Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

إسرائيل الكبرى من وهم الخرائط إلى واقع النفوذ

الصراع يتحول من معركة جغرافية لمعركة تغلغل وتأثير يصعب عزله أو محاصرته

الخيار المفضل لإسرائيل هو إدارة النفوذ والتحكم بالمجال الحيوي من دون تحمل عبء الضم أو الاحتلال (غيتي)

ملخص

 إن أخطر ما في فزاعة إسرائيل الكبرى ليس احتمال أن تتحقق جغرافياً، بل أن تستخدم كذريعة لتبرير عجزنا نحن العرب عن إنتاج مشروع مضاد واقعي وفاعل، فالصراع اليوم لم يعد على الخرائط وحدود الدول بل على النفوذ وشبكات التأثير، وإسرائيل اليوم ليست مشروع توسع أرضي بقدر ما هي مشروع نفوذ إقليمي ودولي يتغذى على لحظات الضعف والتشرذم العربي.

بالأمس قال رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إنه في "مهمة تاريخية وروحية" مرتبطة برؤية "إسرائيل الكبرى"، حلم يُسلّم من جيل إلى جيل، على حد وصفه، وهذا امتداد لرؤية رافقت المشروع الصهيوني منذ أواخر القرن الـ 19 حين ولدت الحركة الصهيونية، حيث ظلت فكرة "إسرائيل الكبرى" حاضرة في بعض أدبياتها وشعاراتها، تارة في صيغة دينية توراتية تستند إلى نصوص وأساطير تاريخية، وتارة أخرى في صيغة سياسية دعائية تستهدف الحشد والتعبئة، وهي الفكرة ذاتها التي يختصرها خصومها بعبارة "من النيل إلى الفرات" لتتحول مع الوقت إلى مادة مثيرة للجدل، تستدعى في الخطاب الإسرائيلي أحياناً وفي الحملات المضادة من قبل خصوم إسرائيل في المنطقة أحياناً أخرى.

والسؤال اليوم لم يعد عن وجود هذه الفكرة في الكتب أو الوثائق القديمة، بل عن إمكان تحققها على الأرض، فهل هي مشروع فعلي تسعى إليه إسرائيل، أم مجرد فزاعة دعائية تستخدم لتبرير سياسات كل طرف تجاه الآخر؟

بعد حرب عام 1967 سيطرت إسرائيل على الضفة الغربية وقطاع غزة وسيناء والجولان، وكان بوسعها، وهي المنتصرة حينها، أن تضم هذه الأراضي وتعلن مشروعها نحو "إسرائيل الكبرى" لكنها لم تفعل، والسبب أن ضم الضفة وغزة يعني أن الفلسطينيين سيشكلون قرابة نصف السكان، وهو ما يتعارض مع جوهر هويتها القائمة على يهودية الدولة، إضافة إلى أن الضم الكامل يضع على كاهلها أعباء سياسية واقتصادية وإدارية وأمنية ضخمة، لكنها اختارت بقاء تلك الأراضي تحت إدارة عسكرية أو مدنية موقتة تستخدم كورقة تفاوضية أو كمنطقة أمنية عازلة، لا كجزء دائم من جغرافيا الدولة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ومنذ ذلك الحين بدا أن الخيار المفضل لإسرائيل هو إدارة النفوذ والتحكم بالمجال الحيوي من دون تحمل عبء الضم أو الاحتلال، وبالتالي فإن "إسرائيل الكبرى" بالمعنى الجغرافي التقليدي لم تكن هدفاً حقيقياً لكن "إسرائيل الكبرى" بالمعنى الوظيفي قائمة بالفعل اليوم، فالدولة الصغيرة جغرافياً والتي لا تتجاوز مساحتها 22 ألف كيلومتر مربع، تدير شبكة نفوذ تتخطى حدودها بكثير وتمتد إلى البحر الأحمر وشرق المتوسط والخليج وأفريقيا، وهي تؤثر في مسارات السياسة والأمن والاقتصاد في دول المنطقة قاطبة، وتعرف كيف تُحيد خصومها وتدير العلاقات معهم عبر اتفاقات سلام أو صفقات سلاح وغاز، أو من خلال مشاريع اقتصادية مشتركة، كما أنها في الوقت نفسه تبسط نفوذها من خلال الضربات المباشرة وإشعال الفوضى واستغلال الانقسامات ونسج التحالفات، لتكون حاضرة في كل ملف إستراتيجي في المنطقة، حتى لم يعد التوسع الجغرافي هو الغاية الأولى بل صار النفوذ هو الأهم.

"إسرائيل الكبرى" قائمة اليوم وتمارس نفوذها في كامل المنطقة من دون استثناء ومن دون أي ردع يذكر، ومواجهتها تبدو أكثر تعقيداً من مواجهة احتلال تقليدي لأن الصراع يتحول من معركة جغرافية إلى معركة تغلغل وتأثير يصعب عزله أو محاصرته، وهي متفوقة في امتلاك منظومات ردع واعتراض وإنذار باكر قلصت فاعلية التهديدات الخارجية، ومكنتها من إدارة الأخطار بضربات دقيقة انتقائية كما حدث خلال أحداث السويداء الأخيرة، إذ لم تتحرك إسرائيل هناك بدافع نصرة الأقلية الدرزية بل لتوجيه رسائل استباقية إلى الدولة السورية الجديدة لفرض نفوذها، وقبل ذلك كان نجاحها في تحييد إيران وأدواتها في المنطقة مما منحها هامشاً أوسع للتحرك، ورسخ تفوقها الأمني والاستخباراتي، لتثبت أن مشروع النفوذ القائم على إضعاف الخصوم وتفكيك تحالفاتهم لا يقل أثراً عن أي توسع جغرافي، بل إنه الأجدى في ترسيخ وجودها في المنطقة من الاحتلال المباشر.

إن أخطر ما في فزاعة "إسرائيل الكبرى" ليس احتمال أن تتحقق جغرافياً بل أن تستخدم كذريعة لتبرير عجزنا نحن العرب عن إنتاج مشروع مضاد واقعي وفاعل، فالصراع اليوم لم يعد على الخرائط وحدود الدول بل على النفوذ وشبكات التأثير، وإسرائيل اليوم ليست مشروع توسع أرضي بقدر ما هي مشروع نفوذ إقليمي ودولي يتغذى على لحظات الضعف والتشرذم العربي لينصّب نفسه شرطياً للمنطقة، يعاقب من يشاء ويصافح من يشاء، ومواجهة هذا المشروع لا تكون بالاكتفاء بالتحذير أو استدعاء خرائط الماضي، بل ببناء توافق عربي قادر على استخدام قواعد اللعبة نفسها، وتوظيف عناصر القوة المتاحة لإعادة صياغة موازين القوى لمصلحة مشروع موحد، واقعي في أهدافه ومتكامل في أدواته.

اقرأ المزيد

المزيد من آراء