Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

همنغواي المستعاد دوما لا يزال انتحاره سرا غامضا

حياته الملأى بالمغامرات تشبه رحلة صياده العجوز سنتياغو

همنغواي والبندقية التي انتحر بها (غيتي)

ملخص

لا تكف الأوساط الأدبية الأميركية عن استعادة اسم إرنست همنغواي ليس كروائي وكاتب فحسب بل كظاهرة ما زال انتحاره يمثل سراً لم يتم سبر ما يخفي في صميمه. ولعل حياة همنغواي تشبه رحلة بطله سنتياغو في رواية "العجوز والبحر": رجل يبحر وحيداً في بحر متلاطم الأمواج، مسلحاً بإصرار وعناد، حتى لو عاد من معركته بهيكل عظمي يشهد على جسارته، على رغم الخسارة البادية للعيان.

كتب همنغواي عن الحب والحرب والانتحار، كتب عن الفروسية، وصيد الأسود، ومصارعة الثيران، حمل جذوته إلى جبهات إسبانيا وضفاف باريس وسهول كوبا وأدغال أفريقيا. أحب، حارب، سافر، واجه العالم كمغامر، واستغل معاركه في كتابة أعمال توجت بالجوائز، وعلى رأسها نوبل... لكن فراغاً داخلياً ظل يتمدد، وبعد سلسلة من الانهيارات، أطلق النار على نفسه عام 1961، تاركاً وصيته لكل كاتب وربما لكل إنسان: "لا تشرح. فقط اكتب الحقيقة... بشيئيتها الباردة، وشاعريتها الكامنة."

بين الموت والإيقاع

ولد إرنست همنغواي عام 1899 في إحدى ضواحي شيكاغو لعائلة محافظة تمزج بين الفن والعلم، أب طبيب يعلمه الصيد والدقة في إصابة الهدف، وأم موسيقية فرضت عليه دروس العزف ولم تميز بين الذكر والأنثى في الطفولة، بل حرصت على خلق تناغم بصري بين طفليها فأبقت شعر إرنست مسدلاً حتى لا يميزه عن أخته شيء!

مع مرور الزمن، أقر بأن تلك الدروس أسهمت في صقل أسلوبه الأدبي، فقد علمته الموسيقى شيئاً مهماً عن الإيقاع الداخلي للنص، على رغم أن كلمة إيقاع تبدو أكثر قرباً إلى روح الموسيقى منها إلى الحكاية، لكن لا شيء في الحقيقة يخلو من الإيقاع، حتى تحركاتنا اليومية لمجرد شغل فراغ مقداره 24 ساعة، ثمة إيقاع في حديثنا اللاهث أو المتأني، صمتنا المسالم أو المتمرد، طريقتنا في التعامل مع كل الأشياء حتى أبسطها كتمشيط الشعر وتقليم الأظافر وغسل الأطباق. لكن الإيقاع عند هيمنغواي ينبثق من التناوب بين الحركة والسكون، حيث تتسارع المشاهد الحركية وتتباطأ في لحظات الحب أو التأمل، على نحو يشبه المد والجزر.

جسدت روايته "لمن تقرع الأجراس" هذا التناوب الموزون كمثال حي على تأثير النشأة، مع ذلك ظلت العلاقة بينه وبين أمه جرحاً غير قابل للالتئام، لدرجة أنه لم يحضر جنازتها مبرراً جحوده بأنها هي من دفعت والده إلى الانتحار. ويبدو أن الانتحار، الذي طبع حياته الشخصية بظل ثقيل، تسلل أيضاً إلى أعماله بوصفه هاجساً ملحاً على أبطاله، فهم غالباً ما يواجهون الموت عن وعي في مواجهة العبث أو الفقد، كما الحال مع والد نك آدمز في قصته "النهر الكبير ذو القلبين"، وروبرت جوردون في روايته "لمن تدق الأجراس؟" وحتى حين لا ينتحر أبطاله صراحة، فإنهم يعيشون حياتهم وكأنهم يتهيأون للخروج منها، مما يجعل الانتحار في أدب همنغواي حالاً ذهنية تحاصر الشخصيات وتشكل مصائرهم.

أوصيك بالدقة لا الوضوح

بدأ همنغواي مسيرته الصحافية في كنساس سيتي ستار، حيث تشرب منذ أيامه الأولى قاعدة ذهبية في الكتابة، والوضوح، والدقة، والإيجاز. هناك تعلم أن يكتب جملاً قصيرة، وفقرات مشدودة، ولغة بسيطة وقوية، وأن يتجنب السلبية قدر الإمكان.

لم يكن هذا النهج ابتكاراً خالصاً له، فقد مهد له الطريق كتاب مثل مارك توين وستيفن كرين، ثم واصل المسار لاحقاً جورج أورويل وغابرييل غارسيا ماركيز، الذين صقلت الصحافة أقلامهم قبل أن ينتقلوا إلى فضاء الرواية.

مع ذلك كان لهمنغواي فلسفته الخاصة التي صاغها في ما سماه "نظرية جبل الجليد"، على القصة أن تظهر للقارئ ما يعادل الثمن، بينما يبقى ما تحت السطح - سبعة أثمانها - مغموراً، حيث تعمل الرمزية والدلالات العميقة في قاع النص، كما تخفي المياه الجزء الأعظم من الجبل الجليدي.

يرى المفكر الأميركي هنري لويس غيتس أن هذا الأسلوب قد تبلور أساساً كرد فعل على التجربة القاسية للحرب العالمية الأولى، إذ خرج همنغواي وكثير من الحداثيين من تلك الحرب وقد فقدوا الثقة بالمؤسسات الكبرى، فجاءت كتاباتهم كمقاومة للأسلوب المتكلف لكتاب القرن الـ19.

كان همنغواي قد تطوع في الصليب الأحمر مع اندلاع الحرب العالمية الأولى، ليعمل سائق إسعاف بعدما رفض من الخدمة العسكرية بسبب ضعف بصره. وعندما أرسل إلى الجبهة الإيطالية أدرك الفرق بين روح المغامرة ومواجهة الموت الحقيقي.

في ليلة حالكة السواد، وبينما كان يوزع الشوكولاتة والسجائر على الجنود، أصيب بشظايا قذيفة هاون. وعلى رغم الألم والنزف، أصر على حمل أحد المصابين إلى بر الأمان لمسافة طويلة قبل أن يغيب عن الوعي. وكان طبيعياً أن يتلقى وسام الشجاعة من الحكومة الإيطالية، علاوة على جرح غائر في ركبته سيصاحبه طوال حياته.

مكث أرنست ستة أشهر في مستشفى الصليب الأحمر بميلانو، أحب خلالها الممرضة أغنيس فون كورووسكي، التي كانت تكبره بسبعة أعوام، وحلم بالزواج منها، لكن رسالة وصلته من روما أخبرته بأنها اختارت ضابطاً إيطالياً بدلاً منه، فكانت ضربة موجعة استثمرها في كتابة قصة ساخرة بعنوان "قصة قصيرة جداً"، تهز الثقة في نقاء الدوافع البشرية. ربما من هنا ترسخ داخله ميل لأن يسبق الهجر بالهجران. كما منح "أغنيس" حضوراً جديداً في روايته وداعاً للسلاح، التي تمزج بين تجربته في الحب وأهوال الحرب.

باريس وليمة متنقلة

بعد تعافيه، عمل إرنست مراسلاً لصحيفة "تورنتو ستار ويكلي"، ثم انتقل إلى شيكاغو ليلتقى بهادلي ريتشاردسون، المرأة ذات الشعر الأحمر والنظرة الدافئة التي ذكرته بأغنيس، ويقرر الزواج منها والسفر إلى باريس، المدينة التي ستغدو نقطة تحول في حياته. هناك انتظم في مجتمع الأدباء والفنانين المعروفين بـ"الجيل الضائع"، وتعرف إلى أدباء مثل غيرترود شتاين، كما توطدت علاقته بفورد مادوكس فورد، والتقى جيمس جويس.

بعد صدور مجموعته الأولى "ثلاث قصص وعشر قصائد"، بادر سكوت فيتزجيرالد إلى الاتصال به، لتنشأ صداقة متقلبة بينهما، تخللتها المناوشات وسوء الفهم. كان همنغواي مولعاً بخوض المعارك الأدبية، نافراً من البوهيمية والتكلف، فيما أثارت كتاباته جدلاً متواصلاً لاعتماده على شخصيات حقيقية من محيطه، لم يتردد في رسمها بلا مجاملة. وقد وثق تلك التجربة في كتابه "وليمة متنقلة"، الذي لم يصدر إلا بعد وفاته عام 1964، وافتتحه بعبارته الخالدة: "إذا كنت محظوظاً بما يكفي لأن تعيش في باريس في شبابك، فإن باريس ستبقى معك أينما ذهبت لبقية حياتك، لأن باريس وليمة متنقلة."

لم يكن همنغواي منشغلاً بالتجريب أو النظريات، بل أراد أن يقبض على الحقيقة في لحظتها، فصاغ فلسفته في الكتابة على شكل تعهد: "اكتب جملة صادقة واحدة، ثم ابدأ من هناك".

عل هذا النهج جاءت روايته الأولى، "الشمس تشرق أيضاً" (1926)، التي كتبت عنها "نيويورك تايمز": "لا يمكن لأي قدر من التحليل أن ينقل جودة الشمس تشرق أيضاً. إنها قصة آسرة بحق، تروى بلغة مقتضبة، وصلبة، ورياضية، تجعل من الإنجليزية الأدبية المعتادة شيئاً يخجل". واعتبرها الناقد جيمس ناغل "تحولاً غير طبيعة الكتابة الأميركية".

بين البطولة والانكسار

في ثلاثينيات القرن الـ20 تجدد احتكاكه بالعنف في الحرب الأهلية الإسبانية. ذهب مراسلاً صحافياً، لكنه انغمس في الصراع السياسي والثقافي، وهناك، تعرف إلى زوجته الثالثة، الصحافية مارثا غلهورن، التي نافسته على شجاعة الدخول إلى الجبهات. تمخضت تلك التجربة عن روايته "لمن تقرع الأجراس" (1940)، وفيها يتقمص شخصية أستاذ أميركي يدخل في الحرب الأهلية الإسبانية ويجد نفسه متأرجحاً بين الفعل الثوري والشك الوجودي.

ثم جاءت الحرب العالمية الثانية، فتطوع من جديد، لكن هذه المرة مراسلاً في فرنسا. ومع الحماسة التي تجري في عروقه، تجاوز دوره كصحافي، وقاد مجموعة فدائيين في معركة، ما جر عليه تحقيقاً عسكرياً.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

بعد الحرب، بدأ بريقه يخفت، مثل كثير من رفاقه. لكن في 1952 عاد بحكاية سانتياغو، الصياد العجوز، الذي لم يظفر بصيد منذ 84 يوماً، حتى اضطر الصبي الذي يساعده إلى العمل مع مركب آخر. عكست الرواية معاناة همنغواي نفسه في اصطياد الكلمة، ورغبته العميقة في أن يكون إلى جانبه ذلك الصبي الذي كانه ذات يوم. مع ذلك يصر على القتال حتى النهاية، ليظفر بسمكة مرلين ضخمة، أكبر من قاربه الشراعي. لكن النصر لا يكتمل، فدم الفريسة يستدعي قروش المحيط التي تنهش الصيد حتى لا يبقى منه سوى العظام.

حظيت الرواية بإشادة واسعة، وحصدت جائزة بوليتزر عام 1953، وكانت السبب المباشر في منحه نوبل للآداب عام 1954، بحيث جاء في حيثيات فوزه "لتمكنه في فن السرد، وأثره العميق في الأسلوب المعاصر، كما تجلى في "العجوز والبحر" تحديداً".

لم يحضر همنغواي حفلة التكريم ولكنه أرسل تلك الكلمات الدالة في خطاب القبول: "الكتابة، في حقيقتها، ممارسة للعزلة." عزلة لم تحرمه من أن يصبح، في نظر النقاد والقراء، أشهر روائي أميركي في القرن الـ20. ويرجع ذلك، كما أوضحت مجلة "إيكونوميست "في مقال نشر في ذكراه، إلى ثلاثة أسباب رئيسة: ابتكاره أسلوباً يقوم على الجمل القصيرة والواضحة مع معرفة ما يجب حذفه، مما منح نصوصه قوة وتأثيراً امتد إلى كبار الكتاب والصحافيين. ثم أبطاله الذين جسدوا معنى الشجاعة التي عرفها بأنها "النعمة تحت الضغط"، فاستلهمها رؤساء كجون إف. كينيدي، واستشهد بها باراك أوباما، بينما استخدمها دونالد ترمب للدعاية حين لقب نفسه بـ"همنغواي التغريدات". وأخيراً، حياته المليئة بالمغامرات والحروب والزواج والنجاة من الأخطار، إلى جانب هشاشته ومعاناته النفسية، جعلت سيرته أسطورة حية وثرية للكتب والأفلام. وعلى رغم ذلك، تظل الأعمال المقتبسة عن رواياته قليلة، وربما باتت بطولة شخصياته وما يلمح إليه من نزعة تمييزية أو عنصرية أموراً قديمة الطراز، مما يجعله في نظر كثر أقرب إلى لورد بايرون وأوسكار وايلد، يقرأه قلة بحماس، لكن يقرأ عنه كثر.

مع مطلع الستينيات، تعرض همنغواي لنوبة اكتئاب خانقة وأمراض متشابكة، ضغط دم مرتفع، وذاكرة تتآكل، وجسد أنهكته الحوادث التي أفلت منها في أفريقيا. وفي صباح الثاني من يوليو 1961، تناول بندقيته المفضلة ليضع حداً لحياته في منزله بآيداهو، تاركاً وراءه لغزاً عصياً على الفهم، كيف استسلم الرجل الذي علم القراء القتال حتى آخر نفس، وعلم الكتاب ألا ييأسوا مهما طال الانتظار؟ أهي لعنة موروثة، أم أن لكل محارب لحظة انكسار؟

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة