ملخص
خلف الضوء الذي يكسو ملامح المدن، في الأزقة الضيقة، هناك ظلال قاتمة ونفوس مضطربة ورعب مقيم... قرر الكاتب الكتالوني مارك باستور الكشف عنها في روايته "ظلال برشلونة"، الحائزة على جائزة "كريمنيس دي تينتا"، والصادرة أخيراً عن "دار العربي"– القاهرية بترجمة عبدالحليم جمال.
ينهض السرد في رواية "ظلال برشلونة" للكاتب الإسباني مارك باستور على أحداث حقيقية وقعت عام 1912، بطلتها إنريكيتا مارتي، المعروفة آنذاك باسم "مصاصة دماء شارع بونينت" التي استغلت القاصرات في خدمات جنسية كانت تقدمها لذوي النفوذ. وقامت أيضاً بقتل عشرات الأطفال لاستخدام دمائهم وشحومهم وأعضائهم في صناعة بعض المراهم والمركبات لعلاج أمراض مثل السل والزهري! وعلى رغم استناد الكاتب إلى حقائق وثقتها الصحف والتحقيقات، فإنه أفسح مجالاً شاسعاً للتخييل، بدا في ما نسجه من أحداث متخيلة، وفي ما اختاره لشخوصه من مصائر وخيارات، وكذا في منحه "الموت" صوت السرد، تارة عبر ضمير المتكلم، وتارة أخرى بضمير الغائب مستخدماً تقنية الراوي العليم "كدت أقبض روح مويزيس كورفو، لكنها تشبثت بالحياة. رافقته إلى المستشفى، حيث استيقظ بعد بضع ساعات واهناً ومصاباً بفقر الدم، ومتأثراً من فرط الثمالة" (صفحة 54).
الهامش غير المرئي
تنتمي الرواية إلى أدب الرعب البوليسي، وتنطلق من حدث مركزي يتمثل في اختفاء عدد من أطفال المدينة وسط اعتقاد شائع بين سكانها بوجود وحش أو مصاص دماء مسؤول عن تلك الحوادث الغامضة، غير أن انتماء أولئك الأطفال لطبقة بائسة وأمهات يعملن بالدعارة جعلهم غير مرئيين بالنسبة إلى المجتمع، ودفع الشرطة التي لم تردها أية بلاغات بالتغيب والاختفاء إلى التعامل مع الأمر بوصفه مجرد إشاعات.
وكما هي الحال في الأدب البوليسي، يبدأ السرد بجريمة قتل. تعثر الشرطة على جثة "الأعور" في أحد شوارع برشلونة، ويحاول المحققان "مويزيس كورفو" و"خوان مالسانو" حل اللغز، بالتزامن مع جهودهما لإزالة غموض قضية اختفاء الأطفال، واكتشاف الجاني الذي كان مخفياً عنهما ومعلوماً للقارئ. وهكذا اعتمد التشويق في النص على تحفيز التوتر والانفعال، نتيجة المفارقة الدرامية لأن القارئ يعرف أكثر مما يعرفه المحققان، على نحو يضعه طوال السرد في موقف التفوق المؤلم، إضافة إلى الإثارة التي تحفزها الأسئلة الضمنية حول أسباب بقاء الجاني محمياً لوقت طويل وإفلاته الدائم من العقاب. كما عزز الكاتب من التشويق عبر توالي المفاجآت، وتكشف الحقائق حول تورط القاتل في مزيد من الجرائم، وكذا حول خلفية الطبيب ونظريته حول مسؤولية العوامل البيولوجية عن نزوع أفراد بعينهم لارتكاب الجريمة.
