Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

القطاع الزراعي يعيش فصولا قاتمة في سودان الحرب

المزارعون محاصرون بتحديات الأمن والتمويل والتسويق والريفيات يتحملن عاتق الإنتاج وحدهن

تراجعت القدرة الإنتاجية على نحو واسع وتعرضت البنية التحتية الزراعية لخسائر جسيمة (مواقع التواصل)

ملخص

التعافي الحقيقي للزراعة في السودان مرتبط بتحسين الأمن وترسيخ المؤسسات وتوفير تمويل مستدام ويتطلب خلق فرص اقتصادية بديلة داخل المجتمع الريفي وربط المنتجين بالأسواق الإقليمية والدولية لضمان أن الزراعة تصبح محرك نمو اقتصادي مستداماً وليس مجرد نشاط للتغلب على أزمات موقتة.

يمر القطاع الزراعي في السودان بواحد من أكثر فصوله قتامة، إذ تشكَّل واقعه الراهن تحت ضغط حرب ممتدة لأكثر من عامين أعادت رسم الخريطة الاقتصادية والاجتماعية للريف، ودفعت بالزراعة من موقعها التاريخي كعمود فقري للاقتصاد الوطني إلى دائرة الهشاشة والإنهاك، فقد تراجعت القدرة الإنتاجية على نحو واسع، وتعرضت البنية التحتية الزراعية لخسائر جسيمة شملت أنظمة الري والمخازن والآليات، نتيجة القتال المباشر وحملات النهب التي طاولت مساحات زراعية حيوية في ولايات الجزيرة وسنار والنيل الأزرق والنيل الأبيض، هذا الواقع فرض قيوداً قاسية على حركة المزارعين، وأضعف قدرتهم على استغلال الأرض في مواسم يفترض أن تكون ذروة العطاء الزراعي.

ومع ذلك لم ينطفئ النشاط الزراعي بالكامل. ففي ولايات أكثر استقراراً نسبياً مثل القضارف، استمرت عمليات الزراعة على نطاق واسع، مع الإعلان عن زراعة ملايين الأفدنة بمحاصيل الذرة وغيرها خلال موسم 2025، إضافة إلى استمرار إنتاج القمح والفاصولياء في مناطق متفرقة، هذا الصمود الجزئي فتح نافذة ضيقة أمام تدخلات دولية تستهدف منع الانهيار الكامل للقطاع.

في هذا السياق ظهر مشروع "ثبات" الذي يديره البنك الدولي بوصفه إحدى أهم المبادرات المنظمة لإعادة تنشيط الإنتاج الزراعي، عبر دعم المدخلات، وتمكين المجتمعات الزراعية، وتحقيق حصادات فعلية في شرق السودان، وأسهمت منظمات دولية وأممية في توفير التقاوي والأسمدة لآلاف الأسر الزراعية، في محاولة للحفاظ على الحد الأدنى من الاستدامة الغذائية.

وكان برنامج الأغذية العالمي احتفل بالتعاون مع حكومة كسلا ووزارة الزراعة ببدء حصاد الذرة الرفيعة في كسلا، ضمن مشروع "ثبات" الذي يديره البنك الدولي ويموّله صندوق ستارز، ويوفر المشروع بذوراً وأسمدة لدعم آلاف المزارعين في كسلا ونهر النيل والشمالية، لتعزيز إنتاج محاصيل أساسية كالذرة والقمح وربط التعافي الزراعي بالصمود المجتمعي، مع استمرار موسم الشتاء المتوقع حصاده في مارس (آذار) وأبريل (نيسان).

غير أن السؤال الجوهري يبقى مطروحاً، هل تمثل هذه المبادرات بداية مسار إنقاذ حقيقي للقطاع الزراعي، أم أنها مجرد تدخلات محدودة في بحر من الانهيار؟ الإجابة ستظل مرهونة بقدرة المنظمات الدولية على توسيع نطاق تدخلها، وبمدى تحسّن البيئة الأمنية والسياسية التي تشكل الشرط الأول لأي تعافٍ زراعي مستدام في السودان.

