ملخص
لم يكتشف أمر الشبكة الروسية بسبب أخطاء ارتكبوها أو لبراعة مكتب التحقيقات الفيدرالي، وإنما بسبب جاسوس يعمل لحساب الاستخبارات الأميركية من قلب موسكو وهو العقيد ألكسندر بوتييف، الذي كان يشغل منصب نائب رئيس جهاز الاستخبارات الخارجية الروسي، والذي كان مشرفاً على نشاط الجواسيس الروس "غير الشرعيين" في أميركا.
على رغم نهاية الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفياتي عام 1991، عادت موسكو إلى تفعيل أحد أكثر برامجها السرية للتجسس على الغرب قبل 20 عاماً، وهو ما يكشفه كتاب جديد يحمل اسم "إلليغالز" أو (غير الشرعيين)، والمقصود بهم الجواسيس الذين لا يعملون في سفارات روسيا تحت غطاء دبلوماسي، وإنما آخرون اختيروا بعناية وتدربوا على مدى أعوام طويلة على اللغة والثقافة وآداب السلوك قبل أن يرسلهم الروس ومن قبلهم السوفيات إلى الغرب للعمل بهويات مزورة بعيداً من أعين السلطات، مما حقق إنجازات هائلة لموسكو على مدى عقود طويلة. فما أبرز قصص هذا البرنامج، ولماذا تميز عن غيره من برامج التجسس في الغرب فيما فشلت أميركا في محاكاته، وهل أدى التحول الرقمي العالمي إلى إنهاء هذا البرنامج الذي أنشأه السوفيات عقب الثورة البلشفية؟
الهاجس الأكبر
يشير الصراع المحتدم الآن في واشنطن بسبب التقرير الذي تعتزم مديرة الاستخبارات الوطنية تولسي غابارد الكشف عنه، والذي يزعم أن إدارة أوباما حاولت عرقلة نجاح دونالد ترمب عبر اختلاق قصة محاولة التدخل الروسي في انتخابات عام 2016 بما يتناقض مع رواية الديمقراطيين التي تقول إن موسكو أجرت عمليات تدقيق في أنظمة الانتخابات الأميركية لمعرفة ما إذا كان بإمكانهم تغيير نتائج التصويت، إلى أن روسيا بخبراتها الطويلة في عالم التجسس، لا تزال هي الهاجس الأكبر للولايات المتحدة، على رغم الاهتمام المتزايد أخيراً بنشاط التجسس الصيني.
ولا يعود هذا الهاجس المتجدد فقط إلى التاريخ المرير في التجسس بين القوتين العظميين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي في صراعهما على التفوق والنفوذ العالمي، والذي استمر منذ الحرب العالمية وحتى انهيار الشيوعية في موسكو عام 1991، بل أيضاً إلى قرار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عام 2004، تنشيط أحد أبرع برامج التجسس وأكثرها سرية حول العالم.
التفاصيل الدقيقة لهذا العالم يكشفها كتاب صدر قبل أسابيع قليلة تحت اسم "إلليغالز" أي غير الشرعيين، للكاتب شون ووكر، مراسل صحيفة "الغارديان" السابق في وسط وشرق أوروبا، الذي اعتمد على مواد أرشيفية رفعت عنها السرية ومقابلات شخصية، نتج عنها رواية آسرة حول العالم السري لهذا البرنامج الذي بدأه السوفيات قبل قرن واعتمد على جواسيس جرى دمجهم بعد تدريب استمر أعواماً ليعيشوا سراً في الغرب بهويات مزيفة كأميركيين أو بريطانيين أو كنديين، مما جعلهم أشباحاً يتجولون بلكنة أميركية أو غربية، مما يجعل اكتشافهم صعباً، وذلك على خلاف ما يسمى "الجواسيس الشرعيين" من الروس الذين يعملون تحت غطاء رسمي كدبلوماسيين أو موظفين في السفارة، ويتمتعون بالحصانة الدبلوماسية ولهذا يجري ترحيلهم إلى بلدهم حال انكشافهم.