أبعاد متشابكة
على رغم الطابع البوليسي للرواية، يتضح عبر السرد بروز أبعاد اجتماعية ونفسية وتاريخية، إذ استعاد باستور بعض الأحداث الدموية في تاريخ برشلونة مثل ما عرف بـ"الأسبوع المأسوي" الذي تحولت خلاله المدينة إلى ساحة حرب، بعد قرار الحكومة الإسبانية إرسال العمال إلى الحرب في المغرب، مما دفعهم وبدعم من الأناركيين إلى الثورة ضدها، ورفض الانصياع للمطامع الاستعمارية، ومصالح الرأسماليين، "إن أمرتكما بالتزام الصمت وملاحقة الأناركيين، فلتلتزما الصمت وتلاحقا الأناركيين. هذا ما نحن هنا لفعله، اللعنة" (صفحة 203). كما وثَّق تبعات الحرب وما ألحقته بالمجتمع من تشوهات. وتطرق إلى المشكلات الاجتماعية التي وسمت تلك الحقبة، وتمثّلت في البيروقراطية والتفاوتات الطبقية الصارخة وغياب القانون وتردي العدالة وفساد الشرطة والساسة وأصحاب السلطة والنفوذ وإلصاق وتلفيق التهم والجشع والتكسب من الموت والحروب وانتشار الأوبئة والأمراض، ولا سيما مرض السل، واتساع الفقر والبؤس وشيوع التفكير الخرافي.
إضافة إلى القضية المركزية للسرد وهي الإساءة للأطفال وتعرضهم للقتل، وكذا استغلالهم جنسياً من قبل أصحاب السلطة والمال، "أنتما تطاردان أشخاصاً يتمتعون بسلطة كافية لتخدير مدينة بأكملها.. أشخاصاً على استعداد لفعل أي شيء للاستمتاع برذائل مقيتة، وهم لديهم ثروة ومكانة وسلطة. هذا كل ما أعرفه" (ص 125). وإضافة إلى بروز البعد التاريخي والاجتماعي في النص، أولى الكاتب اهتماماً خاصاً بالأبعاد السيكولوجية كنتائج منطقية في مجتمعات تعاني هوة عميقة بين الطبقات، وتئن من آثار الحروب التي يقررها السادة ولا يخوضها سوى الفقراء والمهمشين. كما أبرز الأبعاد ذاتها كعوامل تقف وراء القسوة والوحشية والجريمة، فأضاء خلفية الشخصية المحورية "إنريكيتا" التي اتسمت بنفسية مركبة، غذاها الفقر والحرمان، مما دفعها إلى قبول استباحة جسدها مقابل المال، لتستبيح بدورها أجساد الأطفال، وتجمع بين الشراهة للمال والشراهة للقتل.
كذلك رصد باستور الأبعاد النفسية لشخصية "بوكانيغرا" فأضاء هوسه بـ"إنريكيتا" وشعوره المعقد تجاهها، ورؤيته لصورة الأمومة بها وخلطه بين تفسير الحب والخوف وإصابته بهاجس إسعادها، حتى إن كان ذلك عبر مساعدتها في القتل والاختطاف. كما تطرق إلى السمات النفسية لبعض الأثرياء الذين يمتلكون كل شيء باستثناء العواطف القوية، مما يدفعهم إلى ارتكاب الرذائل، ومن بينها الجلوس إلى موائد القمار والاستغلال الجنسي للقصّر. واستدعى بعض الظواهر النفسية التي تتصل بالأحداث من جهة، وتعبر عن دلالات رمزية للاختناق المجتمعي من جهة أخرى مثل ظاهرة رهاب الدفن حياً.
تناقضات ومفارقات
أتاح انشغال السرد بكثير من القضايا الاجتماعية والنفسية بروز صور متنوعة من التناقضات، والمفارقات والثنائيات المتقابلة، فبدت تناقضات مدينة برشلونة التي تجمع في طياتها بين شوارع مضيئة وأزقة قاتمة ويجرم قانونها المقامرة، في حين يتجاوز عدد ما بها من كازينوهات ما تمتلكه بلدان أوروبية أخرى، ويضطر فيها المحققان "كورفو" و"مالسانو" إلى الخروج عن القانون من أجل تحقيق العدالة. وحملت كل تلك التناقضات والمفارقات دلالات رمزية حول هيمنة الفساد وغياب القانون وتردي العدالة في تلك الحقبة من عمر المدينة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وعلى رغم التماثل بين "إنريكيتا" و"كورفو" في عدم قدرة كليهما على الإنجاب، فإن الأولى امتلكت نفساً مظلمة، مفعمة بالكراهية وشرهة للقتل. بينما كان المحقق يسعى إلى تحقيق العدالة والثأر للضحايا وإنقاذ الأرواح. كما بدا التقابل بين هيئة "إنريكيتا" المتسولة صباحاً، وهيئتها المتأنقة مساء، عند ارتيادها الملاهي الليلية وبيوت البرجوازيين. وعبر ما نسجه الكاتب من أحداث وما رسمه من ملامح وسمات للشخوص، بدا كثير من الثنائيات المتقابلة منها، الخير والشر والحياة والموت والخبث والبراءة والجمال والقبح والمعلن والمخفي والصدق والادعاء والفقر والثراء والسطوة والانسحاق، وبين ما يمنح الحياة وما يسلبها وبين مركز مترف وهامش غير مرئي، "في برشلونة، يمضي كل في دربه الخاص، منهم من يبحث عما يملأ به بطنه، ومنهم من يملأ جيوبه ويتباهى بذلك، ومنهم من يبيت في الحانات لعدم امتلاكه سريراً بائساً ليموت فوقه، ومنهم الأثرياء الذين يسافرون إلى سان سيباستيان، للاستمتاع بحمام علاجي على الشاطئ" (صفحة 74).
