Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

تراشق طبقي في مصر على أثير "البوركيني الأسود"

بحلول الصيف يحدث انقساماً بين مؤيد ورافض ورافعي شعار "دع الخلق للخالق"

جرت العادة الصيفية على انقسام المصريين والمصريات فريقين رئيسين بين مؤيد ورافض للبوركيني (أ ف ب)

ملخص

جرت العادة الصيفية على انقسام المصريين والمصريات فريقين رئيسين في ما يختص بالبوركيني الأول متدين ملتزم داعم له والثاني منفتح متحرر رافض وبينهما فريق ثالث مندثر معرض للانقراض هو "دع الخلق للخالق".

 

"طقم سباحة للنساء بتصميم إسلامي محتشم بأكمام طويلة وغطاء كامل وحجاب، فقط 120 درهماً إماراتياً (32 دولاراً أميركياً)" "ملابس سباحة إسلامية تركية تناسب جميع الأذواق فقط 35 دولاراً أميركياً" "صفية سيكريت (على وزن فيكتوريا سيكريت) لملابس السباحة المحتشمة خمس قطع فقط 950 جنيهاً مصرياً (31 دولاراً)" "خصم خاص على لباس البحر الواقي من الشمس للجسم كله فقط 180 ريالاً سعودياً (48 دولاراً)".

الإعلانات لا تتوقف والعروض لا تنتهي وحركة البيع والشراء لا تهدأ... إنه موسم الصيف وحركة الذهاب والإياب من البحر والمسبح وإليهما في أوجها. والمتابع لهذه الحركة السنوية يعرف أن الأوج لم يعد مقتصراً على درجات الحرارة ومعدلات الرطوبة، بل امتد ليصل إلى درجات الصراع ومعدلات الاحتقان.

دوام الحال من المحال

ولأن دوام الحال من المحال، ولأن مصادر الشد ومنابع الجذب تجنح أحياناً إلى تجديد نفسها بنفسها لو استشعرت خطر الانقراض أو تكهنت بتهديد الاختفاء، فقد انتقل صراع "البوركيني" من مرحلة "يكون أو لا يكون" (شكسبير) إلى حقبة "الصراع الطبقي المؤدي بالضرورة إلى ديكتاتورية البروليتاريا" (كارل ماركس) وفي أقوال أخرى "لا بديل عن الصراع الطبقي" (فاياشسلاف مولوتوف)، وأخيراً حط "البوركيني" رحاله هذا الصيف في معركة بين "الرأسمالية المتوحشة" برفاهها وثرائها وجودة مكوناتها وتنوع اختياراتها وتعدد ألوانها في مقابل قاعدة عريضة من لا تملك من الإمكانات إلا القليل أو تصبو إلى اختيارات إلا في أضيق الحدود أو حتى تمتلك من الألوان إلا الأسود على أحسن تقدير.

تقدير الموقف الخاص بموقعة "البوركيني" المتكررة سنوياً منذ خرج هذا الاختراع الذي منح النساء الراغبات في نزول البحر أو المسابح مرتديات شيئاً ما، لا هو "بالمايوه" التقليدي الذي يكشف عن كثير من الجسم ولا هو بالجلباب الذي يعتبره البعض غير لائق في الأماكن العامة، أو الملابس العادية التي تتحول إلى "باراشوت" منفوخ ما إن تبتل بالماء، لم يأخذ في الحسبان هذا العام بعداً طبقياً لا يخلو من مكون أيديولوجي في موقعته الصيفية المتوقعة.

براكين البرقع والبيكيني

حين تفتق ذهن الأسترالية من أصل لبناني عاهدة زناتي في عام 2006 عن ملابس سباحة نسائية تخفي معالم الجسم تماماً بغرض إتاحة الفرصة للنساء والفتيات الراغبات في ممارسة السباحة في أماكن عامة دون ارتداء "المايوه" التقليدي لم تكن تدري على الأرجح أن جمعها بين "البرقع" و"البيكيني" في "بوركيني" سيحول صيف مصر القائظ أصلاً إلى نيران جدلية وحمم بركانية خلافية.

في مثل هذا الوقت من كل عام، على مدى نحو عقد كامل، وتحديداً منذ عرف "البوركيني" طريقه إلى مصر، ومنصات "السوشيال ميديا" تتحول براكين متقدة بسببه. جرت العادة الصيفية أن يشتغل "فيسبوك" ويحترق "تويتر" ويوشك "إنستغرام" على الانفجار و"تيك توك" يمضي في طريق الآثام بينما تظل جهود الإبقاء على الحرب بين داعمي "البوركيني" وكارهيه متقدة مشتعلة حتى نهاية الصيف.