الأكثر براعة وطموحاً
قبل أكثر من قرن، بدأ البرنامج عام 1922 مع فلاديمير لينين الذي قاد الثورة البلشفية وأول من تولى رئاسة الحكومة السوفياتية، واستمر حتى اليوم في عهد فلاديمير بوتين، المولع بالتاريخ السوفياتي وإنجازاته، حيث أرسلت الحكومة البلشفية في البداية مواطنين سوفيات إلى الخارج كجواسيس سريين، ودربتهم على التظاهر بأنهم أرستقراطيون وتجار وطلاب أجانب. لكن مع مرور الوقت، تطور هذا البرنامج ليصبح أحد أبرع برامج التجسس وأكثرها طموحاً في التاريخ.
وعلى رغم أن كثيراً من وكالات الاستخبارات حول العالم تستخدم عملاء سريين، كان جهاز الاستخبارات السوفياتي (كي جي بي) هو الوحيد الذي ذهب إلى هذا الحد من الصبر الطويل والتدريب المتقن والنطاق الواسع في التنفيذ. فقد أمضى أعواماً في تدريب جواسيسه على لغة وثقافة وعادات الغرب وآداب السلوك، وأرسلهم إلى الخارج في مهام تستمر لعقود. وفي إحدى الاستراتيجيات، كان العملاء الروس يمشطون الصحف والمقابر الأميركية بحثاً عن أسماء الأطفال الذين ماتوا صغاراً، ثم يستخدمون هوياتهم لخلق حياة جديدة ناضجة قبل أن تجعل الإجراءات الأمنية في الأعوام الأخيرة هذا الأمر أكثر صعوبة.
تجسدت هذه البراعة خلال الحرب العالمية الثانية، حينما أرسل هؤلاء الجواسيس خلف خطوط العدو لاغتيال كبار النازيين، وفي أثناء الحرب الباردة، أرسلوا للاختباء في الغرب، وحقق غالبيتهم إنجازات باهرة، بينما فشل آخرون في مهامهم أو انهاروا تحت وطأة العيش في حياة مزدوجة. ومن بين أعظم الإنجازات تحذير مسبق وصل إلى مكتب جوزيف ستالين عام 1941 من عملية بارباروسا، وهي خطة هتلر السرية لخيانة الزعيم السوفياتي عبر شن غزو شامل على بلاده، لكن ستالين المتشكك في جواسيسه تجاهل التحذير باعتباره استفزازاً أو تلفيقاً صريحاً، كما سلم هؤلاء الجواسيس ستالين معلومات استخباراتية عن القنبلة الهيدروجينية قبل أن يعرف الرئيس الأميركي نفسه هاري ترومان هذه التفاصيل.
وفي الأعوام الأخيرة، يسرد كتاب شون ووكر، تفاصيل عمليات تجسس "غير الشرعيين" التي كشف عنها مكتب التحقيقات الفيدرالي وجسدها المسلسل التلفزيوني "الأميركيون".
الأميركيون الحقيقيون
في الحلقة الأخيرة المثيرة من مسلسل "الأميركيون"، الذي تدور أحداثه خلال عهد الرئيس رونالد ريغان، يواجه عميلا الاستخبارات السوفياتية (كي جي بي) فيليب وإليزابيث جينينغز قراراً صعباً، فقد انتحلا شخصية زوجين أميركيين عاديين، ولعقود من الزمن، ربيا أطفالهما، وقدما إقراراتهما الضريبية، وانغمسا بسلاسة في إيقاعات وروتين الحياة اليومية في ضواحي واشنطن العاصمة، وطوال هذه الفترة، كانا يتجسسان ويجمعان المعلومات الاستخباراتية وينقلانها سراً إلى القادة الشيوعيين في موسكو السوفياتية.
ومع تضييق مكتب التحقيقات الفيدرالي الخناق عليهما، واقتراب كشف أمرهما، كان عليهما أن يقررا ما إذا كانا سيبقيان ويواجهان الاعتقال أم سيتركان البلد الذي اختاراه وطناً لهما، كما كان عليهما التفكير في أطفالهما المراهقين.
بدت القصة مذهلة للجمهور الأميركي لدرجة يصعب تصديقها، لكنها في الواقع كانت مبنية على شخصين أميركيين حقيقيين هما دونالد هيثفيلد وآن فولي، اللذين كشف لاحقاً أنهما أندريه بيزروكوف وإيلينا فافيلوفا، وهما زوجان روسيان أمضيا أكثر من 20 عاماً متنكرين في هيئة كنديين، ووقت كشف هويتهما، كانا يعيشان بهدوء في الولايات المتحدة مع ابنيهما تيم وأليكس.
