Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"اتفاق جوبا" بين تآكل النصوص وملامح التسوية المقبلة في السودان

يرى مراقبون أنه ولد مثقلاً بنقاط الضعف لتركيزه على قسمة السلطة والثروة وإهمال القضايا الرئيسة

متخصصون يرون أن اتفاق جوبا بني على قسمة السلطة والثروة بتركيز مخل (رويترز)

ملخص

على رغم أن الاتفاق نص على أن أجل انتهائه هو نهاية الفترة الانتقالية المحددة بـ 39 شهراً، لكن أمد الفترة الانتقالية نفسه بات مبهماً ومجهولاً بعد أن مضى عليها الآن نحو خمسة أعوام.

سلطت الخلافات الأخيرة حول أنصبة المشاركة في السلطة التي اختلف حولها أطراف العملية السلمية، الضوء على مستقبل "اتفاق جوبا للسلام" في السودان بعد مضي أكثر من أربعة أعوام على توقيعه في أكتوبر (تشرين الأول) 2020، بمدينة جوبا عاصمة جنوب السودان.

ومنذ ذلك الحين وحتى الآن لم تتجاوز نسبة تنفيذ الاتفاق خمسة في المئة من إجمال نصوصه، ثم جاءت الحرب التي اندلعت في أبريل (نيسان) عام 2023 لتمزق الأطراف الموقعة عليه ما بين متحالف مع الجيش ومساند لقوات "الدعم السريع"، مما ألقى مزيداً من الظلال على مصير الاتفاق ومستقبله.

أين السلام؟

وعلى رغم أن الاتفاق نص على أن أجل انتهائه هو نهاية الفترة الانتقالية المحددة بـ 39 شهراً، لكن أمد الفترة الانتقالية نفسه بات مبهماً ومجهولاً بعد أن مضى عليها الآن نحو خمسة أعوام، فما هي ظلال وتأثيرات الحرب في الاتفاق، وكيف ينظر المراقبون والمتخصصون إلى مستقبله في ظل الانقسامات والشراكات والتحالفات الجديدة لأطراف السلام.

وأضافت حرب السودان الراهنة عبئاً ثقيلاً جديداً واختباراً ألقيا بظلالهما على جدوى الاتفاق نفسه، خصوصاً بعد انتقال القتال واشتعال دارفور بأسوأ مما كان عليه الوضع خلال حرب 2003 التي امتدت لعشرات السنين، ليبقى السؤال حول أي أثر ستخلفه الحرب على مصير هذا الاتفاق بعد أن فقد وجوده على أرض الواقع بصورة دفعت القواعد إلى التساؤل عن السلام المفقود.

التعليق والتجميد

في السياق يقول المتخصص في التفاوض وفض النزاعات محمد نور الطريفي "صحيح أنه من الناحية القانونية أو الرسمية، لا يوجد تاريخ محدد كأجل لانتهاء مدة صلاحية الاتفاق ضمن نصوصه العامة، باعتباره اتفاقاً إطارياً قابلاً للتنفيذ على مراحل متعددة، غير أن الفترة التي انقضت منذ توقيعه من دون تنفيذ فاعل لعدد من بنوده الرئيسة، جعلت كثراً يعتبرون أن الاتفاق بات في حال من الموت السريري".

 ويشير الطريفي إلى أن معظم بنود الاتفاق باتت عملياً شبه مجمدة أو معلقة طوال تلك الفترة، وبعد اندلاع الحرب بين الجيش وقوات "الدعم السريع" عام 2023، وما ترتب على ذلك من غياب لنفوذ الدولة المركزية وضعف مؤسساتها.

 

ويضيف أنه "بعد مرور أكثر من أربعة أعوام على الاتفاق، تآكلت بالفعل نصوصه ومرجعياته، وأصبحت موضعاً لكثير من التساؤلات والتشكيك، لذلك يمكن القول إن وجودها أصبح على الورق فقط، من دون أية فاعلية لها على الأرض وإن وجدت فهي محدودة للغاية، ومع الاختلاف في تفسير البنود وانقسام الموقعين الأصليين بتحالف بعضهم مع الجيش، وانحياز بعضهم الآخر إلى ’الدعم السريع’، انهارت وحدة الموقعين، مما أضعف بدوره من شرعية الاتفاق".