ومن رحم تلك الثنائيات، ولد الصراع الذي اندلع بين المحقق "كورفو" وزوجته "كونشيتا"، وبينه وذوي النفوذ الذين حاولوا إثناءه عن قضية اختفاء الأطفال، وبين "إنريكيتا" التي ظلت تحاول إخفاء جرائمها والمحققين اللذين استمرا في سعيهما إلى الكشف عن هويتها، وبينهما ورئيس الشرطة الذي أمرهما بالتوقف عن التحقيق، في حين لم يمتثلا لأوامره، وكذلك بين المحقق "مالسانو" و"جوان بوغالو" الزوج الأول للقاتلة، وبين أرواح هشة وموت قادر على أن يفتك بها، متى وأينما وكيفما شاء. وفضلاً عن كل ما رصده الكاتب من صراعات، وثّق تحولات المدينة في تلك الحقبة الشائكة من تاريخها،حين شاخت روحها وانسحبت الألفة والسكينة من شوارعها ليسودها التحفز، وبعده العنف الذي أفسح مجالاً للموت، كي يحصد كثيراً من الأرواح.
دلالات رمزية
اعتمد الكاتب تكنيكاً سينمائياً، مستخدماً تقنية عين الكاميرا، على نحو دعم ما اتسمت به اللغة من مشهدية، نجح المترجم في نقلها إلى اللغة العربية "تلقي إنريكيتا بالطفلة في القدر، وتخرج من المنزل الصغير بخطوات ثابتة نحو سجن موديلو. لوهلة يقف بوكانيغرا مشدوهاً أمام مشهد مانويلا وهي تخرج الطفلة محمرة اللون من المرق المغلي، ويداها تحترقان. ثم يتبع إنريكيتا. يهرع الجيران نحو الكشك. تخرج إنريكيتا بظفر إصبعها قطعة كرفس من بين أسنانها، وتسأل نفسها لو أن المرق سيحتفظ بالمذاق نفسه بعد إضافة الطفلة. ثم يسيل لعابها" (صفحة 92).
كذلك اتسعت مساحات الوصف التي نقل باستور عبرها، مشاعر الخوف والحقد والقلق والترقب والسادية والانهيار النفسي. كما نقل عبرها ملامح المدينة، وأيضاً سمات الشخوص ولا سيما "كورفو"، إذ جسّد بنيته القوية وحضوره الصارم وقدرته على السيطرة، ليحمل ما لاقاه من مصير مأسوي، على رغم هذه البنية دلالات رمزية، حول عدم فاعلية القوة أمام التواطؤ وعجز الإنسان أمام القدر. وفضلاً عن دلالاته الرمزية، ودوره في رسم ملامح الواقع وبيئة الأحداث، قام الوصف مع الحوار بدور في إبطاء السرد وإتاحة مساحة للتأمل، عززها الكاتب بما استدعاه من معارف تاريخية وطبية، ولا سيما عن الفصام والخرف المبكر وحمى مصاصي الدماء، إضافة إلى بعض المعارف النفسية مثل السادية ورهاب الدفن حياً. ولعل في النهاية التي قررها الكاتب ومصائر الشخوص التي جاء بعضها مشابهاً للوقائع الموثّقة، ولا سيما مصير "إنريكيتا مارتي"، ما يدعو إلى تأمل التاريخ وطريقته في إعادة إنتاج دوراته، عند تبيّن أن جزءاً من "إنريكيتا" هو جيفري إبستين آخر، ولكن قبل مئة عام!