ملخص
على مدار الوقت كان غيث، وهو صغير مريم الوحيد في ذاكرتها، عندما اشتد القتال العسكري، سافر طفلها إلى والده. كان فراقه صعباً جداً عليها، وعندما اقترب أجلها وشعرت بذلك، كانت تراسله طيلة الوقت وتخبره بأنها تشتاق إليه، لكنها تريده قوياً من بعدها.
قبل خمسة أيام من رحيل مصورة "اندبندنت عربية" في غزة مريم أبو دقة، إثر غارة إسرائيلية استهدفت مجمع ناصر الطبي جنوب قطاع غزة، قامت بجولة إنسانية على عائلتها ورفاقها وزملائها والأطفال الأيتام، زارتهم وودعتهم وكأنها تعرف موعد سقوطها ضحية للقتال الدائر في غزة.
بمجرد أن تنهي مريم عملها في التقاط الصور ومقاطع الفيديو لأحداث غزة وقصصها الإنسانية وترسلها لـ"اندبندنت عربية"، كانت تنطلق في جولاتها الإنسانية، وأول ما بدأت به كان زيارة مخيم يعيش فيه الأطفال الأيتام.
طحين ودفتر وقلم للأيتام
حملت مريم معها هدايا بسيطة للأيتام، وعندما وصلت إلى المأوى جلست على ركبتيها وأخذت تحضن الأطفال الذين فقدوا أهاليهم في حرب القطاع، تلمس شعرهم وتقبلهم، تحضنهم وتتحدث معهم عن المستقبل الذي ينتظرهم بعد انتهاء الحرب.
رافق زميلتنا الراحلة شقيقها صدقي أبو دقة، يقول "اشترت بمبلغ مالي بعض الهدايا البسيطة، مثل ألعاب الأطفال والطحين والدفاتر والأقلام، وعندما زارت مخيم الأيتام أخذت توزع تلك الأشياء البسيطة على الصغار".
وزعت مريم لعبة لكل يتيم ومعها دفتر وقلم، ويضيف صدقي "كان الجوع يقتل الأطفال، وسوء التغذية منتشراً في كل أنحاء القطاع، ولأن أختي الراحلة كانت حساسة جداً وتتعامل بإنسانية، اشترت الطحين ووزعته على الأيتام".
كانت تشعر بأن الأيتام مثل ابنها
يكشف صدقي في حديثه أن شقيقته مريم كانت تشعر بأن الأيتام يشبهون طفلها غيث، وكانت ترفض أن ترى صغيرها جائعاً، لذلك اشترت الطحين وأطعمت الأيتام، إذ تعد هذه الفئة أكثر طبقات المجتمع تأثراً بالحرب بعد فقدان والديهم.
كانت مريم حساسة وتشعر بوجع الجائعين في غزة، لكن ما لاحظه صدقي أن سلوك مريم كان غريباً جداً في آخر أيام حياتها، ويبين أنه سألها "لماذا تفعلين ذلك؟"، فردت عليه "سأغادر الحياة للأبد، وأتمنى أن يتذكرني هؤلاء الصغار بدعوة بعد رحيلي".
وصيتها لابنها
على مدار الوقت كان غيث، وهو صغير مريم الوحيد في ذاكرتها، عندما اشتد القتال العسكري، سافر طفلها إلى والده الذي يعيش في الإمارات. كان فراقه صعباً جداً عليها، وعندما اقترب أجلها وشعرت بذلك، كانت تراسله طيلة الوقت وتخبره بأنها تشتاق إليه، لكنها تريده قوياً من بعدها.
في ليلة الأيام الأخيرة لمريم، كانت تجلس في زاوية المأوى الذي تعيش فيه، تفتح هاتفها المحمول وتتصفح صورها مع ابنها غيث، تبكي بحرقة وتقبّله عبر شاشة جوالها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تروي الزميلة الصحافية براء لافي، "سألتها لماذا تفعلين ذلك وتعذبين نفسك بالدموع؟"، فأجابت مريم "أفتقد ابني، وأشعر بأني لن أراه مجدداً، سأرحل يا صديقتي عن الحياة، هذا الحنين يجعلني أتمنى لو أحضن صغيري لمرة واحدة".
فتحت مريم تطبيق الملاحظات في هاتفها وكتبت وصيتها لغيث، وعنونتها "غيث قلب وروح أمك أنت"، ثم بدأت تكتب كلماتها التي أحزنت كل من قرأها "أريد منك الدعاء لي، لا تبكِ عليّ لكي أبقى سعيدة".