انسحاب الدولة

تتخذ معاناة القطاع الزراعي في السودان طابعاً عاماً وشاملاً يتجاوز حدود الخسائر الفنية في الإنتاج ليعكس اختلالاً بنيوياً في منظومة الاقتصاد الريفي، حيث تفاعلت الحرب مع ضعف سلاسل الإمداد، وانسحاب الدولة من أدوارها التنظيمية، وتآكل شبكات الحماية الاجتماعية، وفي صميم هذه الأزمة تقف النساء والمزارعون الصغار، الذين يشكلون العمود الفقري للإنتاج الزراعي التقليدي، لكنهم في الوقت ذاته الأكثر تعرضاً للصدمات الناتجة من العنف وعدم الاستقرار.

تشير معطيات منظمات دولية عاملة في المجال الإنساني والتنموي إلى أن غالبية الأسر الزراعية شهدت انخفاضاً حاداً في حجم إنتاجها خلال الموسمين الأخيرين، نتيجة صعوبة الوصول إلى الأراضي، وغياب المدخلات، وانقطاع الطرق المؤدية إلى الأسواق، والنساء الريفيات اللاتي يتحمّلن أعباءً مزدوجة في الإنتاج الزراعي وإعالة الأسر وجدن أنفسهن في مواجهة مباشرة مع انهيار سلاسل التوريد وارتفاع كلفة النقل، مما حد من قدرتهن على تسويق المحاصيل أو حتى تأمين الغذاء الأساس لأسرهن.

في مناطق النزاع النشط، مثل الفاشر وأجزاء واسعة من دارفور وكردفان تتخذ الأزمة بعداً أكثر خطورة، فالتراجع الحاد في النشاط الزراعي، مقروناً بإغلاق الطرق وتقطع مسارات التجارة، أسهم في تفاقم أزمات الغذاء وسوء التغذية، وخلق بيئة اقتصادية خانقة تعتمد بصورة متزايدة على المساعدات الطارئة، هنا لا تبدو الزراعة مجرد قطاع متضرر، بل متغير وحاسم في معادلة الاستقرار المجتمعي، إذ يؤدي غيابها إلى تسريع دوامات الفقر والنزوح.

أما ولاية الجزيرة التي كانت في مقدمة المناطق الزراعية، فتقدم نموذجاً مختلفاً من المعاناة، فعلى رغم توقف القتال المباشر في الولاية، فإن النشاط الزراعي لم يستعد مستواه السابق، قنوات الري تعاني الإهمال، والمخازن تضررت أو نهبت، والثقة بين المنتجين والأسواق لم تستعد بعد، هذا التراجع يوضح أن توقف العنف وحده لا يكفي لإعادة تشغيل المنظومة الزراعية، ما لم يرفق بإصلاحات مؤسسية واستثمارات موجهة.

 

 

يقول المزارع أحمد مختار "إن التحديات الأساسية التي بدأت مع الصراع في الجزيرة، عملت على تراجع واسع للمساحات المزروعة، وخسائر كبيرة في البنية التحتية من قنوات ري ومعدات ومخازن، إلى جانب الارتفاع الحاد في كلف الإنتاج وأسعار الغذاء، ولا تزال تلك الآثار تعوق دخول المزارعين إلى أراضيهم".

وأضاف مختار "تعمقت الأزمة مع الارتفاع الحاد في أسعار مدخلات الإنتاج، من أسمدة ووقود وتقاوٍ، في ظل تدهور العملة واشتداد التضخم، مما أدى إلى تقلص المساحات المزروعة وتراجع الجدوى الاقتصادية للزراعة المطرية والمروية على حد سواء، وفي موازاة ذلك، شهدت الأسواق المحلية ارتفاعاً كبيراً في أسعار الحبوب الأساسية، مثل الذرة والدخن، وهو ارتفاع يعكس اختلالاً عميقاً في توازن العرض والطلب، ويكشف حجم التأثير الذي خلفته الحرب".

دور محوري

قال المتخصص في الشأن الاقتصادي في الجامعات السودانية عاصم حمدان "يعكس المشهد الزراعي في السودان اليوم واحدة من أكثر لحظات التحول تعقيداً في مسار الاقتصاد الريفي، حيث تتقاطع محاولات التعافي مع إرث ثقيل من الحرب التي أضعفت القاعدة الإنتاجية وبددت أصول آلاف المزارعين، لا سيما صغار المنتجين في القطاعين المطري والمروي".

ويرى حمدان "أن ما يميز المرحلة الراهنة ليس حجم الدمار فحسب، بل محدودية قدرة الدولة على الاستجابة المنفردة في ظل ضيق الموارد وتآكل المؤسسات، وهو ما يجعل الشراكات الدولية خياراً بنيوياً لا يمكن تجاوزه"، ويشير إلى أن مؤشرات مثل اكتمال حصاد السمسم ودخوله الأسواق بكميات جيدة، وبداية حصاد الذرة الرفيعة في ولايات مثل كسلا، تمثل إشارات مهمة على أن النشاط الزراعي لم ينكسر بالكامل، وأن الزراعة لا تزال تحتفظ بقدرتها الكامنة على لعب دور محوري في إعادة تشغيل الاقتصاد إذا ما أحسن توجيه الدعم.

وأضاف الأكاديمي السوداني "مشروع (ثبات) يقدم نموذجاً مختلفاً مقارنة بالمقاربات الإغاثية التقليدية، كونه يربط توفير المدخلات الزراعية المبكرة بالتدريب الفني، وبإعادة إدماج المنتجين في الأسواق، بما يعالج بعض الأسباب الهيكلية لتراجع الإنتاج خلال سنوات الحرب"، وواصل "النتائج الأولية للمشروع، مثل دعم عشرات الآلاف من المزارعين وزراعة عشرات الآلاف من الأفدنة، تكشف عن قدرة حقيقية على رفع الإنتاجية في الأجل القصير، وتنشيط الأسواق المحلية، وتحريك سلاسل القيمة لمحاصيل استراتيجية كالذرة الرفيعة والقمح والخضراوات، إضافة إلى فتح مسارات أمام المشروعات الصغيرة والمتوسطة في الريف".

لكنه حذر من المبالغة في التفاؤل، مؤكداً أن تحويل هذه النجاحات الجزئية إلى تحول طويل الأمد يظل رهيناً بتجاوز تحديات أعمق، أبرزها ضعف البنية المؤسسية على مستوى الولايات، محدودية خدمات الإرشاد الزراعي، وتذبذب أسعار المدخلات، واستمرار الأخطار الأمنية التي تعوق استقرار الإنتاج".

ويرى المتخصص في الشأن الاقتصادي أن الاستثمار في صغار المنتجين، بمن فيهم العاملون في قطاع الثروة الحيوانية، يمثل أسرع وأقل كلفة مسار لبناء الأمن الغذائي في مرحلة ما بعد الحرب، شريطة توسيع نطاق المشروعات القائمة، واستقطاب شركاء جدد وربط الزراعة باستراتيجية تنموية شاملة تعيد الاعتبار للريف بوصفه قاعدة الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي في السودان.

محرك نمو

قالت المتخصصة في التنمية الريفية آمنة الغالي "من منظور التنمية الريفية، فإن ضعف سلاسل القيمة المحلية قبل الحرب كان يثقل كاهل الاقتصاد الريفي، إذ واجه المزارعون صعوبات في الوصول إلى الأسواق، وارتفاع كلف المدخلات، وضعف خدمات الإرشاد الزراعي. ومع اندلاع النزاع، تفاقمت هذه المشكلات إلى أزمات تستلزم معالجة هيكلية لا يمكن تجاهلها. ضعف المؤسسات المحلية في الولايات، وتراجع التمويل الزراعي، وارتفاع أسعار الأسمدة والبذور والوقود، كلها عوامل عززت من هشاشة النظام الإنتاجي في الريف، مما يضعف قدرة الأسر الريفية على الصمود وإعادة الإنتاج بمجرد هدوء العنف".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وأوضحت الغالي أن "ربط الإنتاج الزراعي بالسياسات العامة للدولة وتوزيع الموارد قبل الحرب كان يشكل قوة ربط بين الحكومة والمزارعين، وهو رابط ضعف بصورة كبيرة مع انهيار مؤسسات الدولة في كثير من المناطق، وفي غياب سياسات دعم مؤسسية قوية، وجد المنتجون أنفسهم معرضين بصورة مباشرة لتقلبات السوق، والأخطار الأمنية، وانقطاع الإمدادات الأساسية. ويظهر هذا أن الحلول الأحادية مثل المساعدات الطارئة أو الدعم الموقت لا تكفي لإعادة بناء المنظومة الريفية، بل هناك حاجة إلى إعادة تصميم السياسات الزراعية الوطنية، تشمل دعم سلاسل القيمة، وتعزيز التعاونيات، وتمكين المجتمعات المحلية لتحمل الصدمات المستقبلية".

