ملخص
يرجع البحارة انتشار ظاهرة المد الأحمر إلى التدهور البيئي الخطر بالجهة ويتهمون محطات التطهير بالتسبب في ذلك عبر سكب أطنان من المياه الصناعية ومياه التطهير المستعملة في عرض البحر.
"البحر مات ونحن غادرنا"، بتلك الكلمات الصادمة بادرنا سمير، أحد بحارة منطقة قصيبة المديوني من محافظة المنستير التونسية، عند لقائه بمرفأ صيد السمك بالمدينة، متحدثاً عن ظاهرة "المد الأحمر" التي اجتاحت شواطئ المحافظة وسواحلها.
سمير الذي كان على ظهر مركبه الصغير بصدد تفقد شباكه وإصلاح عطل حل بمركبه، واصل حديثه والحيرة على وجهه "كنت عائداً رفقة شريكي في المركب صباحاً بعد رحلة صيد ليلية نمني النفس ببيع ما جاد به البحر علينا للتجار الذين كانوا بانتظارنا على المرفأ، وكانت الصدمة، البحر يتجه لونه إلى الأحمر والأسماك من مختلف الأحجام تطفو ميتة لتلقيها الأمواج على الشاطئ، كان المشهد صادماً".
بالمرفأ ذاته كما غيره من المرافئ بالجهة، تربض الزوارق الصغيرة والمتوسطة الحجم على غير عادتها، والسكون يعم المكان بعدما كان يضج بالحركة وعمليات بيع الأسماك وشرائها، خمسة أيام توقف فيها كل شيء واقتصرت التجارة على أصحاب المراكب الكبيرة والقوية التي بإمكانها الصعود إلى أعالي البحار، أما أصحاب المراكب الصغيرة فقد توقف عملهم، فلا طاقة لهم على تجاوز المناطق التي ضربها المد الأحمر.
البداية
لنعد إلى القصة من البداية، عند صبيحة الـ21 من يونيو (حزيران) الجاري عندما فوجئ البحارة العائدون من رحلة صيدهم المعتادة من البحر في اتجاه المرافئ المنتشرة بين منطقتي خنيس وصيادة، باصطباغ مياه البحر باللون الأحمر، بينما تطفو الأسماك والسلاحف والأحياء البحرية النافقة المختلطة بالطحالب التي تنبعث منها روائح كريهة تزكم الأنوف، وسط ذهول كل من شهد الظاهرة، معلنة عن تحول مخيف ينبئ بكارثة بيئية حقيقية.
تضم منطقة خليج المنستير قرابة 4 آلاف بحار يمتلكون مراكب صغيرة ومتوسطة الحجم، يقول شهاب أحد بحارة الجهة إنهم أحيلوا إلى بطالة إجبارية بعد انتشار ظاهرة المد الأحمر وفقدوا مصادر رزقهم، مطالباً السلطات بضرورة التدخل لمعالجة المشكلة والاستماع إلى أصواتهم.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويضيف شهاب أنهم خرجوا إلى الاحتجاج وقطعوا الطرق الرئيسة بالجهة حتى تستمع السلطات إلى مطالبهم، مستدركاً "لكن السلطات لا تعير المسألة البيئية المتأزمة في هذا الخليج منذ عقود أي اهتمام ولا تلتفت إلينا، والكارثة تكررت أكثر من مرة وليس هناك بحث عن الحلول البديلة".
ويرجع البحارة انتشار ظاهرة المد الأحمر إلى التدهور البيئي الخطر بالجهة ويتهمون محطات التطهير بالتسبب في ذلك عبر سكب أطنان من المياه الصناعية ومياه التطهير المستعملة في عرض البحر.
محطات التطهير
في منطقة لمطة الساحلية وعلى الشاطئ كان اللون الأحمر ظاهراً للعيان على رغم تراجع حدته بعد أربعة أيام من انتشار الظاهرة هناك، استقبلتنا الروائح الكريهة المنبعثة من المكان وانتشرت الطحالب الميتة وبعض الأسماك الصغيرة النافقة والسلطعون المعروف عند البحارة بـ"داعش البحر" مع فضلات بلاستيكية وبقايا فضلات منزلية.
