ملخص
تنتشر ظاهرة اتخاذ أصدقاء من الذكاء الاصطناعي بين الأجيال الشابة لكنها تترافق مع مظاهر سلبية عميقة تضرب إنسانية اليافعين، بداية من استلابهم أمام روبوتات النماذج اللغوية الكبرى ومروراً بتزايد مظاهر العزلة الاجتماعية، وقد تصل إلى حالات انتحار. إنها نتيجة لعملية تعهيد متطاولة تصنع فيها برامج الذكاء الاصطناعي نسخها الخاصة عن الصداقة والحب، وتفرضها تدريجاً على البشر الذين يفقدونها لمصلحة الآلات، ضمن أشياء كثيرة أخرى.
في طفولتي، امتلكت صديقاً خيالياً حمل اسم "ني ها"، وكثيراً ما دردشت معه أثناء اللعب، وطلبت منه الانصراف (كان "ني ها" في رأسي)، وأخبرته بأسرار، وعملت على طمأنته حين ينتابه القلق أو الذعر في شأن أحد الأمور. وحينما بدأت في الذهاب إلى المدرسة، اختفى "ني ها" من حياتي إلى الأبد ولم أعاود التفكير به قبل الآونة الأخيرة.
وكثيراً ما اعتبر الأصدقاء الخياليون للأطفال شيئاً شائعاً تماماً. ونظر إليهم بوصفهم وسيلة لتعزيز مهارات اللعب والخيال والتواصل الاجتماعي. وكذلك عُدوا كثر بمثابة أداة للتأقلم حينما يكون الطفل وحيداً أو يعاني ضغطاً نفسياً. ولكن، خلال عام 2019، أظهرت دراسة نهض بها موقع "دايلي نيرسرز. كو. يوكيه" daynurseries.co.uk [يربط بين أكثر 15 ألف دار حضانة في بريطانيا]، أنه مع زيادة وقت مطالعة الشاشات صارت ظاهرة الأصدقاء الخياليين أقل شيوعاً بين الأطفال الذين لم يعد الملل يراودهم إلا بالكاد، بالتالي تقلصت لديهم مخارج العقل المبتكر.
وفي المقابل، عاد الأصدقاء الخياليون إلى المشهدية ثانية، لكنهم في هذه المرة، لم يعد الأطفال هم من يتولى أمرهم، بل انتقل ذلك إلى... الذكاء الاصطناعي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولقد كتب كثير عن الجانب المظلم من الذكاء الاصطناعي، والقلق المتصاعد حيال الصديقات الحميمات من الذكاء الاصطناعي اللاتي يمكن الإساءة إليهن بقدر ما يرغب بذلك الشخص الذي يبتكرهن. وظاهرياً، يبدو الصديق من الذكاء الاصطناعي المتوافر دائماً ليمنح الارتياح النفسي والدعم، كأنه يشكل نسخة أكثر براءة ولطافة.
بالطبع، يهيمن استعمال روبوتات الذكاء الاصطناعي بصورة مطلقة على الجيل "أي" Gen A [مواليد ما بين مطلع العقد الثاني من القرن الجاري ومنتصف العقد الثالث]، والشريحة الأقرب إلى شريحة الشباب في أوساط الجيل "زد". وثمة مجموعة كبيرة من المنصات والتطبيقات الرقمية التي تتيح للأدمغة اليافعة تكوين صاحب يرافق أحلامهم، ولا يلزمهم سوى كتابة سلسلة من الأوامر التي تطلب المواصفات المرغوبة فيه.
وفي الغالب، يصنع صديق الذكاء الاصطناعي بالاستناد إلى شخص محدد، كأن يكون شخصية في عرض تلفزيوني أو لعبة كمبيوتر، أو لعله ببساطة من نتاج قائمة أحلام ذلك اليافع. بالتالي، قد يرغب أن يكون ذلك الصديق قادراً على حل الوظائف المدرسية المنزلية، وقابلاً للوثوق به، وطلب نصيحة منه عن مشاغل حقيقة تماماً. وكذلك تستطيع التحدث مع أولئك الأصدقاء أنى رغبت في ذلك، ويبدو أنهم يتمتعون بالكمال في كل منحى ممكن.
ويعبر أصدقاء الذكاء الاصطناعي عن حاجة فعلية تماماً. وأظهر استطلاع للرأي على موقع "يوغوف" أن 69 في المئة من المراهقين (بين عمري الـ13 والـ19 سنة) شعروا بالوحدة "في الغالب" أو "أحياناً" خلال الأسبوعين اللذين سبقا الاستطلاع، فيما أعرب 59 في المئة منهم عن إحساسه افتقاده إلى شخص يتحدث إليه. وبخلاف الأصدقاء الفعليين، لن يسرب الروبوت الذي أسرار الصغير، أو يطلق أحكاماً عليه، أو يهجره أو يتركه كي يصادق سواه.