المرجعيات والمستقبل

ويشير الطريفي في الوقت نفسه إلى أنه "على المستوى النظري تتمثل المرجعيات في الاتفاق نفسه، لأنه وثيقة قانونية سياسية موقعة بين أطراف معترف بها دولياً، كذلك تعتبر آلية التقييم والمتابعة التي أنشأها الاتفاق واحدة من المرجعيات لكنها معطلة حالياً، كما يعد ضامنو الاتفاق في الاتحاد الأفريقي ومنظمة ’إيغاد‘ والمجتمع الدولي شهوداً عليه، كما أن الوثيقة الدستورية (2019) المعدلة، بوصفها أيضاً إحدى مرجعيات العملية السياسية وقتذاك، على رغم الجدل حول سقوطها فعلياً بعد انقلاب البرهان عليها في الـ25 من أكتوبر (تشرين الأول) عام 2021".

أما بالنسبة إلى مستقبل الاتفاق، فيرى الطريفي أنه وبموجب الحرب الراهنة التي نشبت بين طرفين كانا جزءاً من النظام نفسه بما حملته من تطورات سياسية وأمنية، أصبحت غالبية بنوده غير مواكبة أو قابلة للتطبيق، وتحتاج إلى إعادة التفاوض حولها لتواكب مناخ الحرب السياسي الجديد، بعد أن تحول الاتفاق إلى مجرد وثيقة تحالف بين الجيش وبعض حركات دارفور.

خلافات على السلطة

على نحو متصل يوضح أستاذ التاريخ السياسي عبدالرحمن زاكي الدين أن الخلافات حول "اتفاق جوبا للسلام" دائماً ما تنفجر بسبب قسمة السلطة والمناصب، بعيداً من جوهر القضايا السلام الرئيسة التي ظلت مهملة من دون تنفيذ منذ توقيعه.

ويشير إلى أنه حتى منتصف العام الحالي كانت نسبة التنفيذ الفعلي لبنود لاتفاق لا تتجاوز الخمسة في المئة من مجمل البنود الرئيسة والجوهرية المتعلقة بتقسيم السلطة والثروة ودمج القوات وعودة النازحين، غير أن الأهم من ذلك كله هو أن الإرادة السياسية للأطراف الموقعة على اتفاق السلام تبعثرت بانقسامات الحركات الموقعة عليه بعد الحرب الحالية.

ويرى زاكي الدين أن من التحديات الكبيرة التي تواجه مستقبل "اتفاق جوبا للسلام" تنامي الرفض الشعبي والسياسي للاتفاق والدعوات المتكررة إلى إلغائه من قبل حركات أخرى وكيانات سياسية أخرى ومنظمات فئوية ومجتمعية تعتبر أنه لم يعُد سوى وسيلة لتحقيق مصالح سياسية وشخصية ضيقة بإهماله للقضايا الحيوية التي وُقّع من أجلها والمرتبطة بالمهمشين والضحايا والنازحين.

 

ويعرب عن اعتقاده بأنه في حال حدوث تسوية شاملة ما بعد الحرب، فمن الضروري مراجعة شاملة للاتفاق بما يشمل الأطراف والبنود والضمانات، وبما قد يعيد إحياء بعض البنود بصورة مشروطة تتوافق مع واقع ما بعد الحرب، تمهيداً لدمجه في مضمون التسوية السياسية الشاملة الجديدة التي يتوقع أن تستوعب البنود غير المنفذة وتضم جميع الأطراف السودانية، أما في حال تطاول أمد الحرب أكثر مما هي عليه الآن من دون أي أفق لحل سياسي شامل للأزمة، فلا يستبعد زاكي الدين أن يجري تجاوز الاتفاق كلية في العملية السياسية المقبلة التي ستبدأ من الصفر.

ليس كله

بدوره أوضح رئيس المفوضية القومية للسلام سليمان الدبيلو أن اتفاق السلام ليس مرتبطاً بمدى الفترة الانتقالية الجزئية، إنما فقط بند المشاركة في السلطة هو المحدد بنهاية الفترة الانتقالية، بفهم أنه خلال هذه الفترة ستتحول أطراف السلام إلى أحزاب سياسيه تكون مشاركتها في السلطة وفق كسبها في الانتخابات، أما بقية بنود الاتفاق فمدى تنفيذها خلال 10 أعوام.

ويؤكد الدبيلو أن الاتفاق يمثل التزاماً دستورياً مشهوداً له دولياً بأن كل الجهد يتركز في العمل على الحفاظ عليه وتنفيذ ما يمكن تنفيذه وفق الظروف التي تمر بها البلاد خلال هذه الفترة.

آلية ذاتية

أما إذا دعت الحاجة إلى تعديل أو إضافة بعض البنود، وفق الدبيلو، فإن الاتفاق نفسه قد ثبتت آلية تعديله وسيجري ذلك وفق تلك الآلية. وتابع، "صحيح انقضت خمسة أعوام لكنها ظروف لم تكُن منظورة وقت التوقيع وسيظل أطراف السلام مشاركين في السلطة إلى حين انقضاء الفترة الانتقالية التي جددت الآن لتنتهي بالانتخابات".