قصة اندماج
يحكي شون ووكر في كتابه قصة اعتقال شبكة من 10 جواسيس روس عام 2010 بمن فيهم بيزروكوف وفافيلوفا، ومعظمهم مثلهما من "غير الشرعيين" الذين اعتقلهم مكتب التحقيقات الفيدرالي بعد لقاء قمة بين الرئيس الروسي آنذاك ديميتري ميدفيديف والرئيس الأميركي باراك أوباما.
يوضح ووكر كيف التقى بيزروكوف وفافيلوفا للمرة الأولى في أوائل الثمانينيات، عندما كانا طالبي تاريخ في سيبيريا، حيث حددهما مراقبو جهاز "كي جي بي" للتجنيد المحتمل، قبل أن يخضعا لاحقاً لبرنامج تدريب شاق استمر أعواماً عدة، لاستيعاب لغتهما الجديدة وسلوكياتهما وهويتهما لتتوافق مع لغة وسلوكيات زوجين عاديين، ثم غادرا الاتحاد السوفياتي منفصلين عام 1987، ونظما لقاء في كندا، وبدءا علاقة كما لو أنهما التقيا للتو.
بعد زواجهما باسميهما المستعارين، تبنى أندريه وإيلينا عادات وتقاليد حياة الطبقة المتوسطة العادية. وبعد انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1991، انقطع الزوجان عن موسكو، ولكن بحلول نهاية العقد، أعاد جهاز "أس في آر" وهو وكالة الاستخبارات الخارجية الروسية الجديدة، تنشيط علاقتهما، وفي تلك الأثناء، التحق أندريه بكلية كينيدي في جامعة هارفرد، مما سمح للعائلة الانتقال إلى ماساتشوستس والاندماج أكثر في المجتمع الأميركي.
وبينما كان أندريه يتواصل مع الأوساط الأكاديمية والسياسية، حافظت إيلينا على الحياة المنزلية الطبيعية، متظاهرة بأنها أم حنونة، تربي الأطفال وتدير شؤون المنزل بينما كانت في الواقع تفك سراً رسائل لا سلكية مشفرة في الغرفة الخلفية للمنزل.
كشف الشبكة
استمر هذا لأعوام، وفي أحد الأيام، دق باب البيت فجأة بينما كانا يحتفلان بعيد ميلاد ابنهما تيم الـ20، ويقتحم عملاء مكتب التحقيقات الفيدرالي المنزل، ويقيدوا الزوجين أمام ابنيهما، لكن بعد اعتقالهما بفترة وجيزة، رحل أندريه وإيلينا إلى روسيا في صفقة تبادل جواسيس رفيعة المستوى، ليكرمهما فلاديمير بوتين، ويصبحا من المشاهير في موسكو لفترة وجيزة.
ومن بين الجواسيس الـ10 الروس أيضاً، كانت آنا تشابمان من أبرز الشخصيات في عملية شبكة الجاسوسية عام 2010، وعلى عكس كثير من الجواسيس غير الشرعيين الآخرين، لم تكلف تشابمان نفسها عناء إخفاء هويتها الروسية، وكما يروي ووكر، دخلت تشابمان أميركا بجواز سفر بريطاني حصلت عليه من خلال زواج قصير الأمد من مواطن بريطاني، وعملت كوسيط عقاري في نيويورك، وبفضل مظهرها الجذاب وشخصيتها الإعلامية المحببة، أصبحت الوجه الأبرز في فضيحة الجاسوسية، لكن بعد ترحيلها إلى روسيا في صفقة التبادل ذاتها، أعادت تشابمان ابتكار نفسها كمقدمة برامج تلفزيونية وعارضة أزياء وشخصية مؤثرة مؤيدة للكرملين.
لم يكتشف أمر الشبكة الروسية بسبب أخطاء ارتكبوها أو لبراعة مكتب التحقيقات الفيدرالي، وإنما بسبب جاسوس يعمل لحساب الاستخبارات الأميركية من قلب موسكو وهو العقيد ألكسندر بوتييف، الذي كان يشغل منصب نائب رئيس جهاز الاستخبارات الخارجية الروسي، والذي كان مشرفاً على نشاط الجواسيس الروس "غير الشرعيين" في أميركا.