وترى الغالي أن "التعافي الحقيقي للزراعة في السودان مرتبط بتحسين الأمن وترسيخ المؤسسات وتوفير تمويل مستدام ويتطلب خلق فرص اقتصادية بديلة داخل المجتمع الريفي وربط المنتجين بالأسواق الإقليمية والدولية، لضمان أن الزراعة تصبح محرك نمو اقتصادي مستداماً وليس مجرد نشاط للتغلب على أزمات موقتة، هذا يؤكد أن دعم الزراعة في السودان لا يمكن أن يقتصر على الدعم الطارئ فحسب، بل يجب أن يتحول إلى مشروع تنموي شامل يربط بين الإنتاج، والأسواق، والخدمات الاجتماعية في الريف".

فرصة تعافٍ

قال المتخصص الزراعي قاسم مدني إن مستقبل القطاع الزراعي في السودان خلال المرحلة المقبلة سيتحدد بدرجة كبيرة وفق المسار الذي ستتخذه الأوضاع الأمنية، مشيراً إلى أن انحسار رقعة القتال أو ترسُّخ سلام نسبي قد يتيح فرصة حقيقية لإطلاق عملية تعافٍ تدريجية، وإن كانت محفوفة بالتحديات، وأوضح أن الزراعة السودانية أثبتت، تاريخياً وخلال سنوات الحرب الأخيرة، قدرة ملحوظة على الاستمرار في الحد الأدنى، غير أن تحويل هذا الاستمرار إلى نمو فعلي يتطلب استقراراً سياسياً وأمنياً، وإطاراً مؤسسياً قادراً على استيعاب الدعم الدولي وتوجيهه بفاعلية.

 

 

ويرى مدني أن "السيناريو الأكثر تفاؤلاً يتمثل في عودة النشاط الزراعي إلى مساحات واسعة من القطاعين المطري والمروي في المناطق التي تشهد هدوءاً نسبياً، بالتوازي مع تحسن تدريجي في حركة المدخلات والأسواق"، وأضاف أن "استمرار الزراعة حالياً في بعض الولايات، على رغم ارتفاع الكلف وضعف الخدمات، يؤكد وجود قاعدة إنتاجية يمكن البناء عليها إذا ما توفرت بيئة أكثر استقراراً، لا سيما في ظل استعداد المنظمات الدولية لتكثيف تدخلاتها عبر توفير البذور المحسنة، والأسمدة، والدعم الفني، بما يسهم في رفع الإنتاجية وتقليل فجوة الغذاء".

وفي هذا الإطار أوضح مدني أن "المنظمات الدولية تنتظر من حكومة السودان تعاطياً مؤسسياً إيجاباً يترجم إلى تقدير لدورها كشريك تنموي، وليس كجهة إغاثية موقتة. وبين أن هذا التقدير يسهم في تسريع الإجراءات وبناء الثقة، وهي عنصر حاسم لعمل المنظمات بفاعلية، فكلما تعززت الثقة، زادت قابلية المنظمات لتوسيع برامجها وضخ تمويلات أكبر، انطلاقاً من قناعة بأن الحكومة شريك في التخطيط والتنفيذ، مما ينعكس مباشرة على تحسين أوضاع المستفيدين في الريف".

وأضاف المتخصص الزراعي أن "من بين المتطلبات الأساسية أيضاً وجود رؤية وطنية متماسكة للقطاع الزراعي، تستطيع البرامج الدولية الاندماج ضمنها، إلى جانب تسهيل وصول الفرق الميدانية إلى المناطق والمزارعين من دون عراقيل إدارية أو سياسية". مشدداً على أهمية التنسيق الواضح بين المستويات الاتحادية والولائية لتفادي تضارب السياسات وتوفير قواعد بيانات دقيقة حول المنتجين والمساحات والحاجات، وضمان بيئة آمنة للحركة والمتابعة، مع مساهمة حكومية في الخدمات الداعمة مثل الإرشاد الزراعي والبنية التحتية الريفية، إلى جانب مكافحة الفساد ومنع تسرب المدخلات.

وأكد مدني أن "نجاح أي تدخل تنموي يظل مرهوناً بتفاعل المجتمعات المحلية"، داعياً إلى "التزام جاد بالممارسات الزراعية الموصى بها، وحماية المدخلات والتعاون الكامل مع فرق المشاريع، وتكوين آليات محلية تعزز الشفافية، مع توسيع مشاركة النساء والشباب لضمان استدامة الأثر".

اقرأ المزيد

المزيد من تقارير