هناك كان زياد بن علي الناشط البيئي وأحد أعضاء منظمات المجتمع المدني بالمنستير، يوثق المشهد عبر هاتفه الجوال ويقول إنه يحاول لفت السلطات والجهات المعنية لخطورة الوضع وحثها على التدخل. ويضيف زياد "يجب علينا جميعاً أن نطلق صيحة فزع، فالكارثة تمتد على طول خليج المنستير لتضرب المائدة النباتية ومحضنة الأسماك".
وأكد زياد أن جمعية مكافحة السرطان بالجهة أعلنت أخيراً في أحدث إحصاءات نشرتها أن كل 10 وفيات مسجلة بالمنطقة ثمانٍ منها كانت بسبب السرطان الناجم عن التلوث الذي تعرفه المنطقة.
اتصلنا بالناشط في المجتمع المدني والممثل عن المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية بمحافظة المنستير (منظمة غير حكومية) منير حسين، فدعانا إلى حضور اجتماع طارئ لمختلف منظمات المجتمع المدني بمقر المنظمة، لبحث سبل التعاطي مع ما وصفه بالكارثة التي حلت بالجهة، وهناك أكد في حواره مع "اندبندنت عربية"، أن "ما يحدث في خليج المنستير هو كارثة بيئية مكتملة الأركان، وأنهم كمجتمع مدني يطالبون بإعلان حال طوارئ بيئية تنهي معاناة الخليج، وتضع حداً لتدمير المنظومات البيئية والإنتاجية والصحية".
منير حسين أضاف أن "ما حدث يعيد بقوة، الجدل حول المشكلات البيئية في خليج المنستير ومعظم السواحل الملوثة في تونس، فما حدث ليس وليد ظروف آنية بل تواصل للكوارث التي تشهدها المنطقة منذ عام 1994، إذ سُجل قرابة 18 كارثة بيئية منذ ذلك التاريخ إلى حدود هذا العام".
وخلال الاجتماع أكد ممثل المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية أن ما حدث في خليج المنستير يعود بالأساس إلى التلوث الذي تتسبب فيه ثلاث محطات تطهير تلقي بفضلاتها في البحر (محطة الفرينة ومحطة صيادة لمطة بوحجر ومحطة جمال) وهي محطات منتهية الصلاحية ولم تعد لها فاعلية، وتتلقى كميات كبيرة من المياه تفوق قدرتها على المعالجة.
وبلغة الأرقام قال حسين إن محطة التطهير لمطة صيادة بوحجر هي ذات طاقة يومية تقدر بـ1680 متراً مكعباً فقط يصلها حالياً 12 ألف متر مكعب في اليوم ومعدل يومي سنوي في حدود 8 آلاف متر مكعب باعتراف ديوان التطهير الحكومي، أما محطة تطهير الفرينة فقدرتها لا تتجاوز 13500 ويصلها نحو 30 ألف متر مكعب يومياً.
مصدر ثانٍ للتلوث هو المصانع المنتصبة بالجهة التي تعمل في معالجة المواد المستعملة في قطاع النسيج وغسل "الجينز"، وتستعمل كميات ضخمة من المياه وتلقي بها في قنوات التطهير أو مباشرة في الأوساط المائية، وهذه المصانع من المفترض احتواؤها على محطات معالجة أولية لكن بصفة عامة لا تعمل لأنها تضيف كلفة إضافية للمنتج بسبب المنافسة الشديدة من دول جنوب وشرق آسيا.