بعد تنفيذ الاعتقالات، غادر بوتييف بهدوء مقر جهاز الاستخبارات الخارجية الروسي في ياسينيفو للمرة الأخيرة، ومن هناك، توجه إلى أوكرانيا، حيث تمكنت وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية من نقله بأمان إلى الولايات المتحدة، مما أثار غضب بوتين عند سماعه الخبر.
فشل أميركي
وعلى رغم هذا النجاح الساحق من جهود مكافحة التجسس الأميركية فإن ووكر يشير إلى فشل الولايات المتحدة في محاكاة برنامج "غير الشرعيين" الروسي، إذ يقول في كتابه إن أميركا حاولت إنشاء برنامجها الخاص من الجواسيس غير الشرعيين في خمسينيات القرن الماضي، فأنشأت منشأة تدريب سرية في فندق سابق على بحيرة قرب الحدود الألمانية النمسوية.
لكن اختراق الاتحاد السوفياتي كان شبه مستحيل، حتى مع الناطقين باللغة الروسية، مما أدى إلى إغلاق البرنامج بحلول عام 1959 إذ أثبت المجتمع السوفياتي المنغلق، بمراقبته الداخلية المستمرة ومتطلباته المعقدة المتعلقة بالوثائق حتى للأنشطة البسيطة، مقاومته الشديدة للغرباء الذين يحاولون الاختلاط به.
قرن من التاريخ الدرامي
في المقابل، كان الجواسيس غير الشرعيين، في نظر ووكر، ظاهرة روسية فريدة، متجذرة في التجربة التاريخية المعقدة للبلاد، وكلما قرأ أكثر عنهم، ازداد اعتقاده أن البرنامج يجسد قصة أكبر بكثير، عن التجربة السوفياتية برمتها عبر قرن من التاريخ الدرامي والدموي، حيث يعود ووكر في كتابه بالزمن إلى عام 1917، عندما استولى البلاشفة على السلطة وأصبح التجسس حجر الزاوية في الدولة السوفياتية الناشئة.
متشبثاً بإيمانه بمبادئ المادية التاريخية، كان لينين على يقين من أن مؤسسات الدولة ستتلاشى في نهاية المطاف، وأن جنة العمال المتطورة ستفقدها معناها، ولتحقيق هذه النهاية السعيدة، اعتقد أن فترة انتقالية من عنف الدولة الوحشي كانت ضرورية، وهو ما يفسر سبب إنشائه للتشيكا، وهي قوة شرطة سرية مكلفة سحق النشاط المضاد للثورة وتطبيق الحكم البلشفي، وسرعان ما نمت لتصبح قوة قتالية هائلة يمكن إطلاقها على الأعداء السياسيين والطبقيين.
كانت التشيكا لاعباً مهماً في الحرب الأهلية الروسية، التي نشبت بين "الحمر" بقيادة لينين و"البيض" وهو تحالف فضفاض من الموالين للقيصر الروسي والمرتزقة الأجانب، الذين غالباً ما كان يجمعهم كرههم الشديد للبلشفية. وفي ظل الوضع الفوضوي للثورة، انتظم كلا الجانبين في عنف لا هوادة فيه، وهنا صقل البلاشفة أساليبهم السرية من المؤامرة والخداع متقنين استخدام التنكر والهويات المزيفة والاتصالات السرية، مما مهد الطريق لما سيعرف لاحقاً ببرنامج "غير الشرعيين" في المناطق التي سيطر فيها البيض.
عندما انتصر البلاشفة عام 1921، لم تحل التشيكا، بل أعيد توظيفها، فقد استمرت ممارسة زرع العملاء في عمق خطوط العدو بعد الحرب وتوسع نطاقها، وأصبحت فكرة لينين في الجمع بين العمل الدبلوماسي القانوني والتسلل السري غير الشرعي، سمة مميزة لكيفية إدارة الاتحاد السوفياتي لأجهزة استخباراته على مدى الأعوام الـ70 التالية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
شرطة ستالين السرية
في عهد خليفة لينين، جوزيف ستالين، تحولت الشرطة السرية إلى أداة شاملة للمراقبة والقمع والهيمنة، واشتدت الحاجة إلى اليقظة ليس فقط في الداخل، بل أيضاً في الخارج حيث بدأ التربص بالمؤسسات في الغرب، لكن الأساليب ذاتها التي ساعدت في استدامة الدولة السوفياتية في بداياتها من السرية والخداع والازدواجية، سرعان ما أصبحت أسباباً للشك في عهد ستالين.
