Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

ما أبعاد توطين فلسطينيي غزة في دولة جنوب السودان؟

لا يشكل المشروع الإسرائيلي استراتيجية متكاملة بقدر ما يمثل أداة سياسية تكتيكية لاختبار رد الفعل الدولي والإقليمي

تزامن طرح إعادة التوطين مع زيارة نائبة وزير الخارجية الإسرائيلي شارن هاسكل للمرة الأولى إلى عاصمة جنوب السودان (أ ف ب)

ملخص

إعادة التوطين وإن طرحت تحت لافتة المعالجة الإنسانية، فإنها تحمل في طياتها أبعاداً سياسية واستراتيجية تتجاوز حدود غزة، لتدخل في إطار أوسع من محاولات إعادة رسم الخرائط الديموغرافية والإقليمية.

منذ اندلاع الصراع العربي- الإسرائيلي، شكلت قضية اللاجئين الفلسطينيين معضلة بنيوية إذ ظل شبح إعادة التوطين، يلوح في الأفق كأداة لإعادة تدوير الأزمة بدلاً من معالجة جذورها. واليوم، في ظل حرب مدمرة استمرت قرابة عامين بين غزة وإسرائيل، يعاد أحياء سيناريو مشابه يقوم على نقل السكان من قطاع أنهكته المواجهات والحصار إلى دولة جنوب السودان التي تعاني بدورها من سنوات طويلة من العنف السياسي والانقسامات الإثنية.

هذه الخطة، وإن طرحت تحت لافتة المعالجة الإنسانية، فإنها تحمل في طياتها أبعاداً سياسية واستراتيجية تتجاوز حدود غزة، لتدخل في إطار أوسع من محاولات إعادة رسم الخرائط الديموغرافية والإقليمية. كما أن صناع القرار الإسرائيليين يروجون لها على أنها "هجرة طوعية"، تنبع من رؤية استراتيجية تهدف إلى إعادة تشكيل الواقع السكاني والسياسي في غزة، بما يتيح لتل أبيب توجيه جهودها العسكرية والأمنية بشكل أكثر فاعلية. وفي الوقت ذاته، تشير تصريحات المسؤولين إلى أن الخيار لا يزال خاضعاً لاعتبارات قانونية ودبلوماسية دقيقة، مع مراعاة الأطر الدولية والتفاعلات الإقليمية.

على رغم النفي الخافت بوجود أي اتفاقيات أو قرارات متخذة بهذا الخصوص، وأن الموضوع لم يدرج رسمياً على جدول الأعمال، فإن تزامن هذه المناقشات مع زيارة نائبة وزير الخارجية الإسرائيلي شارن هاسكل للمرة الأولى إلى عاصمة جنوب السودان يشير إلى أهمية الملف بالنسبة لتل أبيب، التي تواصل إجراء محادثات مماثلة مع عدة دول أفريقية، في إطار سعيها لإيجاد خيارات بديلة لإدارة أزمة غزة. وتتبعها تأكيدات أكثر خفوتاً بأن المحادثات بين جنوب السودان وإسرائيل لا تزال جارية.

المدير السابق للسياسة الخارجية في مجلس الأمن القومي الإسرائيلي، شاني مور، علق بأن قدراً معيناً من الهجرة أمر لا مفر منه، بالنظر إلى حجم الدمار المتوقع في القطاع. ويعكس تقديره أن أي خطة لإعادة التوطين، حتى وإن كانت محدودة أو موقتة، ليست مجرد خيار دبلوماسي، بل تسلط الضوء على التحديات المستعصية التي تواجه الحلول الموقتة.

إنكار رسمي

نفت حكومة جنوب السودان ما أوردته تقارير صحافية دولية بأنها أبدت استعداداً مبدئياً للتجاوب مع المقترح الإسرائيلي، باستقبال عدد من الفلسطينيين القادمين من قطاع غزة، في إطار تفاهمات تطرح مقابل استثمارات إسرائيلية محتملة في البلاد. وقد يكون الأمر أكثر من ذلك، أي بناء علاقات أوثق مع إسرائيل، وفي الوقت نفسه فتح قناة للوصول إلى الإدارة الأميركية، التي طرحت فكرة إعادة التوطين. وعلى رغم الإنكار الرسمي، تشير مؤشرات متقاطعة إلى أن المحادثات لا تزال جارية على مستوى غير معلن، مع استعداد إسرائيل لتقديم دعم مالي، وهو ما يعكس جدية التفكير في السيناريوهات العملية المقبلة.

