ملخص
تقوم رواية "شبح عبدالله بن المبارك" على تناظر بين حكاية تراثية، وأخرى حديثة، في محاولة لاستنطاق الماضي لفهم الحاضر.
يحيل عنوان رواية "شبح عبدالله بن المبارك" للروائي المصري ماجد شيحة (دار الشروق)، والفائزة بجائزة معرض القاهرة الدولي للكتاب في دورته الأخيرة، إلى حكاية تراثية أوردها ابن كثير في "البداية والنهاية"، عن ابن المبارك الذي خرج إلى الحج، فصادف أرملة تلتقط دجاجة ميتة لتطعم أبناءها الأيتام، فآثرها بمال الحج، وعاد لبيته.
لا تشكل هذه الحكاية التي يرددها الوعاظ من دون سند، متن الرواية، بل ترد كهاجس يؤرق أستاذ الفيزياء - الشخصية المحورية التي تظل بلا اسم طوال الرواية - الذي يعاني صدمة نفسية عميقة إثر اكتشافه خيانة زوجته. وفي لحظة متأزمة، يسلم الأستاذ هاتف زوجته الذي يحتوي على دليل الخيانة إلى تلميذ سابق له ويحمله عبء الأمانة، ووصية ألا يفتح محتواه إلا بعد التأكد من وفاته، ثم يختفي تماماً. ويدفع التداخل بين حكاية عبدالله بن المبارك وقصة الأستاذ الجامعي، القارئ إلى التساؤل عن الرابط الخفي بينهما، وهو تساؤل يطرحه السارد (التلميذ) بدوره على أستاذه، فيقول: "سألته عن علاقة حكاية عبدالله بن المبارك بحكايته هو، فأجابني "أن لا علاقة، وهو نقاش أراد أن ينهيه قبل أن يسافر".
غير أن هذا الجواب لا يخفي الانشغال العميق للأستاذ بتلك الحكاية، ولا يعطي تفسيراً لربط المؤلف بين حكاية تراثية وأخرى معاصرة، خصوصاً وأن الرواية - 212 صفحة - لا تقدم أحداثاً بقدر ما تقدم أفكاراً فلسفية وتحليلات نفسية. لا ترسم صورة واضحة التفاصيل عن الأستاذ الذي اختفى، فلا تذكر اسمه ولا أسباب الخلاف بينه وبين زوجته، التي دفعته إلى خيانتها، وردها هي الأخرى بالخيانة. تمنحنا الرواية فقط خطوطاً عريضة عن أستاذ في كلية الهندسة، من أصل ريفي، تزوج من ابنة قاض قبل أن يتعرض لأزمة نفسية دفعته إلى ارتياد المسجد، لمناقشة حكاية عبدالله بن المبارك ومحاولة هدمها. والتلميذ نفسه لا تقدم الرواية تفاصيل عنه، أو عن عمله، سوى أنه متدين، مما يكشف عن أن هذا العمل غير منشغل بالحكاية، قدر انشغاله بتفلسف في سياق روائي.
قلق وجودي
ومن هذا المنطلق يمكن القول إن الرواية تجري مقارنة رمزية بين زمنين، زمن الطمأنينة الروحية واليقين، مجسداً في شخصية عبدالله بن المبارك، وزمن القلق الوجودي والتشظي الأخلاقي، الذي يتمثل في شخصية التلميذ. تجري مقارنة بين موقفين أخلاقيين، ففي مقابل يقين ابن المبارك الذي جعله يؤثر أرملة فقيرة على فريضة الحج، يقف التلميذ أمام موقف معقد أخلاقياً ونفسياً، يحمل في يده دليل فضيحة أخلاقية، لكنه لا يعرف ما إذا كان عليه أن يتكتم على الأمر وفق وصية أستاذه له، أم أن عليه ستره باعتبار أن الدين يحثه على ذلك. المعضلة هنا ليست في الفعل، بل في تعدد الوجوه وتضارب المرجعيات التي تدفع التلميذ للتشكك في موقفه.
