ملخص
اللافت للنظر أن الشاب الدمشقي تمكن من تحويل تلك الندبة في جسده إلى حال فنية مختلفة عبر صناعة (تاتو) على شكل مطرقة تخترق ندبته وتتكسر معها، "أردت أن أصنع شيئاً بصرياً مختلفاً لدى مشاهدة ذلك الجرح، زوجتي وحدها من كان يعرف الجرح، وقد اعتادت عليه مع مرور الوقت، لكن استوقفني أن كل من يشاهده أرى في عينيه تعبير الصدمة، وهكذا تحول هذا المكان القبيح من جسدي إلى لوحة فنية تحكي قصتي"، يقول ماجد.
مع أن النسيان "نعمة" كما يردد البشر في محاولة لتجاوز صعاب ومآسي الحياة، تأبى ذاكرة السوريين في العقد الأخير من تاريخ بلادهم أن تفارقها ذكريات أليمة، ولا يقبل النسيان أن يحط رحاله في بلد تلظى بحرب قاسية وحصار ألحق به ندوباً وجراحاً غائرة وحده الوقت كفيل بمحوها كما يظن أهل البلد.
وإذا تمكن النسيان من أفئدة الناس فكيف للجرحى أو المصابين من شظايا الحرب أن ينسوا أو يتناسوا ما فوق أجسادهم من آثار دامية كلما نظروا إليها، "هناك من كان ضحية للصراع المسلح، بل إن المعارك الدامية نهشت لحمه، وتركت في جسده أثراً لا يمحى"، هكذا يصف ماجد البستاني (34 سنة) من حي الشاغور الدمشقي، الحال.
من يعرف الجرح
يفتح ماجد أزرار قميصه ويكشف عن جرح في كتفه تسببت به إحدى الشظايا أثناء تبادل إطلاق نار وسقوط قذائف في مناطق الصراع بين جيش النظام السابق وقوات المعارضة التي تمكنت أخيراً من الوصول إلى الحكم وإسقاط بشار الأسد قبل ثمانية أشهر.
اللافت للنظر أن الشاب الدمشقي تمكن من تحويل تلك الندبة في جسده إلى حال فنية مختلفة عبر صناعة (تاتو) على شكل مطرقة تخترق ندبته وتتكسر معها، "أردت أن أصنع شيئاً بصرياً مختلفاً لدى مشاهدة ذلك الجرح، زوجتي وحدها من كان يعرف الجرح، وقد اعتادت عليه مع مرور الوقت، لكن استوقفني أن كل من يشاهده أرى في عينيه تعبير الصدمة، وهكذا تحول هذا المكان القبيح من جسدي إلى لوحة فنية تحكي قصتي"، يقول ماجد.
ويتابع الشاب بتفاؤل "لقد اخترت وشم المطرقة بهذا الشكل في رسالة داخلية أردت بها قهر الوجع شكلاً ومضموناً، لدي الرغبة بتحطيم تلك الذكرى إلى غير رجعة، وحقيقة أنني نجحت بهذا، واليوم أنا متصالح مع الجرح في جسدي".
البارودة والوردة
في طريق يعبق برائحة الماضي العتيق في حي باب توما، أحد أشهر أحياء دمشق القديمة يجذبك صالون صغير يصنع الـ"تاتو" توزعت على جدرانه صور ورسوم متناقضة لشخصيات تاريخية جادة وصارمة، أو لوجوه بريئة ونساء، بينما تبرز صورة لفتاة تجلس وقد غطى جسدها كثير من الوشوم، وفي زاوية المكان ينشغل كريم، صاحب المكان، بصناعة "تاتو" لشاب في مقتبل العمر كتب على ذراعه "يا أمي".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
اعتاد كريم الهدوء أثناء وضع أي وشم لزبائنه من سيدات وفتيات أو شبان ورجال من مختلف الأعمار، فالمزاج الجيد شرط أساسي حين يرسم للزبائن، وعلى النقيض من ذلك يرسم بنفسه الوشوم على جسده حين يكون في حال عصبية أو يشعر بتوتر شديد، "لا بد أن أكون متوتراً حتى أوشم على جسدي على خلاف الوشم للزبائن".
على ذراع كريم لوحات عدة رسمها بيده، منها صورة لشقيقه، وصورة أخرى لـ"زيوس" كبير آلهة الإغريق، "الوشم فن قبل أن يكون مهنة"، يحكي كريم كفا المنحدر من مدينة السلمية في ريف حماة بوسط سوريا عن مهنته بكثير من الشغف والامتنان، واصفاً إياها بالممتعة، قائلاً "هي بالنهاية زينة بالنسبة إلى النساء لتزيين الحواجب وتوريد الشفاه، وكذلك تخفي الجروح والندوب، تبقى مهنة حلوة، وأمارسها عن قناعة بعيداً عما يدور من جدل الحرام والحلال".
يكشف كريم أن أكثر الناس يأتون بعد تعرضهم لحوادث أو إجراء عمليات بعد ما تعرضوا لها أثناء الحرب، أما أغرب وشم بقي في ذاكرته وترك تأثيراً بداخله فكان لوحة تحكي عن "يدين تخرجان من جرح على كل الظهر، واليدان بعكس بعضهما بعضاً".
يجتهد صاحب صالون الوشوم في عمله، ويؤكد على استخدام كل عوامل السلامة من تعقيم للأدوات حفاظاً على صحة الزبائن، متابعاً بينما يرسم وشم بندقية على جسد أحد الشبان بحسب طلبه، "كأن الحرب وأدواتها ما زالت ماثلة على أجساد السوريين، هناك من يتوق ليتخلص من أثرها، ومن يصمم على تذكرها بالوشم".
وشم يخرج القهر
تروي سيدة من أهالي مدينة دمشق أنها تفضل رسم لوحات غريبة، ففي وقت يرى كثيرون أن البومة والغراب يجلبان النحس وغير مستحبين، صنعت هي العكس، تقول "البومة أؤمن بها وأحبها، وبعد وشمها تغيرت حياتي، الوشم يخرج القهر من القلب، هذا أول وشم منذ سبع سنوات، ولذا اخترت البومة والقطة أحب الحيوانات إليّ".
في غضون ذلك، ظهر أخيراً ما يسمى بـ "الوشم الطبي" كعلاج مرمم للجلد، ولكن بطريقة مختلفة عبر الرسم أو تغيير لون الجلد بتقنية معينة، وأظهرت دراسة علمية أن المرضى الذين يعانون ندوباً جراء مرضهم أو تعرضهم لجراحة قد يستفيدون من الوشم الطبي، حيث يمكن أن يستعيد المريض مظهر الجلد الطبيعي.
وأجرى باحثون في الولايات المتحدة أبحاثهم على 56 مريضاً خضعوا للوشم الطبي على الرأس والرقبة، وأعربوا عن رضاهم الكامل عن النتائج، وبات هذا الإجراء بعد الدراسة التي تعود لعام 2016 الأكثر شيوعاً في أميركا.