إلى جانب ذلك، تظهر تحركات دول الجوار، وخصوصاً مصر، التي تضغط بقوة لمنع انتقال الفلسطينيين عبر حدودها، طبيعة التوازنات الدقيقة التي تحكم أي قرار بهذا الحجم. كما تكشف التجربة عن تحركات إسرائيلية مماثلة مع دول أفريقية أخرى، بما في ذلك السودان والصومال، ما يعكس سعيها لإيجاد بدائل إقليمية أخرى.

يبرز هذا الواقع أن أي موجة نقل لسكان القطاع، حتى لو كانت محدودة أو موقتة، قد تصبح حتمية في ضوء تدهور البنية التحتية في غزة. وفي هذا السياق، يمثل ملف إعادة التوطين نموذجاً معقداً للتفاعلات بين القوى الإقليمية والدولية، ويكشف الحاجة الملحة إلى استراتيجيات شاملة تجمع بين الدبلوماسية، والمساعدات الإنسانية، وإدارة الأخطار، لضمان استقرار الشرق الأوسط على المدى الطويل. ومن منظور تل أبيب، تمثل هذه المبادرة فرصة لتخفيف الضغوط الداخلية الناتجة من التدهور الإنساني في غزة، وإيجاد مخرج محتمل لإدارة أزمة طويلة الأمد، من دون الدخول في مواجهة عسكرية مباشرة.

"نكبة جديدة"

قوبل مقترح إعادة التوطين برفض حازم على المستويين الرسمي والشعبي الفلسطيني، في إطار مقاومة استراتيجية لأي محاولات تهجير قسري. وينظر إليه باعتباره تهديداً مباشراً للحقوق الأساسية للفلسطينيين، بما في ذلك حق العودة وحق إقامة دولة مستقلة، ويعد بمثابة "نكبة جديدة" تعيد سيناريوهات النزوح الجماعي التي شهدها الفلسطينيون في منتصف القرن الماضي. كما يعكس الرفض الشعبي والرسمي إدراك حساسية هذه الخطط وأبعادها القانونية والدبلوماسية، في ظل انتهاك واضح لمبادئ القانون الدولي وحقوق الإنسان.

يمكن تفسير هذا المقترح كأداة إسرائيلية لإدارة سقف المطالب الفلسطينية والإقليمية والدولية، ويتجلى ذلك في سعي إسرائيل لتخفيض حجم الضغط الدولي المباشر عليها. ومن خلال توجيه الأنظار نحو دولة بعيدة جغرافياً وأقل حضوراً في الساحة الدولية، تصبح الفكرة وسيلة لتفادي المساءلة التقليدية، وإعادة رسم معالم النقاش الدولي حول الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

على الصعيد الإنساني، قد يساور عديد من الفلسطينيين الرغبة في مغادرة غزة موقتاً هرباً من الحرب وأزمة الغذاء الحادة، إلا أن أي فكرة لتوطين دائم ترفض رفضاً قاطعاً، إذ ينظر إلى هذا الخيار كتهديد باقتلاعهم، وعدم السماح لهم بالعودة، وأن يستغل الرحيل الجماعي لضم الأراضي وإعادة بناء مستوطنات جديدة، وفق أجندة يمينية متطرفة داخل الحكومة الإسرائيلية.

وفي السياق الدولي، يتضح أن موقف القيادة الفلسطينية يتوافق مع التوجه العربي والدولي الرافض لأي تهجير جماعي، معتبرين أن نقل سكان غزة إلى أي دولة أخرى، بما في ذلك جنوب السودان، سيكون انتهاكاً صارخاً للحقوق الإنسانية.

خيار تفضيلي

لطالما كانت فكرة إعادة توطين الفلسطينيين خارج أراضيهم مطروحة ضمن دوائر النقاش الاستراتيجي الإسرائيلي، إلا أنها اصطدمت على الدوام بمعادلات إقليمية ودولية معقدة، فرضت قيوداً شديدة على الخيارات المتاحة. في هذا الإطار، برزت جنوب السودان كخيار تفضيلي لإسرائيل، في ظل تلاشي احتمالات دول عربية أو أفريقية أخرى يمكن أن تتعامل مع هذه المبادرة.

على الصعيد العربي، تبقى مصر المثال الأوضح على العقبات التاريخية والسياسية، إذ تعتبر أي محاولة لتوطين الفلسطينيين على أراضيها تهديداً مباشراً لسيادتها وأمنها القومي، وهو ما ظهر جلياً في رفضها المتكرر لمبادرات مشابهة في الماضي. أما في القارة الأفريقية، فتواجه إسرائيل تحديات مختلفة، إذ إن دولاً محورية مثل كينيا وإثيوبيا تتميز بتوترات إثنية ودينية داخلية مستمرة، تجعلها غير مستعدة لاستقبال كتلة بشرية جديدة قد تؤجج الانقسامات أو تعرض مصالحها الإقليمية للخطر. علاوة على ذلك، تمتلك هذه الدول روابط مختلفة مع العالم العربي والإسلامي، ما يجعل أي تعاون مع إسرائيل في هذا الشأن محفوفاً بالأخطار الدبلوماسية.