يعبر التلميذ عن تمزقه في فقرة مكثفة يفسر فيها السبب الذي دفعه لاختيار الالتزام الحرفي بحفظ الأمانة: "جزء من طمأنينتي عائد لأن الأحكام الفقهية ليست قائمة على التفاصيل، بل على المواقف المجردة. خيانة الوصية لا تجوز، هذا هو موقفي المجرد. ولكن من قال إن خصومي لا يملكون مواقف مجردة بدورهم أكثر قوة من موقفي؟ هل يجوز الاحتفاظ بما يشين امرأة؟ هل يجوز للزوج أن يشارك رجلاً غريباً مخازي زوجته؟ وهكذا: هو موقف زوجة الأستاذ المجرد" ص176.
هنا يتقاطع القانوني مع الإنساني، والشرعي مع الأخلاقي، والواجب مع التعاطف، لتصبح الرواية ساحة مواجهة بين منظومتين من القيم، الأولى تصل إلى جوهر الدين ومقاصده والثانية معنية بالصورة الخارجية.
قصتان متوازيتان
في هذه الرواية يجد القارئ نفسه أمام قصتين متوازيتين تبنى عليهما البنية الرمزية الكلية للعمل: الزوجة الأرملة التي جمعت الجيفة من القمامة، في مقابل الزوجة التي اختفى زوجها، والجيفة نفسها يقابلها الهاتف الذي يحمل جريمة الخيانة، والشبح في القصتين هو شبح عبدالله بن المبارك في مقابل شبح الأستاذ الجامعي، أما عبدالله بن المبارك فيقابله التلميذ، فكلاهما وضع في اختبار أخلاقي يمس كرامة امرأة: ابن المبارك اختار أن ينقذ الأرملة من أكل الميتة وفضل كرامة الإنسان على أداء الفريضة، فنجح في الاختبار، بينما التلميذ فضل التزامه الحرفي بالأمانة واحتفظ بما يفضح زوجة أستاذه، ففشل في امتحان القيمة العليا. وحين حاول تصحيح خطئه بعد سنوات، رفضت الزوجة استلام الهاتف، وكأنها تعلن فشله في الاختبار. فيتساءل التلميذ، ساخراً من مثاليته المفرطة أو لنقل من تدينه الظاهري، بعدما أدرك المغزى من القصة: "لماذا أشعر أن مثاليتي تحك أنفها وتسخر مني، أتكون المثالية الزائدة على الحد في أحد وجوهها عقداً مع الشيطان؟» ص208.
هنا يدرك البطل فشله في حمل الأمانة، ويرى أن الالتزام الحرفي بالنص لا يحمي الإنسان من الوقوع في حبائل الشيطان، ومن ثم تنكشف الهوة بين الالتزام الظاهري بالشريعة وبين تفعيل مقاصدها، وتتحول الرواية إلى حوار بين ظاهر الشريعة وروحها، وبين السلوك الخارجي والقيمة الأخلاقية الكامنة فيه. أي أننا بصدد بحث في أسباب اختفاء البوصلة الأخلاقية، ومحاولة يائسة لاستعادتها وسط ضجيج جماعات ومجتمعات تعلي من شأن المظهر على حساب الجوهر، وتفضل الطقوس على حساب القيم التي شرعت لأجلها.
بين منزلتين
وانعكست المزاوجة بين الماضي والحاضر، على اللغة السردية في الرواية التي حملت أبعاداً تجمع بين التراث والحداثة، بين عالم الفيزياء الذي يجسد عصر العلم، والتلميذ المواظب على إقامة الشعائر في المسجد الذي يجسد مظهراً من مظاهر التدين الشكلي. هذا التفاعل أنتج سرداً يربط بين خوارق الماضي ومعضلات الحاضر، إذ يمتلك كل زمن أساطيره: سواء تلك الدينية، كـ"شبح عبدالله بن المبارك" الوارد من كتب التراث، أو العلمية كمعضلات "فيزياء الكم" التي تقول إن الجسيم يمكن أن يوجد في أكثر من حالة في الوقت نفسه (تراكب)، لكنه بمجرد أن تتم ملاحظته أو قياسه، ينحصر في حالة واحدة فقط، أي أن إمكانية التشظي والانقسام قائمة ليست في المروية التاريخية وإنما أيضاً في العلم الحديث.
