ملخص
على رغم مرور قرن على صدور "كفاحي"، يكشف وثائقي "بي بي سي" أن أفكار هتلر لا تزال تجد صدى مقلقاً في الخطاب السياسي والإعلامي المعاصر، وبخاصة في الغرب، مما يطرح تساؤلات خطرة حول قابلية المجتمعات لتكرار أخطاء الماضي
على مدى 80 عاماً، بذلت ألمانيا كل ما بوسعها لمحو آثار النازية، مؤكدة لنفسها وللعالم أن هذه الفظائع ما كان ليقترفها سواها. فكرة "الطريق الخاص" (Sonderweg) تجذرت في وعيها التاريخي. يمثل المفهوم التاريخي هذا، مساراً مستقيماً يمتد من بسمارك إلى هتلر. ونحن البريطانيين، نستسيغ هذا الطرح، فهؤلاء "الهمج الأشرار" هم دائماً الآخر، أما نحن؟ فبحسب روايتنا لأنفسنا، كنا وسنبقى في منأى عن السقوط في مثل هذا الظلام.
لكن بعدما قضيت الأشهر الماضية غارقاً، على مضض، في صفحات كتاب "كفاحي" -الذي صادف يوليو (تموز) الماضي مرور 100 عام على صدوره- أصبحت أكثر اقتناعاً بأننا نعيش في وهم مريح. فالثقة العمياء ذاتها موجودة لدى الأميركيين، بل وعند معظم الشعوب. الحقيقة أنه لا أحد محصن. كلنا عرضة للدعاية المسمومة والتطرف والكراهية، مهما كانت خلفيتنا أو هويتنا.
قبل أن أبدأ العمل على هذا الوثائقي الإذاعي لمصلحة "بي بي سي"، لم يسبق لي أن قرأت "كفاحي"، ولم يخطر ببالي يوماً أنني سأقوم بذلك. فباستثناء المؤرخين المتخصصين، لا يملك عاقل سبباً وجيهاً للخوض في هذا المستنقع. وبالنسبة لي، كانت المهمة ثقيلة على نحو خاص، إذ إن والدي اليهودي فر من تشيكوسلوفاكيا بعد اجتياح هتلر، وقُتل عدد من أقاربه في معسكرات الإبادة.
في ألمانيا، ظل هذا الكتاب لعقود من المحرمات، ليس فقط بفعل قوانين حقوق النشر التي منعت إعادة طباعته، بل بسبب العار الاجتماعي الملتصق به. لكن المفارقة أن "كفاحي" حقق انتشاراً واسعاً داخل أماكن أخرى، من الهند إلى تركيا، وما بعدها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تطلب الأمر أعصاباً من فولاذ كي أتمكن من تحمل أكثر من 700 صفحة من هذا العمل البغيض، وكنت التزم بقراءة 30 صفحة كل ليلة، وسط طوفان من التشويهات البيولوجية ونظريات "العرق" والتحذيرات من "اختلاط الدم" وتسميم "العرق الألماني النقي". الكتاب في مجمله كان متوقعاً، مزيج ركيك من سيرة نرجسية وطلب توظيف لقيادة الفاشية الناشئة في أوروبا.
لكن الاستنتاج الرئيس الذي خرجت به من بحثي هو أن كتاب هتلر البغيض كان قائماً على تجميع واقتباس (على رغم أن آلات الكتابة خلال عشرينيات القرن الماضي لم تكن قادرة على ذلك حرفياً) من أيديولوجيات عرقية ظهرت في أواخر القرن الـ19 وبدايات القرن الـ20، وأن كثيراً مما يظهر اليوم على الإنترنت خلال عشرينيات القرن الـ21 يسير على النهج نفسه. إنه جزء من سلسلة متصلة.
بمساعدة الدكتور سايمون ستريك الأكاديمي في جامعة بوتسدام، تتبعت خيطاً واضحاً يربط بين عدد من الأفكار التي وردت في "كفاحي"، وبين محتوى حديث منتشر اليوم على منصات مثل "يوتيوب"، والمدونات الصوتية الرائجة، ومنشورات مواقع التواصل، بعضها يحقق ملايين المشاهدات والتفاعلات.
ومن هذا المحتوى، يمكن بسهولة الانتقال إلى خطابات سياسيين معاصرين مثل فيكتور أوربان في المجر، وجورجيا ميلوني في إيطاليا، وبالطبع -كما توقعتم- دونالد ترمب.