 

في المقابل، يمثل جنوب السودان حالة استثنائية. العلاقة التاريخية مع إسرائيل، التي دعمت "الحركة الشعبية لتحرير السودان" ضد الخرطوم منذ ستينيات القرن الماضي، شكلت أرضية لعلاقة استراتيجية خاصة، تم تعزيزها بالاعتراف المبكر بالدولة الجديدة عام 2011. وبفضل هشاشة الدولة واعتمادها على المساعدات الدولية، تظهر جوبا أكثر استعداداً لقبول مشاريع استيطانية بشرط ضمانات مالية ودعم سياسي، بخلاف الدول ذات المؤسسات الراسخة، إضافة إلى ذلك، يتيح غياب البعد العربي- الإسلامي في الهوية الوطنية لجنوب السودان تقديم أي خطوة في هذا السياق كحل إنساني محايد، ما يقلل من الانتقادات الإقليمية ويتيح للإسرائيليين إطاراً دبلوماسياً أكثر مرونة.

ومع كل هذه الاعتبارات، لكن يبقى هذا التقييم نظرياً أكثر منه قابلاً للتنفيذ، إذ إن الواقع على الأرض يعكس تعقيدات جذرية تجعل أي مشروع توطين محفوفاً بالأخطار. تضم جنوب السودان أكثر من 60 مجموعة إثنية رئيسة، أبرزها الدينكا والنوير، وقد خلفت الصراعات بين هذه المجموعات، بما في ذلك الحرب الأهلية 2013–2018، نزوح ملايين داخلياً وخارجياً، ومقتل مئات الآلاف. وعليه فإن أي محاولة لإدخال جماعات فلسطينية كبيرة قد تفاقم الاحتكاكات الاجتماعية، وتضع ضغوطاً إضافية على موارد محدودة بالفعل، وتزيد من احتمالية اندلاع نزاعات جديدة.

سيناريوهات محتملة

لا يشكل المشروع الإسرائيلي بإعادة توطين سكان غزة في دولة جنوب السودان استراتيجية متكاملة، بقدر ما يمثل أداة سياسية تكتيكية لاختبار رد الفعل الدولي والإقليمي، ويمكن تصور أربعة سيناريوهات. السيناريو الأول، رفض شامل من دولة جنوب السودان، ما يؤدي إلى فشل المبادرة عملياً، مع تبني إسرائيل للمشروع كأداة ضغط رمزية لتخفيف الانتقادات الدولية. والثاني، قبول محدود للمبادرة وبصورة موقتة، تشمل إنشاء مخيمات صغيرة تحت إشراف دولي، مع ضمانات مالية وسياسية، ومراقبة شديدة للتأثير في الاستقرار المحلي، هذا السيناريو يبدو الأكثر احتمالاً، نظراً إلى المرونة النظرية لجوبا مقابل الحاجة إلى التمويل الدولي المستمر.

والسيناريو الثالث، توسع المبادرة لتشمل دولاً أفريقية أخرى ضعيفة، ما يحول المشروع إلى نموذج لإعادة توطين تجريبي، مستغلاً الدعم الدولي، لكنه محفوف بأخطار الصدامات الإثنية والاجتماعية.

أما السيناريو الرابع، استخدام المشروع كأداة دبلوماسية للتفاوض مع الأطراف العربية والدولية، حيث يعرض على الدول المانحة تقديم الدعم مقابل ممارسة بعض الضغوط على اليمين الإسرائيلي للتوصل إلى تسوية سياسية مع الفلسطينيين، من دون تنفيذ واسع النطاق على الأرض.

يبدو أن السيناريو الثاني والثالث هما الأقرب للتحقق، نظراً إلى توازن إسرائيل بين الطموحات الاستراتيجية والقيود الواقعية، بينما يظل السيناريو الأول احتياطياً في حال التصعيد الشعبي أو الدولي، ويقدم السيناريو الرابع إطاراً تكتيكياً لإسرائيل لممارسة النفوذ الإقليمي والدولي من دون الانخراط المباشر في أزمة داخلية بالدولة المستضيفة.

اقرأ المزيد

المزيد من تحلیل