وتشير معطيات اقتصادية إلى أن تونس تحتل المرتبة الرابعة عالمياً في تصدير سراويل "الجينز"، إذ تصدر سنوياً 18 مليون قطعة، تستحوذ منها المنستير وحدها على 11 مليون قطعة، علماً أن كل قطعة "جينز" تستهلك 70 متراً مكعباً من المياه لمعالجتها، تُسكب في الشواطئ التونسية.
بلاغ تحذيري
منذ انتشار الظاهرة أصدرت وزارة الفلاحة والموارد المائية والصيد البحري بلاغاً تحذيرياً دعت فيه جميع البحارة والمتساكنين بمنطقة خليج المنستير بتوخي أقصى درجات الحذر، وتفادي صيد أو استهلاك أو ترويج الأسماك النافقة أو مجهولة المصدر، بخاصة تلك التي تُروج خارج مسالك التوزيع الرسمية وغير الخاضعة للمراقبة البيطرية، وشددت الوزارة على خطورة استهلاك منتجات بحرية قد تكون ملوثة نتيجة هذه الظاهرة الطبيعية، لما قد تسببه من أضرار صحية جسيمة على المستهلكين، داعية إلى التزام المسالك القانونية التي تضمن الرقابة والسلامة الغذائية.
وأكدت الوزارة أن "المد الأحمر" هو ظاهرة طبيعية ناتجة من تكاثر مفرط لأنواع معينة من الطحالب الدقيقة، التي يمكن أن تفرز مواد سامة تؤثر سلباً في الثروة السمكية وفي صحة الإنسان عند استهلاك الكائنات البحرية المصابة، مضيفة أنها ستوافي الرأي العام بمزيد من التفاصيل حال استكمال التحاليل والتثبت من نتائج.
من جهتها دعت الهيئة الوطنية للسلامة الصحية للمنتجات الغذائية سكان المناطق الساحلية وعموم المواطنين إلى عدم استهلاك الأسماك النافقة لخطورتها على الصحة والاقتصار على اقتناء الأسماك من نقاط البيع المنتصبة بصفة قانونية، وذلك إثر تسجيل ظاهرة المد الأحمر بسواحل ولاية المنستير.
أما الباحث في المجال البيئي حمدي حشاد فأكد أن "تحسن حركة التيارات البحرية في الجهة أدى دوراً أساساً في تفتيت كتل الطحالب ومنع تراكمها، إلى جانب تسجيل زيادة نسبية في نسبة الأوكسجين الذائب نتيجة تحسن التهوية الطبيعية للمياه السطحية، فضلاً عن استقرار درجات حرارة الطبقة العليا من البحر، وهو ما أسهم في كبح الظروف الملائمة لنمو الطحالب السامة".
وأوضح الباحث البيئي أن الأهم من تقلص المساحة هو ظهور مؤشرات إلى عودة موقتة لتوازن إيكولوجي هش، مما يعكس إمكان تحسن نسبي للمنظومة البيئية في المنطقة، لكنه حذر في المقابل من الإفراط في التفاؤل، مشيراً إلى أن الوضع البيئي في سواحل المنستير يبقى دقيقاً ويستوجب مراقبة علمية متواصلة، خصوصاً في ظل غياب المعالجة الجذرية لمصادر التلوث المتعددة من صرف منزلي وزراعي وصناعي، التي تبقى السبب الرئيس في ظهور الطحالب الضارة.
وبحسب تقرير صادر في مارس (آذار) 2024 عن المعهد التونسي للقدرة التنافسية والدراسات الكمية تحتل تونس المرتبة الخامسة بين الدول الأكثر عرضة في العالم لخطر الجفاف وندرة المياه، فالتغيرات المناخية باتت ملامحها واضحة في بلد على ضفة المتوسط وهو المنطقة الأكثر حساسية لهذه التغيرات التي تعرفها الكرة الأرضية.
ويعرف حوض البحر الأبيض المتوسط ارتفاعاً في درجات الحرارة أكثر بـ20 في المئة من المتوسط العالمي، وهو ما يجعله عرضة للتغيرات المناخية التي تهدد البيئة والاقتصاد.