وحول مستقبل الاتفاق، يرى رئيس مفوضية السلام أنه في حال توقف الحرب والوصول إلى تسوية سياسية، فإن ذلك لن يؤثر في الاتفاق، بمعنى أن بنوده لن تتأثر بأي اتفاق في ما عدا القضايا القومية التي قد يجري تعديلها بحسب ظروف التسوية المتوقعة.

شاهد من أهلها

وفي شهادة لأحد الأطراف الموقعين على الاتفاق، يؤكد رئيس وفد التفاوض لمسار شرق السودان أسامة سعيد أن أجل الاتفاق انتهى فعلياً في الثالث من يناير (كانون الثاني) عام 2024، ذلك أن مدته ارتبطت بعمر الفترة الانتقالية المحددة بـ 39 شهراً تبدأ من تاريخ التوقيع عليه في الـ21 من أكتوبر 2020 وفق المادة (2/ 1) من الاتفاق نفسه.

وأوضح سعيد أن الاتفاق لم يرد له أن يكون مجرد سلم للسلطة، بل أداة لتحقيق السلام العادل والدائم في وطن جريح، ويتعلق جوهره بإنصاف المناطق المتأثرة بالنزاع ومعالجة التهميش وتحقيق العدالة الانتقالية والتنمية.

لذلك بحسب سعيد، فإن التمسك بأهداب السلطة والمناصب لا ينسجم مع أخلاق الثورة ولا روح الاتفاق، ويمثل انحرافاً عن المقصد النبيل الذي جرى الاتفاق من أجله، منوهاً إلى أن حصة السلطة المنصوص عليها تعتبر استحقاقاً جماعياً ل للموقعين كافة، وتُدار بروح الشراكة وليس بالتشبث والاستحواذ، إذ نصت المادة (8/3) بوضوح على أن تحتفظ الأطراف الموقعة على الاتفاق بمواقعها التي حصلت عليها بموجبه إلى أجل محدد هو نهاية الفترة الانتقالية.

تساقط البنود

من جانبه يرى الباحث في مجال النزاعات وبناء السلام عبدالمحسن بابكر أن "اتفاق جوبا للسلام" في السودان يواجه تحديات كبيرة، نتيجة تجاوز الزمن لعدد من نصوصه، مما حفز الخلافات بين الأطراف والحركات الموقعة نفسها، ومع الطرف الثاني الذي تمثله الحكومة أو الجيش الذي يغض الطرف عن تلك التحديات.

ويعتقد بابكر بأن الاتفاق ولد وهو مثقل بنقاط الضعف بتركيزه على قسمة السلطة والثروة وإهمال القضايا الرئيسة في بناء السلام وسط مكونات المجتمعات المحلية الإثنية التي تجذرت فيها رواسب الحروب وثقافة الكراهية، بخاصة في دارفور.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ويلاحظ أن بعض بنود الاتفاق التي لم تنفذ ذهبت في الاتجاه العكسي تماماً لما هو منصوص عليه، فبعد أن واجه بند الترتيبات الأمنية الخاصة بعملية دمج وتسريح قوات الحركات معضلات مالية ولوجستية حالت دون تنفيذه، جاءت الحرب الراهنة لتنعش من جديد إعادة التجنيد والتسليح بصورة واسعة وسط صفوف الحركات بعد انحيازها إلى القتال مع الجيش، مما يعني السقوط الكامل لهذا البند.

كذلك انهارت وفق الباحث، أهم بنود الاتفاق المتعلقة بملفات العدالة الانتقالية ومحاسبة مرتكبي الجرائم وانتهاكات حقوق الإنسان في كل من دارفور والمنطقتين، وازدادت أعداد النازحين بأكثر من ضعف ما كانت عليه عند توقيعه.

اتفاق وآمال

ووقع "اتفاق جوبا لسلام السودان" في الثالث من أكتوبر عام 2020 بين الحكومة الانتقالية وقادة الحركات المسلحة في دارفور والنيل الأزرق ومسارات الشرق والشمال والوسط.

وجرى بموجب الاتفاق تخصيص 75 مقعداً في المجلس التشريعي وثلاثة مقاعد في مجلس السيادة و25 في المئة من المناصب التنفيذية القومية، فضلاً عن المناصب الولائية والإقليمية للحركات الموقعة.

وشكل الاتفاق وقتها بارقة أمل لإنهاء النزاعات المسلحة التي طال أمدها في البلاد، إلا أن تطورات المشهد السوداني، ولا سيما بعد اندلاع الحرب الراهنة منتصف أبريل عام 2023، عصفت بكل الآمال في تحقيق السلام والاستقرار المنشودين عبر الاتفاق.

اقرأ المزيد

المزيد من تقارير