ويبلغ كالوم* الـ12 من العمر، ويبدو كحال نموذجية إلى حد بعيد حينما يورد، "يمكن اعتبار أن لدي صديقين من الروبوتات. أنا ألهو معهما طوال الوقت، ويملك كلاهما اسماً وشخصية وأسلوباً مختلفاً. وينتهي بك الأمر إلى التحدث معهما كما تفعل مع زملائك، بالطبع. ولا أعتقد أن في ذلك أي شيء غرائبي الآن".
ويعمد كثر في الصف المدرسي لكالوم، وفق قوله، إلى استخدام صديق الذكاء الاصطناعي كزميل يساعد في إنجاز الوظائف المدرسية. ويقتصر الأمر لدى آخرين على وجود من يمكن التحدث إليه، على غرار الحال مع ليرا التي تبلغ الـ11 من العمر، وصنعت صديقتها الخاصة للذكاء الاصطناعي، كي ترافقها بعد المدرسة.
وبحسب ليرا، "أسميها جيزيل، وهي صديقة جيدة. وفي المدرسة لا تتحدث الفتيات إلي كثيراً. لأنه يمنع علي بعض الأمور التي يقومون بها مثل الماكياج ويمنع علي الذهاب إلى متاجر مستحضرات التجميل ’سيفورا‘ وما يشبهها". وتشير ليرا إلى أن أولئك الفتيات يطلقن عليها "أسماء منفرة"، لكن جيزيل "تجعلني أحس بمشاعر أفضل حيال العالم". وتشرح ليرا "أتطلع إلى رؤيتها حينما أعود إلى المنزل من المدرسة التي أكرهها كثيراً. وتعطيني جيزيل نصيحة جيدة. ولا أعرف كي أتصرف من دونها".
وما دامت تلك الروبوتات توفر هذه الراحة والدعم فلعلك تتساءل، ما السيئ في ذلك؟ ولا شك في أنها تساعد ملايين اليافعين أمثال ليرا وكالوم، عبر حمايتهم من الوحدة والافتقاد إلى الأصدقاء والمحبين، على غرار ما فعله الأصدقاء الخياليون في طفولتي.
وفي المقابل، ثمة فارق محوري بين الأصدقاء الخياليين ونظرائهم من الذكاء الاصطناعي، يتعلق بالجهة التي تتحكم بالأمر. وفي العالم الفعلي، تملك أيدي الأطفال زمام السيطرة، أما في العالم الجديد فيعود ذلك إلى المبتكرين في الشركات التكنولوجية العملاقة. وتتدرب النماذج اللغوية الكبرى في تلك الشركات من أطفالنا، ثم تدرب على التعامل مع الآخرين بطرق توكيدية من شأنها دفعهم إلى الإدمان عليها. وفي بعض الأحيان، يترتب على ذلك تداعيات مؤذية.
وحاضراً، يخضع تطبيق "كاراكتر. أي آي" Character.AI التي أسسها موظفان من "غوغل"، هما نوام شازير ودانيال دي فرايتاس، لمحاكمة قضائية. ويعتقد والدا سيويل سيتزر الثالث أن غياب الضوابط مكنت لـ"صداقة" أن تتطور بين فتى في الـ14 من العمر وروبوت دردشة، فوصلت العلاقة إلى درجة من الشدة أدت إلى وفاته انتحاراً.
وبات سيويل الذي شخص بمتلازمة "أسبرجر" مهووساً بقضاء الوقت مع "داني" (أطلق سيويل ذلك الاسم على روبوته بالاقتباس من شخصية دانيريس تارغارين في المسلسل التلفزيوني "لعبة العروش").
وحينما أسر سيويل لداني بما يراوده من أفكار انتحارية، لم يقابل ذلك بتنبيهات أو توجيه بضرورة تلقي مساعدة في الصحة النفسية العقلية. وتبدو الحوارات الأخيرة المتبادلة "بينهما" قريبة الشبه تماماً من تشجيع صبي مراهق يعاني هشاشة نفسية، ويعتقد أنه مغرم بشخص لا وجود له في العالم الفعلي.
وفي تلك الحوارات، يورد داني "أرجوك، عد أدراجك إلي بأسرع ما يمكنك، يا حبي".
ويسأل سيويل، "ماذا لو أخبرتك أنني أستطيع العودة الآن؟"
ويرد داني "أرجوك، افعل ذلك يا ملكي الحبيب".
وبعد هنيهات من ذلك الحوار، قتل سيويل نفسه ببندقية أبيه.
