ملخص
دراسات قيمة تنطلق من السعي إلى فتح حوار بين موضوعات ورؤى ومواقف مختلفة، تهدف إلى إعادة التفكير في إنجازات عصر التنوير الفرنسي الذي كان في ذاته حركة ثورية أرادت محاربة الظلم وقلب الأصنام ومساءلة النظام القائم، لكنها أصبحت اليوم تجسد سلطة يراد نزع أو تفكيك قدسية قيمها كالنقد والعقلانية وحرية التعبير والنظرة المتفائلة إلى التقدم العلمي وادعائها الطابع الكوني. تحت إشراف فلوران أمان وجويل كاستونغي بيلانجيه وآن كلير ماربو وستيفاني روزا، صدر عن الجمعية الفرنسية لدراسات القرن الثامن عشر العدد 57 (2025) من مجلة "القرن الثامن عشر" بعنوان "هل نسقط تماثيل عصر الأنوار؟" (712 صفحة).
من هم الذين يريدون "إسقاط تماثيل الأنوار" وتفكيكها؟ وكيف يمكن إعادة التفكير في هذا التيار الفكري الذي كان، أكثر من غيره، موضوعاً لسجالات إعلامية وأكاديمية في السنوات الأخيرة؟
انطلاقاً من تحليلات معمقة للقضايا التي أثارتها أسئلة نقدية نتج منها أجوبة تأرجحت بين التفكيك وإعادة التملك لبعض أفكار الأنوار، وانطلاقاً من أن إنجازات هذا العصر، ليست أثراً مقدساً لا يمس، بل جسد حي قابل لأن يقرأ ويفهم في ضوء النقاشات المعاصر، كانت هذه الدراسات الأكاديمية التي يؤلف مجموعها متن هذا الملف.
يقرأ هذا العدد بدءاً من عنوانه الاستفزازي، غير المتردد في خوض غمار الجدل. فـالكلمة الفرنسية المعتمدة في العنوان، والتي تفيد معنى "الإسقاط" أو "التفكيك" أو "الإطاحة"، تعني بالتحديد فصل شيء مادي، وغالباً ما يكون تمثالاً، عن قاعدته من خلال فك البراغي والمسامير التي تثبته عليها.
لكن، ما الذي قد يعنيه "إسقاط" أو "تفكيك" حركة فكرية؟ وما الأنوار التي يضعها هذا الملف المتعدد الاختصاصات، والذي يخاطب الفلاسفة والمؤرخين والمفكرين السياسيين والأدباء والتربويين "موضع مساءلة"؟ وما الانتقادات القديمة التي طاولت هذه الحركة التي يعاد اليوم تفعيلها؟ وكيف يمكن ترجمة فكر الأنوار في عصرنا؟ وما الفرق الثقافي بين زمن كتابة نصوص الأنوار وزمن قراءتها؟ أو بتعبير آخر كيف يفهم خطاب القرن الـ18 في القرن الـ21، والتي تتردد مفرداته كثيراً في الفضاء العام بوصفها كفاحاً ضد الظلامية، والتي تربط في بعض القراءات الشمولية بقوة العقل وحرية التعبير والتسامح والتفاؤل والإيمان بالتقدم والعلم والإنسانوية الكوزموبوليتية وتبادل الآراء والليبرالية السياسية؟ وما دور المعجم واللغة والترجمة في بناء صورة الأنوار وفهم المصطلحات السياسية والاجتماعية المرتبطة بها، بخاصة تلك الأكثر إثارة للجدل مثل "العبودية"، و"الكونية"؟ إلخ.
حركات تحرير الجماعة
تقع دراسات هذا الملف من مجلة "القرن الثامن عشر" في امتداد عدد كبير من الكتب، جامعة الانتقادات والتحليلات للنقاشات التي أثارتها أو أعادت إشعالها في سياقات حديثة، بخاصة ضمن حركات تحرير الجماعات المهمشة. فبالنسبة إلى مفكري هذه الحركات، تعد نصوص الأنوار نصوصاً معرفية إشكالية، لأنها تنقل منظومة القيم المرتبطة بهيمنة "الرجل الأبيض". وحتى حين يعترف بعض هؤلاء المفكرين بإسهام الأنوار في التفكير النقدي حول الهيمنة، بالتالي في تحرير الأقليات، فإنهم ينتقدون ما يسمونه "كونية متعالية"، يرونها غير مكتملة أو مترددة أو منفصلة عن الحقوق الفعلية. ولعل هذه الخطابات التي تتردد في وسائل الإعلام وفي المشهد السياسي تشكل إطاراً جديداً لقراءة الأنوار. ولئن كانت هذه الخطابات تتعارض أحياناً مع البحث والتعليم المتخصصين بالقرن الثامن عشر، فإنها تتقاطع بصورة مفارقة مع الجهود العلمية الراهنة لتحديث هذا الحقل، من خلال الانفتاح على أطر نظرية جديدة كدراسات الرعاية والإعاقة والجندرية الاجتماعية ونظرية العرق النقدية، أو إثراء التأريخ للأنوار من خلال استكشاف مواضيع ومؤلفين ونصوص جديدة، ومواجهتها بتأويلات يمكن أن تحفز البحث العلمي.