يكتب ووكر أن جيل الجواسيس غير الشرعيين الذين تدربوا وانضموا إلى صفوفه خلال عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي كانوا من بين المستهدفين بالتصفية من ستالين، الذي كان دائماً حذراً من المؤامرات ضده، وينظر إلى جواسيسه كخونة محتملين، فقد تجاهل أو رفض عمداً كثيراً من المعلومات الاستخباراتية التي خاطر الجواسيس بحياتهم لجمعها، مما أدى في كثير من الأحيان إلى عواقب وخيمة.
من بين الضحايا كان ديمتري بيستروليتوف، الذي وصفه ووكر بأنه ربما كان أكثر الجواسيس غير الشرعيين موهبة في تاريخ البرنامج، فقد كان بيستروليتوف، بشخصيته المتقلبة، عميلاً وسيماً ومتعدد اللغات، جعلته مآثره في أوروبا الغربية أسطورة في دوائر الاستخبارات السوفياتية. ويشهد الباحث الروسي إميل درايتسر بأن تخصصه كان تجنيد عملاء لديهم إمكانية الوصول إلى الرموز والشفرات الدبلوماسية، وكان أسلوب عمله يتضمن كثيراً من النساء.
ومن خلال سلسلة من العمليات المحكمة بعناية، تمكن بيستروليتوف من الوصول إلى برقيات سرية ومذكرات داخلية وأسرار دولة في كثير من البلدان الغربية، وأتاح عمله لمحة نادرة بالنسبة إلى ستالين عن آليات النخبة الحاكمة في أوروبا. ولكن عندما حلت الفترة التي توصف في الغرب بالرعب الأعظم عام 1937، لم يكن لأي من ذلك أي أهمية، حيث اعتقل بيستروليتوف وحكم عليه، وأرسل إلى معسكرات العمل القسري، وتجاهله النظام الذي خدمه بتميز.
هل انتهت الحرب الباردة؟
كان يتوقع من هؤلاء الجواسيس الاختفاء في أراضي العدو والتضحية بهويتهم وعيش حياة مزدوجة، كل ذلك في سبيل رؤية ثورية شيوعية. ولكن بحلول وقت تعثر فيه الاتحاد السوفياتي وتوقف بصورة مخزية عام 1991، كان هذا الحلم قد مات، كما أن معظم العملاء الذين ساروا على خطى بيستروليوتوف لم يكونوا متسللين إلى السفارات أو يبوحون بأسرار الطبقة الحاكمة، بل كانوا "عناصر نائمة" يندمجون بهدوء في المدن والضواحي الغربية، في انتظار دعوة إلى التحرك، التي في كثير من الأحيان لا تأتي أبداً.
لكن القصة لم تنته عند هذا الحد، ففي عهد بوتين، الضابط السابق في "كي جي بي" الذي اكتسب خبرة واسعة في ثقافة التجسس، عادت أجهزة الاستخبارات الروسية إلى برنامج غير الشرعيين بدافع متجدد، إذ يوضح ووكر أن هناك أدلة دامغة تشير إلى أن برنامج غير الشرعيين تطور بدلاً من اختفائه، إذ تشير الهجمات البارزة على الأراضي البريطانية بما في ذلك تسميم الجاسوس السابق سيرغي سكريبال إلى أن وكالات الاستخبارات الروسية لا تزال مستعدة للعمل خارج حدودها الوطنية.
وفي السياق نفسه، يصف ووكر ما يمكن تسميته التحول الرقمي لبرنامج غير الشرعيين، فبدلاً من فك تشفير إشارات الراديو، دعمت روسيا فرقاً من العملاء الإلكترونيين المكلفين بإثارة الفوضى عبر منصات التواصل الاجتماعي الغربية بهدف زرع الفتنة وتأجيج الحروب الثقافية وتضخيم الانقسامات السياسية وتقويض الثقة في المؤسسات الديمقراطية، وهكذا عادت السرية إلى الواجهة، وأصبح الجاسوس بعيداً من كونه من بقايا القرن الـ20، رمزاً للقوة الوطنية.
ومن هذا المنطلق، لا يعد "غير الشرعيين" مجرد تاريخ للتجسس، وإنما تذكير واضح بأن الحرب الباردة لم تنته، بل تعمقت أكثر فأكثر تحت الأرض.