Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"مشربية زهزهان" تعيد سرد التاريخ من منظور نسوي

الروائية شيماء غنيم تستدعي مصر القرن التاسع عشر

لوحة للرسام المصري أحمد صالح بارة (صفحة فيسبوك)

ملخص

تستعرض رواية "مشربية زهزهان" لشيماء غنيم سيرة حارة من حارات القاهرة في نهاية عهد الخديوي إسماعيل وبداية عهد الخديوي توفيق، من خلال قصة امرأة من أصل شركسي، مسلطة الضوء على نضال المرأة السياسي في تلك الحقبة من القرن التاسع عشر.

تعود رواية "مشربية زهزهان" (دار العين- القاهرة)، للكاتبة شيماء غنيم، إلى مصر تحت حكم خلفاء محمد علي، لتنضم إلى تيار واضح في الرواية المصرية يعيد اكتشاف هذه الحقبة الزمنية روائياً. تجمع غنيم في هذا العمل بين المتخيل والحقيقي، كاشفةً عن العلاقات المتشابكة بين النخب الأرستقراطية، ومدى انفصالها عن الشعب واستغلالها لموارده.

يتجسد هذا التوتر الطبقي في عائلة "الخشَّاب"، الذي ارتقى اجتماعياً عبر زواجه من "خديجة هانم"، الوصيفة الشركسية ذات النفوذ، والتي فرضت ثقافتها، وكانت وراء حصوله على لقب البكوية وتوسيع تجارته ليصبح من الأعيان. وفي المقابل، تبرز الرواية وجوهاً أخرى للمجتمع تعبر عن متنه المهمش. فيظهر "صابر"، الفتى الذي مات والداه قهراً بعد أن اغتصب الباشوات أرضهم، لينتقل إلى كنف خاله في القاهرة مضمراً الرغبة في الانتقام. وهناك "اليوزباشي إسماعيل"، الضابط المصري الذي يعاني التمييز العنصري والتهميش داخل الجيش. كما نرى "حليمة"؛ الجارية التي تجهل أنها شقيقة "الخشاب" الذي تعمل في خدمته. أما "فضل واسع"، فتمثل مساراً آخر من المعاناة: فتاة هجرتها أمها منذ الطفولة، وتركَتها لأب قاسٍ يعمل وقّاداً في حمّام شعبي، ولزوجة أب لا تتوقف عن الكيد لها.

تراتبية عنصرية

تقدم الرواية التباين الطبقي الحاد في مصر آنذاك، بين بذخ القصور وسطوتها، وبؤس العامة تحت وطأة الضرائب الجائرة والسخرة بلا مقابل، وتجريدهم من أراضيهم بغير حق. يظهر هذا التناقض بوضوح حين يدعو الخديوي إسماعيل أمراء أوروبا لحضور احتفالاته المترفة، فيغدق على تزيين الشوارع، ويشيد الجدران لإخفاء الحارات الفقيرة عن أعين الضيوف. في مشهد دال تقول إحدى الشخصيات: "لا يريدهم أن يروا الحفاة الذين يحكمهم" (ص38). وهو ما يكشف عن طبيعة التفكير لدى الطبقة الحاكمة المنشغلة بتلميع وجهها أمام الأجانب، بينما تتعمد إخفاء فقر شعبها وحرمانه.

تكشف الرواية عن تراتبية عنصرية حكمت المجتمع في تلك الحقبة، مقسمة إلى السادة من الشراكسة والأتراك والأرناؤوط، يرون أنفسهم أرقى عرقاً وأرفع شأناً من الفلاحين المصريين، الذين يعاملون كخدم أو "عبيد إحسانات". هذه النظرة تتجلى في أحداث الرواية وهي ترصد رد فعل الخديوي إسماعيل عند اكتشافه منشوراً ثورياً، فيصرخ غاضباً: "كيف يجرؤ الفلاحون الملاعين أن يصلوا إلى هنا؟" (ص 23). وتعبر عن هذا التعالي أيضاً "خديجة هانم"، التي ترفض الاختلاط بأهالي الحارة، وتُلحّ على زوجها للانتقال إلى مكان أرقى.

ويظهر هذا الاحتقار للمصريين كذلك في الجيش، إذ يُعامل الجنود المصريون بمهانة، ويرفض القادة ترقيتهم أو مساواتهم بزملائهم من الأعراق النخبوية، مما يجعل الجيش ذاته انعكاساً لتفاوت اجتماعي وعنصري صارخ، وهو ما سيولد في النهاية الثورة العرابية.

زواج قسري

تتقاطع هاتان الطبقتان في الحارة الشعبية التي يقع فيها منزل "الخشاب"، حيث تطل "زهزهان" من مشربيتها على هذا العالم وتصطفي لنفسها منه أصدقاءً عابرين للفوارق الطبقية مثل "فضل واسع" البلَّانة، و"حليمة" الجارية، و"صابر" الذي أحبَّته على رغم الفارق الطبقي. هذا الوعي الطبقي التقدمي لم يبقِ "زهزهان" حبيسة مشربيتها، وإنما دفعها للانخراط في حركة سياسية سرية تسعى إلى فضح استبداد الطبقة الحاكمة. وفي ذروة رمزية، يتمكن "صابر" من وضع منشور على الكرسي المخصص لجلوس الخديوي إسماعيل داخل المسرح الذي شُيد للبذخ وإبهار الغرب.