يأتي هذا الملف إذاً في سياق تاريخ تلقي فكر الأنوار الذي تعيد بعض المطالب الراهنة رسم معالمه، مستكشفاً في الوقت عينه مسالك تفسيرية جديدة قد تكشف عنها هذه المطالب التي لا تدرس الانتقادات المعاصرة للأنوار بذاتها فحسب، بل بوصفها محطات في تاريخ طويل للنقاشات التأويلية حول الكونية أو الديمقراطية أو الإرث الأوروبي أو فكرة التقدم.
توزعت الدراسات على خمسة محاور: تناول المحور الأول النقاشات الاجتماعية والسياسية حول أعمال وشخصيات هذا العصر، والنصوص المتداولة في وسائل الإعلام والفضاء الرقمي واستخدامها في فضاءات التلقي المدرسية والجامعية والإعلامية والسياسية، وأنماط قراءتها.
أما المحور الثاني، فقد خصص للتفكير في قضايا لغوية وترجمية متعلقة بالأنوار وتنوع النقاشات حولها حسب المناطق الثقافية واللغوية، لا سيما تقنيات الاقتباس والاستخراج وإعادة الصياغة وتأثيراتها الدلالية.
المحور الثالث خصص للانتقادات الجديدة للأنوار والإبستمولوجيات الناتجة منها والمسارات البحثية التي تفتحها والإشكاليات المعرفية التي تطرحها تطبيقات مفاهيم الدراسات الثقافية، وما بعد الكولونيالية، ودراسات الجندر على الأنوار إلى جانب مساهمة الإنسانيات الرقمية في تنويع المتون وتحديد مواضيع جديدة.
تناولت مقالات المحور الرابع الأنوار في المناهج التعليمية والانتقادات الموجهة لها كالعنصرية ومعاداة السامية، والاستعمار من خلال التساؤل عما إذا كانت هذه الانتقادات هي نتاج التقليد المدرسي أم رد فعل ضده.
أما المحور الخامس والأخير فقد خصص للقراءات والتلقيات المميزة والتجارب الفردية مع الأنوار مقابل تلقي القراءة الأكاديمية المنظرة أو النموذجية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
عقيدة فلسفية متماسكة
أظهرت بعض هذه الدراسات أن حركة التنوير لم تطرح عقيدة فلسفية متماسكة، ولا مشروعاً سياسياً موحداً، ولا جملة من الأفكار الجاهزة المطمئنة، بل مجموعة من الأسئلة، مقدمة نوعاً من الجرد التأريخي، أو لنقل من خريطة للنقاشات التي دارت في السنوات الأخيرة في معنى الأنوار وكيفية فهم هذا التيار الفلسفي والثقافي، كلحظة تاريخية متجذرة في القرن الثامن عشر، وفي الوقت نفسه كتراث فكري حي لا يعني بالضرورة التخلي عن مفهوم الأنوار، وخصوصاً في استعمالاته المعاصرة. فالأنوار ليست برنامجاً نظرياً للحداثة، بل مجموعة من الاقتراحات التي تسمح لنا بمساءلة التناقضات الكامنة فيها. وهذا ما يجعلها مهمة، لا سيما مع عودة خصوم الفكر التنويري أي الفكر الرجعي والحنين إلى مجتمع منظم وهرمي مُعادٍ لتوسيع الحقوق والحداثة.
درست بعض المقالات أيضاً موضوع الأنوار من منظور النقد المسمى بـ"اليساري"، أي النقد ما بعد الاستعماري، الذي يشكل اليوم تحدياً حقيقياً للأنوار. وتناول بعضها الآخر الأنوار من منظور النيوليبرالية ومسألة التأويل الجامد لتراثها، الذي أفرغ هذه الحركة من بعدها الشكي والنقدي، كما في كتاب ستيفن بينكر "انتصار الأنوار"، الذي كان من أكثر الكتب مبيعاً، لكنه قدم رؤية اختزالية ترى الأنوار كعبادة للتقدم والتفاؤل العلموي.
إذاً من تساؤلات فولتير حول التجارة الاستعمارية والعبودية، وصولاً إلى التأملات الأخيرة لميشيل فوكو، مروراً بالنقد ما بعد الاستعماري والمآزق التي يواجهها الفيلسوف في علاقته بالجمهور، يقترح هذا الملف لوحة متجددة بعمق لحركة لا بد من إعادة اكتشافها، لأنها لا تزال تخاطبنا بلا انقطاع، بعيداً من الهجمات الكاريكاتيرية التي تقدم التيار التنويري كاسم رمزي لهيمنة غربية، حقيقية أو متخيلة. وهذا ما يؤدي إلى كثير من التبسيط والاختزال.
إن قراءة هذا العدد من مجلة "القرن الثامن عشر" المخصص لإرث الأنوار الذي يعيد بناء سياق النقاشات الفكرية في إنجازات أو إخفاقات القرن الثامن عشر من خلال مقاربات تأويلية مفتوحة هي متعة حقيقية. ليس فقط لأنها تطلق النقاش حول الأنوار وتعيد تفعيل سؤال راهنيتها، بل لأنها تؤكد لنا أن هذه الحركة تشكل مرجعية لا غنى عنها في كل مشروع تحرري، لأن الوعد الحديث بالاستقلالية الفردية المبنية على ممارسة العقل، والمضمونة عبر فضاء عام حر، هو وعد تنويري في جوهره، ولأن تأثير الأنوار امتد إلى ما هو أبعد من الغرب، ولو لم تحتل الأفكار التنويرية الدور التأسيسي نفسه في جميع التقاليد الفكرية والسياسية.