ومن هذه الناحية تسعى الرواية إلى فهم الأسطورة القديمة لشخص يكون في مكانين في وقت واحد، في ضوء علم الفيزياء الحديث كما يتجلى في الحوار التالي بين الأستاذ وتلميذه: "- تريد أن تقول إن فيزياء الكم تقف في صف حكايات الصوفية عن الولي الذي يمكن أن يوجد في مكانين مختلفين في وقت واحد؟ - ما يقوله الصوفيون مختلف عما استنتجه، هذا الازدواج يحدث بلا نية، من دون أن يقصد فاعله ومن دون أن يشعر به. – أي أن الإنسان قد يعبد الله أو يعصيه، يصلي ويصوم، يقتل ويزني، من دون أن يدري" ص187.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولا تقتصر مرجعيات الرواية الفلسفية على الفلسفة المعاصر القاضية بتشظي الإنسان وازدواجه في عالم ما بعد حداثي، بل تمتد كذلك إلى الفلسفة الإسلامية، وخصوصاً عند المعتزلة، من خلال استدعاء مفهوم "المنزلة بين المنزلتين". ففي نهاية الرواية، وبعد رحلة مضنية من التأملات الفلسفية والشكوك الوجودية، يصف السارد حالته الفكرية والروحية بالقول: «أنا الساقط في منزلة بين منزلتين، بين العوام والخواص، فلا أنا أدركت الطمأنينة، ولا تمتعت بالهيولي، وتلك مأساة المحايد» ص211.
اعتراف صريح بالوقوع في منطقة رمادية، إذ لا يملك السارد يقين العامة ولا صفاء الخاصة، فلا هو من أهل الطمأنينة ولا من أصحاب التجلي، بل هو في مأساة "الحياد القاتل"، وهي المأساة الوجودية التي تسكن الإنسان المعاصر الحائر بين الإيمان والشك، بين النص ومقاصده، بين الالتزام الحرفي والوعي الأخلاقي.
فلسفة اللغة
كما تناقش الرواية قضايا متعلقة بفلسفة اللغة في صورة قريبة لما طرحه الفيلسوف النمسوي لودفيغ فتغنشتاين (1889- 1951م) حول «ألعاب اللغة»، إذ يبين كيف أن اللغة في حياتنا اليومية لا تقتصر على المعنى المباشر للكلمات، بل تتجاوزها إلى أن نطرح سؤالاً وننتظر إجابة لا تعبر بالضرورة عن نفس السؤال، وكيف أن ما نعنيه غالباً ما يتجاوز ما نقوله لفظياً.
وفي ما يتعلق باللغة التي كتبت بها الرواية، استخدم الكاتب تعبيرات مستمدة من معجم القرآن الكريم، والحديث الشريف، وكتب التراث، ومن هذه التعبيرات: «في منطقة برزخية»، «تناقشنا بصوت عال يعززانه بثالث»، «بئر معطلة وقصر مشيد»، «كأن هذه المرأة أمهرت عقداً مع الفتنة بالربا»، «لم ينسفه في اليوم ولم يذروه في الرياح»، «الحب يطرد الإحسان بالذنب والمعاناة كما يطرد الكير خبث الحديد»، و«لا ينفذ الباطل من بين يديه ولا من خلفه».
عبارات تفتح المجال أمام قراءة متعددة الطبقات للنص، وتبرز الترابط بين الفكر التراثي واللغوي الحديث، كما تكشف عن قدرة اللغة على حمل معان متشابكة ومتداخلة بين الروحاني والفلسفي.