ملخص
يطرح الشاعر السعودي عبدالله العقيبي في ديوان "يهجم يهجم يهجم" تجربته الخاصة في كتابة قصيدة النثر، بحيث تقوده الحرية التعبيرية إلى الاقتناص الجريء لمادة الحياة وتفجيرها من خلال اللغة والصور الشعرية، وملامسة الذاتي والجماعي والكوني برؤية متعمقة.
في ديوانه الجديد "يهجم يهجم يهجم"، الصادر في القاهرة عن الهيئة المصرية العامة للكتاب (سلسلة الإبداع العربي)، يتحلل الشاعر السعودي عبدالله العقيبي من كل ما قد يبدو عبئاً على النص المقتصد، من حشو لغوي ومجازات والتواءات وزخارف بيانية وإيقاعات موسيقية، كما يتخلى أيضاً عن العناوين الداخلية، مكتفياً بترقيم المقاطع السطرية المكثفة من واحد إلى 100، دفعاً بالحال الشعرية المتدفقة من تلقاء ذاتها إلى مزيد من السيولة والانسيابية.
يعلن الشاعر صراحة زهده في القشور التي لا طائل من معانقتها سوى حصد الوهم والسراب والتورم، وفقدان البوصلة والجوهر والحقيقة "لا شيء في الداخل/ اطرق القشرة بشجاعة، واسمع جيداً/ إنه مجرد انتفاخ". هو لا يسعى إلى الشعر من خلال القصد المسبق والاحتشاد المعرفي والثقافي، وإنما يجده لعبة طفولية أكثر ما فيها تشويقاً وإثارة أنها بلا قوانين، وأن الأخطاء في ممارستها قد تأتي بغنيمة أهم وأثمن وأعمق وأكثر تأثيراً. أية دهشة يعرفها الإنسان حين يتيقن بينه وبين نفسه أنه خطأ فادح، وأن وجوده من الأحداث الفاسدة؟! ولكن "مع هذا الحدث الفاسد، تعود نظرتي الأولى لنفسي".
تفاعلات وتحولات
ينهل العقيبي بطلاقة وبراءة وجرأة من مادة الحياة النشطة، ليتفاعل معها في كل أوجهها وخاماتها وعناصرها ومركباتها، ويفجرها من جديد من خلال ذاته ورؤيته ومعادلاته وكيميائه ومختبره الشعري الخاص. هذا المعمل يدخله الشاعر عارياً من المعدات الآلية والتجهيزات والبرمجيات، ومشحوناً بالانفعالات والهزات الداخلية التي تنتج بعفوية لغتها المتوترة وصورها السريعة المتحركة. وفي الوقت نفسه، فإنه لا يدع البساطة تقذفه إلى شاطئ الأحادية والتسطيح، فهي بساطة تشف عن وعي متعق وأنا مُمزقة متعددة وتأويلات متنوعة متشابكة، إذ تتسع العدسة الشعرية لتأملات ودوال ذات حس وجودي وفلسفي، بما يفتح الرؤية على ملامسة الشخصي والجماعي والكوني معاً، في عوالم حقيقية وافتراضية وموازية سريعة التشكل والتغير.
هذه التحولات العاصفة المباغتة هي ديدن الحياة المتقلبة المجنونة، وهي سمة الحروب الفعلية على الأرض التي يخوضها المتنازعون في كل مكان بهدف أو من دون هدف، وسمة الحروب المجازية والأسطورية في السير الشعبية والملاحم الموروثة، وسمة الحروب الخاصة في الإطار العائلي بين الرجل وامرأته والأبوين وأبنائهما، كما أنها سمة حروب الألعاب الإلكترونية التي تلهي الصغار والكبار معاً أمام شاشات الأجهزة الذكية. وهذه التحولات المباغتة أيضاً هي عنوان الديوان ونسيج نصوصه الأولى، بما تحيل إليه من هجوم عنيف مفاجئ يعقبه إعلان هدنة أو تعهد بتوقف عن القتال، ثم تنكشف الخدعة الشريرة مع ميلاد شرارة اشتباك جديد "الساعة الآن 11:51 ص/ صوت مسموع بوضوح، قال: انتهت الحرب/ كنا في صالة الانتظار/ لم نسأل أي حرب التي انتهت/ رفعنا رؤوسنا وتبادلنا الابتسامات/ ثم دسسناها في شاشات الأجهزة الذكية مرة أخرى/... / المهم أن الحرب انتهت/ وكان ذلك في تمام الساعة 11:51 ص/ وهذا الشيء المبهج/ فاحت معه لوهلة/ رائحة الأمل الساذجة".
أراجيح الوجود والبشر
وبقدر ما تلتقط حواس الشاعر التناقضات المتناثرة في المشاهد واليوميات والتفاصيل الاعتيادية والهامشية من حوله، بقدر ما يتعاطى معها بضمير المتفهم أحياناً، وبروح الاستهزاء والتهكم والسخرية في أحيان أخرى، فهذه الأراجيح الخطرة المزروعة في كل المساحات والأوقات هي طبيعة الوجود نفسه، وهي الصفة التي جبلت عليها البشرية، فلا تكاد توجد لحظة واحدة خالصة لا تتنازعها الازدواجية بين الفرح والترح، والطمأنينة والقلق، والاستقرار والشتات، والائتناس والضيعة، والنصر والهزيمة. ولا يتجاوز العابر حدوده بمحاولة إيجاد تفسير لما يجري، لأنه لا شيء هنا سوى السؤال تلو السؤال، والانصراف الذي يتبعه انصراف "انصرف العابر مرة أخرى/ إنه دائماً ينصرف/ دون الحصول على إجابة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ينطلق عبدالله العقيبي الحاصل على الدكتوراه في النقد والأدب وصاحب المجموعة الشعرية "تباً.. كخطأ مقصود في ترجمة الأفلام" في ديوانه "يهجم يهجم يهجم"، صوب مزيد من تفكيك العمارة الشعرية المتداولة في التجارب السائدة، جاعلاً من نصوصه شظايا منفلتة غير محددة الاتجاهات، بحيث "تهجم تهجم تهجم" بدورها على معطيات الكتابة وتخرج عليها، بما تحمله من تحرر تعبيري ووحدة في المعالجة ودينامية وتقشف وتقطيع ومراوغة، وتقنيات مبتكرة في الاستخدام اللغوي والسرد الوصفي والتخييلي والتصوير السينمائي. وهذه الأبجديات تنتصر للإدهاش وإنعاش الذائقة وخلخلتها، وتجعل القارئ شريكاً في مغامرة الحياة ومغامرة الكتابة معاً، وهي مغامرة تنشد المتعة المجردة كغاية أولى، ولا تدعي بلوغ نقطة مركزية في مساعيها الهشة المرهفة "تحاورنا حول الشعر/ لم نذهب إلى نقطة ثابتة/ لكن الكلام كان سلساً/ والأفكار كأنها فاكهة دانية".
تشظيات اللحظة
وبالتوازي مع غياب الحواجز والقوالب والعناوين في نصوص المجموعة الشعرية، والنأي عن تأسيس خط سردي مترابط أو منتظم، فإن الحدود تتلاشى تماماً بين الذاتي والجماعي والإنساني المشترك والعالمي والكوني، وبين الذاكرة الفردية والتاريخ العام، في منظومة صراعات وتشظيات متداخلة، تتقاطع فيها السيرة الذاتية والأحلام والكوابيس والأحداث المحلية والدولية والفانتازية والمصائر البشرية، وتتوالد المفارقات والمواقف الانشطارية بكل عنفوانها، وتتجاور الأزمنة والأمكنة منذ الأزل إلى الأبد فوق خريطة اللحظة الحاضرة "الماضي يبدو بعيداً بصورة أسرع/ ماذا وقد صنعت في هذا الماضي/ الآن، بطريقة غريبة، تتداخل الأمور/ أشك هل كان ماضياً أم شيئاً متخيلاً؟/ أعتصر الذاكرة، لكنها لا تسعفني بالصور/ لا أطلال لهذا الزمن الراكض/ أعيش في حاضر سائل تماماً".
يجمع الشاعر بين الصور الواقعية والخارجة عن المألوف والرموز الأيقونية التي تدور في فلك: الهجوم، والحرب، والحب، والصحراء، والمدن، والبحر، والغياب، والصمت، والذاكرة، والجرح، وغيرها. وهذه اللقطات والكادرات المنتقاة بتركيز تأتي عادة حسية، ملموسة، ولكنها بالضرورة ذات حمولة وجدانية ونفسية حارة، وحارقة "اليوم كتبت كلمة كانت تشعر بضيق في التنفس/ وأطعمت ابني تفاحة من شجرة الحكمة/ ووضعت كتاباً تحت قدم الكرسي القصيرة/ وصنعت قهوة ليشربها الكوب وحده/ ونزعت مسماراً من لحم الباب/ وأعطيت اسماً جميلاً لجنين سقط في الشهر الثالث/ وأخبرت أمي، عندما هاتفتها، بأنني أشعر بتحسن".