مؤمن ومتحرر

كما جرت العادة الصيفية على انقسام المصريين والمصريات فريقين رئيسين، الأول مؤمن متدين ملتزم متزن يرفع راية الإسلام ويلوح بأعلام الإيمان (بحسب ما يقول)، والثاني منفتح متحرر عقلاني ناقد رافض لثقافة القطيع مناقش لمفاهيم "آمين" المتناقلة والمتوارثة من دون تكفير أو تدبير (بحسب ما يعلن عن نفسه). ويبقى فريق ثالث مندثر معرض للانقراض هو فريق "دع الخلق للخالق" أو بمعنى آخر المؤمن بأن الملابس حرية شخصية والمظهر مسألة لا تهم سوى صاحبها.

الفريق الأول هو الداعم "للبوركيني" الذي عادة يجنح إلى دفاع هجومي قوامه "الرافضون للبوركيني هم المدافعون عن العري والفجور والفسوق بالضرورة". والثاني هو الرافض "للبوركيني" باعتباره "ضمن جهود شيطنة المرأة وجسمها واختزال الدين في القماش واعتبار جلباب البحر (البوركيني) خطوة على طريق أفغنة (من أفغانستان) المجتمعات".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

عودة الفريقين

في كل عام على مدى أعوام كثيرة مضت، يعود الفريقان إلى الحلبة، يتصارعان ويتخانقان وتظهر فتاة تولول مرة لأنها منعت من نزول المسبح لأنها حافظة لدينها حامية لجسدها، لتخرج أخرى منتحبة على تعرضها للقيل والقال ودعوتها للهداية ونعتها بـ"الفاسقة" ووصف أبيها وأخيها وزوجها وابنها بـ"الديوث" لأنها ذهبت إلى البحر بملابس البحر "العادية".

وتنطلق جولات المصارعة وسط تشجيع الجماهير الغفيرة، كل يدعم فريقه بطريقته. وتتبنى برامج "التوك شو" المسائية المباراة رافعة هي الأخرى شعار "يا بخت من نفع واستنفع" وهو ما يترجم بلغة "السوشيال ميديا" الانتفاع بالترند المحتدم.

هذا العام ليس استثناءً على الحلبة، وغزوة "البوركيني" لم تخلف موعدها أو تتخلف عن حضورها الزاعق، وكان الحضور متفرداً غير متوقع.

آثار المحشي

"البوركيني" لم يكتف هذا العام بالتسلل إلى ربوع الشواطئ المصرية ما قرب منها وما بعد، كما لم يقف عند حدود المحجبات وحتى المسلمات، بل أصبح اختياراً لكثيرات من غير المحجبات والبعض من غير المسلمات.

وبعيداً من الأسباب التي تتراوح بين البحث عن الراحة بعيداً من الأعين المتلصصة وما أكثرها، وحماية الجسم من حروق الشمس، وربما إخفاء آثار المحشي والمسقعة والكشري وغيرها من الأكلات المصرية، فإن البعض ظن خطأ انتهاء جدليات "البوركيني" إلى غير رجعة.

لكنه رجع بفعل أو بفضل أحد أبرز الأسماء التي ارتبطت بفكرة نقل "البوركيني" من حيز ملابس البحر المحتشمة لكن الدميمة بالضرورة، أو تلك التي تؤدي الغرض من دون النظر إلى التفاصيل الدقيقة الصغيرة التي تهم الإناث عموماً إلى فضاءات "البوركيني الـWow" أو اللافت للأنظار بجمال الألوان وجودة القماش وتفرد الموديلات وعدم وجود توائم لها على أرصفة الأسواق أو واجهات محلات "وكالة البلح والموسكي والعتبة" (الأسواق الشعبية).

"بوركيني هادية"

هادية غالب و"البوركيني" أو بوركيني هادية غالب صارا وجهين لمنظومة واحدة، منذ أطلت الفاشونيستا أو مصممة الأزياء أو خبيرة التسويق الرقمي المصرية هادية غالب من شركتها المتخصصة في التسويق لتصمم "بوركيني" لـ"بنات الذوات" كما يقول البعض في مصر.

بنات الذوات هن النساء والفتيات القادرات مادياً على شراء "بوركيني" هادية غالب. ففي الوقت الذي كان يمكن شراء "بوركيني" من "وكالة البلح" أو "الموسكي" بـ150 جنيهاً مصرياً (خمسة دولارات) قبل نحو خمس سنوات كان أقل سعر لـ"بوركيني" هادية غالب نحو ألفي جنيه مصري (65 دولاراً).

غالب دائماً تتحدث في لقاءاتها الإعلامية عن سبب الوحي، وحي "بوركيني هادية". تقول "كان في إمكاني البدء بمنتجات أخرى ذات شعبية أكبر، لكن فكرت أن نجاحي بتسليط الضوء على هذه الموضة سيسهم في حل مشكلة البوركيني الذي ينظر إليه كملابس غير راقية ومرفوضة، بالتالي أتمكن من المساعدة في حل مشكلة التمييز ضد النساء المحجبات والبوركيني".

لا للقبح

بمعنى آخر، تدخلت غالب بتصميماتها المختلفة وخاماتها الجيدة وخطوطها المتفردة لتنفي عن "البوركيني" صفة القبح التي اكتسبها، إضافة إلى ارتباطه النمطي بفئات اجتماعية أدنى في الهرم الطبقي.

هذا العام تتوجه غزوة "البوركيني" الموسمية إلى الهرم الطبقي مباشرة، إذ يتوارى الفريقان الرئيسان مع "البوركيني" وضده، ويبزغ فريقان جديدان على الحلبة (فقراء البوركيني وأثريائه). والسبب هو خروج غالب قبل أيام لتنعت "البوركيني الأسود" - أي بوركيني أسود وهو الأكثر انتشاراً بشكل عام - "سيئ عادة" مرة و"اللي هو مش حلو قوي" مرة.

هنا تفجرت ينابيع الغضب الطبقي وبراكين الحنق الشعبي وسمعت غالب وقرأت ومعها ملايين المتابعين على منصات "السوشيال ميديا" سخرية جماعية مما قالته، ورفضاً نسائياً جامحاً من مرتديات "البوركيني الأسود" لنعت لباس البحر الوحيد المتاح لهن بـ"اللي مش حلو قوي"، ناهيك بتنظيرات سوسيولوجية واقتصادية ونفسية تفند أبعاد "البوركيني" الأسود الشعبي الأكثر انتشاراً و"بوركيني هادية" الملون الأكثر جاذبية والأعلى سعراً.

سعر "البوركيني" والأزمة

أسعار "بوركيني هادية" والتي تتراوح بين أربعة وثمانية آلاف جنيه مصري (130 و260 دولاراً)، هي محور الشد والجذب هذا العام. وعلى رغم أن موديلات غالب تحتفظ لنفسها بمكانة الصدارة من حيث الأسعار المرتفعة منذ خرجت بإنتاجها إلى النور قبل أعوام، فإن تشابك أبعاد الأزمة الاقتصادية الطاحنة في مصر والتي نالت من كل الطبقات، لا سيما المتوسطة وما دونها، مع حديث غالب عن "البوركيني الأسود اللي مش حلو قوي" نجم عنه فورة هائجة.

"البوركيني الأسود" قابع في صدارة ترند "تويتر" و"البوركيني اللي مش حلو قوي" هاشتاغ متداول تداولاً محموماً. وعرفت غالب والبوركيني طريقهما إلى عالم "الميمز" القاسي. "هادية غالب رئيسة مجلس إدارة مايوهات البحر" مع علامة "خطر الموت، ممنوع الاقتراب" على بوركيني أسود. صورة قطة بائسة والدموع في عينيها مع تعليق "أنا حين أطلب من أمي شراء بوركيني هادية غالب، فتسألني كم معك من سعره؟" وإعلان (متخيل) لفتاة تعلن عن بيع كليتها في مقابل بوركيني هادية غالب، والجدل الساخر يستعر.

تراشق اقتصادي

سعر القطعة الواحدة من خط إنتاج غالب يساوي راتب شهر كامل لموظف بسيط، وهو الراتب الذي غالباً لا يكفي لإعاشته وأسرته لا سيما في ظل الأوضاع الاقتصادية بالغة الصعوبة الحالية. وربما هذا ما دفع بالجدل على "البوركيني" حالياً صوب التراشق بين فريق يطالب غالب بمراعاة مشاعر القاعدة العريضة من الشعب والغالبية الساحقة من المصطافين في "الساحل الطيب"، حيث الطبقات التي تقطن منتصف الهرم الاجتماعي والتفكير في ما تقول قبل النطق به، حيث "البوركيني الأسود اللي مش حلو قوي" هو غاية المنى وكل المستطاع.

والفريق الآخر ينعت الفريق الأول بالمبالغة والتمسح بفئة المصطافين من الأصل، لا سيما أن الأحوال الاقتصادية تجعل من المصيف هذا العام فكرة في مهب التضخم والأسعار الملتهبة. أما الفريق الثالث المندثر المتقزم المتقوقع، فهو الفريق الباحث عن "بوركيني هادية" للانتقاء والاقتناء، وهو يلتزم الصمت، حيث معركة البوركيني هذا العام ليست معركته، إنها معركة البروليتاريا حيث الطبقة العاملة التي لا تملك سوى عملها.

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات