ملخص
لم تكن الدبلوماسية الممزوجة ببعض استعراضات القوة أسلوب ترمب الوحيد في مواجهة الأزمات التي يتصدى لها رغبة منه في إرساء السلام كما يحلو له القول. فمعركة الرسوم التجارية كانت سلاحاً موازياً استله في وجه الخصوم والحلفاء على السواء، ولهؤلاء جميعاً قدم نفسه القائد الأقوى في العالم وصاحب الكلمة الأخيرة الذي يجب الإنصات جيداً إلى ما يقول.
يدخل الرئيس الأميركي دونالد ترمب في الأزمات العالمية دفعة واحدة. يرتاح ويفخر لتحقيقه إنجازاً هنا، ويعد بتحقيق آخر "رائع" هناك، ثم عندما يواجه صعوبة ما، "يهدد" بأنه سيرتاح قليلاً ويترك للمعنيين إيجاد الحلول لمشكلاتهم بأنفسهم.
خلال الأسابيع والأشهر الأخيرة تدخل ترمب في أكثر من مشكلة. قدم نفسه صانعاً للسلام في القوقاز بين أرمينيا وأذربيجان، وأسهم في وقف الصدام بين الهند وباكستان، ثم في دفع الهند إلى تعزيز صلاتها مع الصين، وواصل مساعيه لوضع حد للحرب في أوكرانيا محملاً سلفيه باراك أوباما وجوزيف بايدن المسؤولية عن اندلاعها وتفاقمها.
في كل هذه الأزمات استعرض ترمب قدرات بلاده الاقتصادية والعسكرية. واستخدم الجانب الاقتصادي في معظم الأحيان، لكن الجانب العسكري بقي في الخلفية قبل أن يظهر في إيران.
في الشرق الأوسط مزج بين الضغط الدبلوماسي والتدخل العسكري، فتجسد ذلك في الدعم المطلق لإسرائيل في حروبها، ثم مع مشاركتها في الهجوم الجوي على إيران بهدف تدمير منشأة فوردو النووية وتغيير سلوك طهران.
لم تكُن الدبلوماسية الممزوجة ببعض استعراضات القوة أسلوب ترمب الوحيد في مواجهة الأزمات التي يتصدى لها رغبة منه في إرساء السلام كما يحلو له القول. فمعركة الرسوم التجارية كانت سلاحاً موازياً استله في وجه الخصوم والحلفاء على السواء، ولهؤلاء جميعاً قدم نفسه القائد الأقوى في العالم وصاحب الكلمة الأخيرة الذي يجب الانصات جيداً إلى ما يقول.
وكان الوعد بإنهاء حرب أوكرانيا التعهد الأبرز الذي أخذه ترمب على عاتقه منذ ما قبل انتخابه رئيساً. واعتمد في ذلك على علاقة جيدة وغامضة مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وعلى موقع أميركا الحاسم في التحالف الغربي. واحتاج إلى مواجهات مع أوروبا لفرض رؤيته ودوره. ففرض تعديلات في موازنات الدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي وتعامل بفوقية عارمة مع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، مما أثار ارتياحاً روسياً ممزوجاً بالقلق من خطوته التالية. وتم ذلك في سياق التحضير للقاء الموعود مع بوتين الذي تطلب عملاً طويلاً ومناورات واتصالات هاتفية وتلويح بمزيد من العقوبات على روسيا، إلى نشاط ملحوظ في الخاصرة الروسية اللصيقة وهذه نقطة يجب النظر إليها بعناية.
لم تكُن رعاية ترمب للمصالحة بين أرمينيا وأذربيجان، الدولتان العضوان في الاتحاد السوفياتي سابقاً إلا جزءاً من إثبات الحضور الأميركي في مدى القوقاز الروسي الحيوي. وفشلت روسيا سابقاً في منع الحرب بين يريفان وباكو على رغم وجودها العسكري في الجمهورية الأرمينية، ولم يتمكن الزعيم الروسي خريج أجهزة الاستخبارات السوفياتية من إقامة علاقات مؤثرة مع الرئيس الأذربيجاني إلهام علييف نجل حيدر علييف عضو المكتب السياسي في الحزب الشيوعي السوفياتي الحاكم لعقود، لكن ترمب جمع الدولتين وبضربة واحدة حقق سلاماً يستفيدان ويستفيد منه، وحسم موضوع ممر زنزغور على الحدود الإيرانية الذي تحتاج إليه تركيا وآسيا الوسطى بقوة وصار لأميركا "ممر ترمب" على طول الحدود الإيرانية الشمالية، ممتداً من آسيا الوسطى إلى بر الأناضول.
حصل ذلك قبل أيام قليلة من قمة ألاسكا بين الرئيسين الروسي والأميركي، وعشية القمة نفسها بادر ترمب إلى الاتصال بالزعيم الصيني شي جينبينغ، وهو حليف بوتين الأبرز ليقارن معه وضع تايوان بوضع أوكرانيا كما قال. وكانت تلك إشارة إلى روسيا عن عدم قبول أميركا المبدئي لاجتياح أوكرانيا، مثلما هي ترفض اجتياح الصين لجزيرة تايوان، لكن الأهم في تلك المحادثة هو الدعم الشخصي الذي تلقاه ترمب من نظيره الصيني، فقد وعده شي بأنه " لن يفعل شيئاً في شأن تايوان ما دام ترمب رئيساً".
حاولت موسكو تبرير وعد القائد الصيني بالقول إنه يريد ضمان أجواء دولية ومحلية هادئة لعقد المؤتمر الـ21 للحزب الشيوعي الصيني في خريف عام 2027، لكن ذلك لا يمنع القول إن ترمب كسب نقطة أخرى لمصلحته وهو يستعد لمواجهة نظيره الروسي الذي كان يفضل بالتأكيد استمرار التوتر في العلاقات الصينية- الأميركية عشية القمة بما يخدم قدرته على مزيد من المناورة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ومن الشرق الروسي إلى غربها الأقصى، حرص ترمب على مكالمة من وصفه يوماً بالديكتاتور، فالرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو قد يكون آخر الزعماء الذين هاتفهم الرئيس الأميركي وهو في طريقه إلى ألاسكا. ولم تصدر تفاصيل وافية عن الاتصال غير إشارة بيلاروسية مختصرة إلى تناوله قضيتي أوكرانيا وإيران، لكن ترمب قال إنه شكر محدثه "المحترم والرائع" على إخراجه 15 معارضاً من السجون.
إلى تلك الخطوات الثلاث على "الحدود الروسية"، أعدت واشنطن للقاء أنكوراج بدقة، وجمعت القادة الأوروبيين في قمة افتراضية عشيتها ثم استضافهم البيت الأبيض شخصياً بحضور زيلينسكي، قبل أن يخاطب ترمب بوتين ويقترح عليه لقاء زيلينسكي، ويطرح مرة أخرى مهلة أسبوعين لتلقي جواب روسيا.
المهل والمواعيد مهمة جداً في قاموس سيد البيت الأبيض، وهو إذ استنفر علاقاته وطاقاته الدولية لمخاطبة نظيره الروسي فلإبلاغ الآخرين أيضاً أن اتفاقاً مع روسيا في شأن أوكرانيا لا بد من أن ينعكس على بقاع أخرى في مقدمتها الشرق الأوسط الذي عادت له أميركا بقوة على حساب إيران، معتمدة خصوصاً على بنيامين نتنياهو الذي وصفه ترمب بـ"البطل" في تصريحاته الأخيرة.
وبمعزل عن مصير الاتصالات الأميركية- الروسية، فإن مرجل الشرق الأوسط يغلي بانتظار ما سيقرره ترمب، وهو انتظار يصعب أن يطول لأنه بات محكوماً بمحطات وتواريخ ذات معنى. فعشية اقتراب الذكرى الثانية لاندلاع معارك غزة تبدو إسرائيل عازمة على مواصلة المجزرة في القطاع بهدف تحقيق حسم ما، وهي في المناسبة تزيد من ضغوطها في الضفة الغربية لتمزيقها، ودفن "فكرة الدولة الفلسطينية" نهائياً على حد قول وزير المالية بتسلئيل سموتريتش. وليس في إسرائيل من يعارض هذا المنحى الذي يحظى برعاية أميركا التي ستكون أمام امتحانات صعبة خلال أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة نهاية الشهر المقبل عندما سيثير التحالف العربي مسألة "حل الدولتين" بعد المؤتمر الدولي الذي رعته السعودية وفرنسا بهذا الخصوص.
تصمت أميركا عن سياسات إسرائيل وتنتظر ما ستقرره إيران التي لم تصل بعد إلى قرار، وإزاء ذلك ليس من المستبعد أن تتجه الأمور مرة أخرى إلى حرب إسرائيلية- إيرانية يتحكم بنارها اقتراب الأوروبيين من الموقف الأميركي في شأن المشروع النووي الإيراني واستعدادهم لتفعيل العقوبات بمقتضى "آلية الزناد" خلال أسبوعين.
وفي السياق يندرج تطور الأوضاع في لبنان، حيث يتمسك "حزب الله" بسلاحه مدعوماً بقرار إيراني، في مواجهة قرارات حصر السلاح بيد السلطة الشرعية التي ترعاها الولايات المتحدة، كما تندرج تطورات الأوضاع في سوريا التي بدأت محادثات مع إسرائيل يمكن أن تتوج بلقاءات بارزة في نيويورك تساعد في توضيح حضور ودور الدولة الجديدة في سوريا على مستوى الإقليم.
سيكون الشهر المقبل حاسماً في رسم صورة العالم والمنطقة، وفي الـ27 من أكتوبر (تشرين الأول) المقبل سيكون نتنياهو على موعد مع الانتخابات التشريعية في إسرائيل، وفي مطلع الشهر التالي يكمل ترمب عامه الأول رئيساً منتخباً. وبالنسبة إلى الاثنين وهما يدعيان الإحساس العميق بالتاريخ ومسؤولياتهما تجاهه، تصبح الروزنامة محطات لإنجاز شيء مثير وربما "رائع" كما يحلو للرئيس الأميركي القول وتوزيع الصفات.