"أريدك أن ترفع رأسي وتصبح شاطراً ومتفوقاً، وأن تكون على قدر المسؤولية، وتصبح رجل أعمال ناجحاً يا حبيبي. أرجو منك ألا تنساني، فقد كنت أفعل كل شيء لأراك سعيداً ومرتاحاً، وأعمل كل ما بوسعي من أجلك. وعندما تكبر وتتزوج وتنجب ابنة، سمِها مريم على اسمي. أنت حبيبي وقلبي وسندي وروحي، وابني الذي أرفع رأسي فيه، وأبتهج دائماً بسمعته. أمانة يا غيث صلاتك ثم صلاتك ثم صلاتك يا ماما".
ووقعت مريم الوصية الموجهة لغيث بعبارة "أمك مريم"، وبعد أن قرأتها مرات ومرات، لم تتردد في إرسالها إلى صديقتها براء لافي، التي كانت ترافقها، وأوصتها قائلة "عندما أرحل عن الدنيا وتدفن جثتي، أرسلي هذه الوصية إلى حبيبي غيث".
زيارة لزملاء المهنة
نامت مريم، وفي الصباح استيقظت لعملها، ثم انطلقت في رحلة إنسانية خصصتها لزيارة رفاقها وزملائها الصحافيين. كانت مليئة بالمزاح والضحك، وأيضاً بالحزن والبكاء، وهذا ما لاحظه الجميع.
يقول الصحافي أسامة أبو زيد "استغربت من بكاء مريم، فقد كان لا إرادياً. سألتها عن السبب، فأجابت بأنها متعبة نفسياً، ودعت لي أن أنال ما في بالها. وعندما استفسرت عما يدور في عقلها، ردت: سأرحل يا عزيزي، سأنضم لقافلة الضحايا من الصحافيين".
صدم أسامة من حديث مريم، ونصحها بأن تنتبه وتراعي معايير السلامة، وأن تحذر كثيراً من الخطر وألا تقترب من أماكن القصف والغارات، لكنها أجابته "هل تريد أن أتوقف عن عملي؟ سأواصل حتى أرتقي".
زيارة عائلية
قبل يوم واحد من رحيل مريم، زارت عائلتها؛ أخواتها البنات وأبنائهم، وإخوانها الشباب وأسرهم. قبلتهم جميعاً وحضنتهم بعمق وقوة، وعندما استفسروا عن السبب، تجنبت الإجابة وطلبت من أختها إخلاص إعداد القهوة لها.
جلست مريم برفقة إخلاص في زاوية، وقالت لها "سأرحل عما قريب، خذي بالك من أبي". ضحكت إخلاص ولم تولي اهتماماً لحديث مريم، وظنت أنه مجرد كلمات عابرة.
في الليل، كتبت مريم وصيتها الأخيرة، وعنونتها: "عائلتي الجميلة"، وجاء فيها "بابا، أنت الجبل والسند، طول حياتي أحبك لأنك واقف معي. الله يعطيك الصحة والعافية، واعتنِ بنفسك من أجلي. لا تحزن عليّ، أنا سعيدة لأنني ارتحت من هذه الحياة وأريد أن أكون عند ماما وأخي محمد. أمانة، اعتنِ بغيث".
وواصلت الكتابة "إخوتي… حفظكم الله ورزقكم، وجعل السعادة والراحة حاضرة في حياتكم، لأنكم كنتم دائماً طيبين معي، وكنت أشعر بوجودكم عندما أحتاج إليكم. أخواتي حبيباتي، سأفتقدكن كثيراً، لقد اعتدتم على غيابي بسبب العمل. أرجو منكم الدعاء لي والاعتناء بأنفسكم، والله أحبكم، لكنني أريد أن أكون عند ماما".
وأكملت "زوجات إخوتي، أسأل الله أن يسعدكم ويريح بالكم، لأنكم من أفضل الناس. أرجو أن تكونوا حذرين وتعتنوا بأولادكم. أحبكم جداً، وأولاد إخوتي وأخواتي، أنا أحبكم واعتنوا بأنفسكم. أتمنى أن يحفظ الله جميع الأحباب ويحميكم جميعاً".
غادرت وهي تحمل كاميرتها
كانت مريم ترى الموت أمامها في كل لحظة، وفي خلوتها تركت رسائل إنسانية تكشف حبها للحياة وعائلتها. كانت تشعر بأن أجلها اقترب، فتصالحت مع نفسها ومع زملائها ورفاقها وعائلتها، ودعت الدنيا بقلب سليم، وغادرت الحياة وهي تحمل كاميرتها لتوثق الانتهاكات الإسرائيلية البشعة وترسلها ليراها العالم. نودع مريم وقلوبنا حزينة تبكي فراقها. رحلت مريم وتركتني وحيداً أواصل التغطية وأبكي على فراقها.