت على وتيرة الألم، بل أن تغادر قبل أن يفترسها المرض. الأمر بسيط تقنياً- كبسولة واحدة تكفي. لكنه معقّد قانونياً، لأن هذا النوع من الرحيل، حتى عندما يكون بدافع الكرامة، لا يزال غير مرحّب به في أميركا. وهنا تبدأ المهمة: ترتيب الوداع.
قد تبدو الفكرة ملائمة لفيلم قصير. لكن عند ألمودوفار، تمتدّ، تتفرّع، وتغني نفسها بأصداء الماضي والحنين والرغبة في الغفران. لا دروس أخلاقية، لا خطب عن الحق في الموت، بل لحظات إنسانية صافية، تُلتقط بألوان مشبعة، ونبض موسيقي لا يُخطئ. الفيلم لا يغرق في الدراما، بل يعبر على حواف هذا النوع الذي لطالما أتقنه ألمودوفار، لكنه هذه المرة يبدو أكثر تروياً، كما لو أنه يعيد التفكير في أسلوبه.
أميركا ليست أرضه، وهذا واضح. هناك مشاهد تخونه فيها اللغة، وأخرى تُخفَّف فيها البصمة الألمودوفارية لمصلحة سرد أكثر انضباطاً، وربما أكثر تسطيحاً في بعض الأحيان. لكن سرعان ما يعود ذلك الإحساس الفريد الذي يجعل أفلامه ما هي عليه: تلك النظرة الخاصة إلى المرأة، إلى ضعفها وقوتها، إلى الطريقة التي تُحب وتخسر وتحاول أن تترك أثراً قبل أن تغيب.
"بارتينوبيه" لباولو سورنتينو
بما ان المهرجان يحاول اقتناص أرفع الأفلام الأوروبية، فالبوصلة تشير في طبيعة الحال إلى مهرجان كانّ، حيث عُرض آخر أفلام الإيطالي الكبير باولو سورنتينو، "بارتينوبيه"، الذي يحمل في تفاصيله صدى الهوية الإيطالية العميقة التي تشكّل جزءاً من تكوين سورنتيتو الجمالي. ما نراه هنا ليس مجرد تكريم للموروث السينمائي، بل تحول من تأثيرات فيلليني الواضحة نحو عالم أنتونيوني الأكثر هدوءاً وتأملاً. وبين هذا الانتقال، ثمة نوع من الصفاء والانعتاق، بخاصة وأن البحر حاضر كخلفية دائمة، يمنح الفيلم طابعاً مائياً ومفتوحاً، على رغم ما فيه من شجن.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
المشهد الافتتاحي لامرأة تلد في مياه نابولي وتحت شمسها اللاهبة، يعلن بداية حكاية بارتينوبيه، الاسم المأخوذ من الأسطورة، والذي سيلازم البطلة في كل مراحلها. نتابع تطورها من الطفولة إلى الشباب، في رحلة تتخذ طابعاً أقرب إلى طقس أو احتفاء وجودي. الفيلم لا يكتفي بأن يحمل اسمها، فيضعها أيضاً في قلب كل مشهد، ضمن أكثر من ساعتين من البوح البصري، حيث تتنقل كاميرا سورنتينو بحرية شاعرية بين المشاهد، في حوار دائم مع الجمال، الجمال الإيطالي تحديداً- في الوجوه، في المعمار، في الحياة اليومية. تتنقل الحكاية بين فترات زمنية مختلفة، من خمسينيات القرن الماضي إلى صيف حديث حين نرى فوز إيطاليا في إحدى مباريات كرة القدم.
بارتينوبيه، الابنة المدللة لعائلة نابوليّة تنضح بالثراء والبرستيج، ليست مجرد شخصية رئيسية في الفيلم. إنها الكيان الذي يدور عليه كل شيء. فتاة تعبر الأزمنة وكأنها حلم نابولي الأبدي، أو بالأحرى، كأنها نابولي نفسها وقد تجسّدت في امرأة.
"أوراق ميتة" لآكي كوريسماكي
مخرج أوروبي ثالث من الطراز الرفيع سيتاح للجمهور معاينة أحدث أفلامه: الفنلندي آكي كوريسماكي وعمله البديع "أوراق ميتة" الفائز بـ"جائزة لجنة التحكيم" في مهرجان كانّ 2023. هذا الذي لطالما كان مهتماً بأولئك المهمشين، يموضع كاميراه مجدداً في فنلندا- تلك الدولة التي تتصدّر مؤشرات السعادة والرفاهية- معتمداً الإضاءة على من لم تصبهم عدوى هذا "الرضا الجماعي". البطلان رجل وامرأة بسيطان، لا يملكان وجوهاً سينمائية بالمعنى التقليدي، لكن المخرج، بعينه التي تلتقط ما لا يراه كثر منا، يمنحهما شرعية الحضور، بل ويجعلنا نراهم نجوماً. هي عاملة سوبرماركت وهو ميكانيكي. كلاهما يُطرد من عمله، لأسباب قد تبدو سخيفة: هي لأنها أكلت من القمامة، هو لأنه احتسى الخمر أثناء العمل. لكن القدر يقودهما إلى اللقاء في حانة باهتة، وهناك، بلا ضجيج، يبدأ كوريسماكي بنسج العلاقة بينهما، كما لو كان يرمم وحدتين متآكلتين. في خلفية هلسينكي الباهتة، التي يصورها المخرج كمدينة فقدت بهجتها، تُولد قصة حب صغيرة، هامشية، أكثر صدقاً من قصص كثيرة تمرّ أمامنا كل يوم.
في "أوراق ميتة"، يتسلل الملل كظلّ دائم، يتقاطع مع هاجس البحث عن السعادة، ذلك الشعور الذي يبدو كأنه غائب بطبيعته عن عالم كوريسماكي، لكنه دائم الحضور. الفيلم يأخذ من تكرار اليوميات مادة لبناء عالم متماسك، يُجبرك على القبول بواقعيته مهما بدت قاسية أو باردة. المذياع في مطبخها لا يتوقّف عن بثّ أخبار الحرب الروسية، كأنه يذكّرنا طوال الوقت أن السكينة لا تدوم، وأن الحياة- مهما بدت معزولة- لا تنجو من فوضى العالم الخارجي وعبثيته.
فنلندا، كما يرسمها كوريسماكي، تبدو كوكباً آخر: داكنة، صامتة وغامضة. تشبه شخصياته التي تتحرك ببطء، تتكلّم قليلاً، وتبدو كما لو أنها لا تفهم نفسها قبل أن تطلب منا أن نفهمها. لكن هذا جزء من لعبة كوريسماكي، لعبة الغموض الساحر، التي تدفعك لتبحث عن المعنى في التفاصيل الصغيرة.