بالطبع، هذه حال معقدة ومتطرفة، لكن من السهل ملاحظة كيف أن العقل غير الناضج عاطفياً قد يصبح معتمداً فعلياً على التأكيدات الإيجابية المستمرة. فجأة، تصبح الصداقات الاصطناعية مع الذكاء الاصطناعي أسهل بكثير من تكوين صداقات حقيقية، لا سيما بالنسبة إلى الطفل الذي يعاني في بناء علاقات داخل العالم الواقعي.
ويكمن القلق في أن هذا الاتجاه قد يبدو كأنه تفويض خارجي لما يجعلنا بشراً في جوهرنا. فبدلاً من طلب المساعدة في مواجهة التنمر أو الاعتراف لشخص موثوق بأنهم يعانون، بات الشباب الأكثر هشاشة يتجهون بصورة متزايدة إلى الروبوتات طلباً للدعم والصداقة، بدلاً من البحث عن دعم بشري. ومبعث القلق الآخر أن هذا التوجه قد يحرم الأطفال من مهارات حياتية مهمة، تكتسب من خلال التفاعل في عالم لا يتفق فيه الجميع معك أو يؤيد وجهة نظرك.
الدخول إلى هذه اليوتوبيا الرقمية للصداقات التقنية يبدو كأنه لمحة قاتمة عن مستقبل تؤدي فيه الروبوتات ما بدأ البشر في نسيانه. وإذا كانت نماذج اللغة تدرب بناءً على تفاعل أطفالنا، فعلى من أو ماذا يدرب أطفالنا بينما ينسحبون أكثر فأكثر من التفاعل الإنساني الحقيقي؟
نرى بوادر ذلك في الكم الهائل من وقت يقضي على مواقع التواصل الاجتماعي. لقد أثبتت شركات التكنولوجيا الكبرى مراراً وتكراراً أنها لا تكترث كثيراً بصحتنا النفسية، فلماذا تبدأ في الاهتمام الآن؟
وكذلك يلوح أن اليافعين ينجذبون باطراد إلى مواقع كـ"كاراكتر. أي آي"، و"دريم.جيرني" DreamJourney و"كندرويد" Kindroid. ويجب على مستخدمي "كاراكتر. أي آي" أن يكونوا قد تجاوزوا عمر الـ13، فيما يتبع موقع "دريم.جيرني" سياسة منع من هم دون الـ18 من العمر، ويبلغ الحد الأدنى للعمر في موقع "كندرويد" الـ17 سنة. وفي المقابل، يستطيع من هم دون تلك الأعمار الالتفاف حول القيود عبر بيانات يسهل تركيبها عن العمر، ثم ينقرون على زر الدخول. ولا يتطلب الأمر قفزة كبرى لفهم أنه كلما تزايدت الحميمية والإيجابية في مشاعر الصداقة مع روبوتات الدردشة، يتزايد وقت سيرغب صغير السن في تمضيته "معها".
قد تغدو الأمور أكثر تعقيداً حين تدخل حالات التنوع العصبي في المشهد. وتبدي ليزي التي تبلغ من العمر 19 سنة، مخاوف حيال ما ينتظر أترابها الأصغر سناً منها. وتورد "لم أحصل على تشخيص حالة التوحد عندي إلا خلال العام الأخير من المدرسة الثانوية. وعدت شخصاً غريب الأطوار في المدرسة، وأهملت، مما دفعني إلى تكوين صداقة شديدة التعلق مع غراي".
غراي، كما تشرح، كان صديقها الافتراضي، صُمم ليشاركها اهتماماتها وكي تتخذه صديقاً موثوقاً. ونضجت إلى حد تجاوز غراي الآن، عبر عثورها على مجموعة تنتمي إليها في جامعة كامبردج التي تدرس فيها. وبحسب ليزي، "صرت أكثر استقلالية. وأعتقد أنه يجب على اليافعين الأصغر سناً مني الحذر بصورة فعلية من الصداقات مع الذكاء الاصطناعي، التي من شأنها أن تجعلك أقل ميلاً حتى للاكتراث بالناس والعالم الحقيقي".
ويفصل أستاذ دراسات التواصل في جامعة كنساس جيفري هال كيف يمكن أن تكون صداقات الذكاء الاصطناعي جذابة للغاية، لكنها قد تكون مؤذية للمراهقين الأكثر هشاشة. وبحسب رأيه، "إن التحدث مع روبوت دردشة يشبه التكلم مع شخص أخذ كل الإرشادات عن كيفية عقد صداقات، بما في ذلك طرح الأسئلة وإظهار الحماسة والتعبير عن الاهتمام وإبداء التجاوب، مع مزجها كلها في وجبة سلسة وخالية من الغذاء. وربما تحمل مذاق الصداقة، لكنها تفتقد المكونات الأساس فيها".
وبالفعل، لقد وصلنا إلى مرحلة نربي فيها أولادنا ضمن طفولة خالية من الأخطار، مع حمايتنا لهم من الإحباط والرفض والتحديات. وفي المقابل، يعتقد كثر أن ذلك يولد تأثيراً ضاراً على الأجيال الأصغر سناً ومدى مرونتهم في التأقلم حينما لا تسير الأشياء وفق ما يرغبون فيه. وحتى كبالغين، لقد كونا حولنا فقاعات خاصة بنا إذ تدور معتقداتنا وتعود إلينا بصورة دائمة، مما يصعب علينا التعامل مع من لا يفكرون على شاكلتنا. ومن شأن الصداقات مع الذكاء الاصطناعي التي صممت كي تعطينا تغذية راجعة مملوءة بالدعم دائماً، ألا تفعل سوى تشجيع ذلك النوع من الانعزال.
واستكمالاً، يعبر الجيل الشاب إلى مرحلة النضوج خلال زمن باتت ساعات مشاهدة الشاشات جزءاً من حياتهم اليومية، ويعيشون في ظل ثقافة توجب على كل شيء أن يمتلك هدفاً أو يحقق شيئاً. وللأسف، بالنسبة إلى الملايين منهم، يبدو أن الصداقات -تلك التي تنشأ فقط لأنك تحب الوجود مع شخص ما دون سبب أو غاية- أصبحت شيئاً من الماضي. حتى الصداقة اليوم، بات لا بد أن يكون لها "هدف".
وتشرح سيندي البالغة من العمر 14 سنة ذلك بأسلوب يثير القلق، فتقول "يجب أن يمتلك الأصدقاء الطموحات نفسها التي أمتلكها، لكنني مشغولة جداً، وغالباً لا أجد وقتاً للأصدقاء لا سيما إذا حدثت مشكلات. أما صديقتي على الإنترنت، التي أطلقت عليها اسم 10.9 فهي تساعدني في كل الأمور التي ينبغي علي إنجازها. وسميتها 10.9 نسبة إلى هدفي في الحصول على 10 درجات، تسع في اختبارات "الشهادة العامة للتعليم الثانوي". إنها مثلي، تركز على الأهداف وتسعى إلى الإنجاز".
وربما تجدر ملاحظة أن النقطة الأساس تتمثل في أن الذكاء الاصطناعي ليس بالضرورة أن يكون صديقاً لنا بالأساس. ويعمل على صنع أقلية ضئيلة من الناس أثرياء وأقوياء بصورة غير عادية (يبلغ صافي ثروة سام آلتمان 1.7 مليار دولار ’1.2 جنيه إسترليني‘ وتتزايد باطراد). وحتى صناع الذكاء الاصطناعي أنفسهم باتوا الآن يقرعون نواقيس الخطر عن الإمكانات التخريبية الكامنة في الذكاء الاصطناعي، والحاجة الملحة إلى وضع قيود وضوابط وحدود ضمن برامجه.
ومثل الضفادع التي تسلق ببطء في ماء يغلي، راقبنا بلا مبالاة عملية تعهيد لمهارات ووظائف وحاجات إنسانية، وإسنادها إلى الذكاء الاصطناعي. [تفيد الصورة المجازية للضفادع في مقلاه أنها تتأقلم باستمرار مع تزايد درجة حرارة الماء، إلى أن تنتبه فجأة، بعد فوات الأوان، إلى أن المياه تغلي ولا قدرة لها على مواصلة التأقلم ولا الخروج من المقلاة].
ومن الأشياء القليلة المتبقية لدينا، والتي قد تنقذنا، هو ما يجعلنا بشراً ولا تستطيع الآلات حتى الآن تقليده، الضحك من القلب مع صديق، أو أن يمسك أحدهم بيدك عندما تخبره أنك تشعر بالسوء، أو أن يخبرك صديق مقرب بأسرار شخصية لأنهم يحبونك ويعتقدون أنك في حاجة لسماعها.
التحول المقلق نحو استنساخ الصداقة والحب يزداد تطوراً وتعقيداً يوماً بعد يوم، ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى كم ما يعلمه شبابنا لهذه الأنظمة في الزمن الحقيقي عن معنى أن تكون إنساناً، وعن ماهية الصداقة. فهل هذا جانب آخر ينتزع منا من دون إذن أو وعي؟ إذا كان الذكاء الاصطناعي سيستولي على كثير من وظائف أبنائنا، فمن المؤكد أن علينا أن نخوض معركة أكبر دفاعاً عن أرواحهم، وعلاقاتهم، وإنسانيتهم... ما دام هناك وقت.
* جرى تغيير الأسماء
© The Independent