خذوا مثلاً ما قاله ترمب ضمن تجمع انتخابي خلال ديسمبر (كانون الأول) 2023 "إنهم يدمرون النقاء العرقي لبلادنا، هذا ما يفعلونه. إنهم يدمرون وطننا. لم يعجبهم أنني قلت ذلك. ولم أقرأ كتاب كفاحي. يقولون ’أوه، هتلر قال هذا‘، ولكن بطريقة مختلفة تماماً". هناك عدد من الأمثلة الأخرى التي كان بإمكاني ذكرها.
والآن، قارنوا ذلك بما جاء في "كفاحي"، في الفصل الثاني من الجزء الثاني "لقد أدت عمليات تسميم الدم التي أصابت شعبنا، لا إلى تحلل دمنا فحسب، بل إلى تحلل أرواحنا أيضاً".
ومثل هذا الاقتباس ليس حالاً نادرة، بل مجرد مثال من بين وفرة مقلقة من التشابهات المعاصرة.
خذوا مثلاً تصريح فيكتور أوربان خلال يوليو 2022، إذ قال لجمهور مناصريه إنه يقبل التزاوج بين الأوروبيين، لكن بشرط ألا يكون ذلك مع القادمين من خارج القارة. وصرح قائلاً "نحن لسنا عرقاً مختلطاً... ولا نرغب أن نصبح شعوباً من أعراق مختلطة". قارنوا هذا مع جملة وردت في الفصل الـ11 من "كفاحي" بعنوان "الشعوب والعرق"، "إن اختلاط الدم والانخفاض الناتج في المستوى العرقي هو السبب الوحيد في انقراض الحضارات القديمة".
وماذا عن إيلون ماسك؟ حين كان اليد اليمنى لـترمب، أجرى مقابلة مع زعيمة حزب "البديل من أجل ألمانيا" اليميني المتطرف أليس فايدل، إذ كان النقد الوحيد الذي وجده الطرفان لهتلر هو اتهامه بأنه "شيوعي". التاريخ ليس من اختصاصهما. والآن، في ظل تنحي ماسك عن دائرة ترمب، يقوم روبوت الدردشة الذكي على منصة "إكس"، (تويتر سابقاً)، بمدح الزعيم النازي من خلال لغة تقنية، يجسد كثيراً من السموم التي تفيض بها منصته الاجتماعية.
يقول لي سايمون ستريك ونحن نتنقل بين المواقع الإلكترونية المروعة "’كفاحي‘ ليس استثنائياً... فهناك ملايين النسخ المختلفة من نفس المحتوى، ونفس الأيديولوجيا منتشرة في كل مكان".
أكثر ما أثار فضولي هو كراهية هتلر العميقة للفرنسيين، مقابل احترامه المتخفي تجاه الإنجليز، حتى وإن كان ذلك مصحوباً بشيء من الريبة والشك. حين كان يتأمل في فكرة الـ"ليبينسراوم" Lebensraum –وتعني ضرورة توسع الألمان بحثاً عن أراض جديدة في الشرق- كان يؤمن بأن هناك دولة أوروبية واحدة فقط تشاركه هذا الفكر، وأنه يمكنه التوصل معها إلى اتفاق. يكتب "في هذه السياسة، كان هناك حليف واحد فقط في أوروبا، إنجلترا".
وفي موضع آخر، يؤكد قائلاً "لا ينبغي أن يكون هناك تضحية كبيرة جداً مقابل كسب رضا إنجلترا. كان يجب علينا التخلي عن المستعمرات وقوة البحار، وإعفاء الصناعة الإنجليزية من منافستنا".
نعلم ما الذي حدث في النهاية، حالما تبوأ ونستون تشرشل سدة القيادة، لعبت بريطانيا دوراً بطولياً في مقاومة هتلر. لكن التاريخ غالباً ما يميل إلى التبسيط، ورسْم خطوط مستقيمة قد لا تكون حقيقية أو دقيقة. ولم يكن من الصعب أن تقع بريطانيا أو أية دولة أخرى في فخ تبني شيء مروع خلال ثلاثينيات القرن الماضي. وليس من الصعب أن يحدث ذلك مرة أخرى.
وثائقي الصوتي "100 عام على ’كفاحي‘" متوافر على منصة "بي بي سي ساوندس"
© The Independent