لكن سرعان ما تنكشف العلاقة بين "زهزهان" و"صابر"، ولدرء الفضيحة، يسرع والدها بتزويجها من "مصطفى بك"، وكيل "الجهادية" (وزارة الحربية)، وهو شيخ في عمر أبيها ولديه بنات في عمرها. هذا الزواج القسري لا يغيب وعيها السياسي، ومن موقعها الجديد داخل بيت زوجها، تلتقط "زهزهان" أسرار الدولة والحاشية، وتنقلها خفية إلى التنظيم السري. وتسهم هذه المعلومات في نجاح حركة عرابي، وتمكنه من استباق المخطط الذي كان الخديوي وأعوانه يحيكونه للقضاء على حراك الضباط المصريين. لكن هذا النصر، سرعان ما يتحول إلى هزيمة بتآمر على عرابي، يفقده قاعدته، ويحول البلاد إلى مستعمرة بريطانية.

منظور نسوي

تحمل شخصيات الرواية أبعاداً رمزية تتجاوز واقعها الظاهري، لتعبر عن أسئلة كبرى؛ في قلبها مسألة الهوية المصرية بمفهومها المعاصر، ذلك المفهوم الذي بدأ في التشكل التدريجي عقب الحملة الفرنسية، وبلغ درجة عالية مع ثورة عرابي التي رفعت شعار "مصر للمصريين".

في هذا السياق، تمثل "زهزهان" ذات الدماء المختلطة (مصرية- شركسية) نموذجاً رمزياً لهذا التشكل، إذ تختار في وعيها وانتمائها هوية الأب المصري، في إشارة إلى قدرة الهوية الوطنية على استيعاب التنوع العرقي وصهره في بوتقة جامعة. وتبرز "أم سمير" بوصفها شخصية رمزية أخرى، تمثل الراوي الشعبي والتاريخي؛ امرأة فقيرة تسرد للأطفال حكايات شهداء معارك النضال، في مقاومة لهيمنة السرديات الرسمية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

يمثل "صابر" في الرواية صورة للفلاح المصري الصبور، الذي تحمل القهر طويلاً، لكنه يظل وفياً لأرضه وهويته، ويقرر في النهاية العودة إلى قريته التي طُرد منها أهله، في إشارة إلى استكمال مسيرة النضال من الجذور، ورفض الاغتراب الطبقي والمكاني في المدينة. أما "أمين"، شقيق "زهزهان"، الذي تلقى تعليمه في فرنسا، فيجسد روح التنوير والإيمان بالعلم والحرية، يدافع عن قضايا المرأة والعدالة الاجتماعية من خلال مقالات يكتبها باسم مستعار في الصحف، في دلالة رمزية على الصراع بين القديم والجديد، والتحديث من الداخل. ويكشف هذا الخيط عن إلحاح الرواية على قضيّة المرأة بوصفها محوراً رئيسياً في النضال الوطني والاجتماعي، من خلال شخصياتها النسائية الفاعلة، (زهزهان، حليمة، فضل واسع، أم سمير)، وكذلك من خلال استدعاء دور "الأميرة فاطمة" التي تنصفها الرواية بوصفها واحدة من نساء القصر اللاتي نذرن أنفسهن لخدمة العلم والتعليم. ويأتي "شيخ الحارة" كنموذج نمطي للشخصيات الانتهازية التي تسير دائماً في ركاب السلطة، أيّاً كان شكلها أو وجهها: "اخرس يا جربوع، ولا تتحدث عن أسيادك بهذا السوء، لولاه لأكلتم الجرذان" (ص75). وقف إلى جانب الخديوي إسماعيل حين كان في الحكم، ثم مع ابنه توفيق، ثم انقلب موقتاً إلى صف عرابي عندما شعر ببوادر انتصاره، وحين دارت الدائرة، عاد ليؤيد توفيق والإنكليز، بوصلته الوحيدة البقاء في كنف الأقوى لا المبادئ.

دلالات "المشربية"

وتتعدد دلالات "المشربية" داخل الرواية، فهي ليست مجرد تفصيلة معمارية في بيت قديم، بل تتحول إلى رمز مركزي يحمل وجوهاً متعددة. تارةً تحضر كمكان للمراقبة الصامتة، حيث تطل "زهزهان" من خلالها على عالم الحارة، ترصد حيواته وتتشرب تناقضاته. وتارةً أخرى، تعبّر عن سجنٍ ناعم، يقيد المرأة داخل المنزل ولا يتيح لها رؤية العالم إلا من خلال شقوق ضيقة، في إحالة واضحة إلى عصر الحرملك والمنع والتقييد. وفي موضع ثالث، تكتسب "المشربية" بعداً مقاوماً، موقعاً مرتفعاً تطل منه النساء على العالم، ومكاناً للنضال ضد المحتل. كما تظهر "المشربية" أخيراً كمكان رمزي للسلطة الأنثوية، عرشاً سردياً تحتضن فيه المرأة حكاياتها، وتنظر منه إلى أفق مختلف، فتغدو رمزاً للذاكرة الحية والمستقبل الرحب. وهذا هو المعنى الذي اختارته الكاتبة لتختم به روايتها: "ما دامت مشربية زهزهان مفتوحة، والمسرجة الفضية تضيء الدروب، ستظل الذاكرة حية، ولن يخفت صوت الحكايات" (ص235).

وبذلك تتحول "المشربية" في الرواية إلى استعارة تعبر عن المرأة، وعن الحكي، وعن مصر، وتتأرجح في التعبير عن القيد والحرية، عن السمو والحجب، عن حاضر مأزوم ومستقبل منشود.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة