Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

علاقة أميركا بإسرائيل على سابق عهدها

اختلاف واشنطن وتل أبيب حول السياسة الإقليمية لا يقيد يد الأخيرة تجاه الفلسطينيين

الرئيس الأميركي دونالد ترمب ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في البيت الأبيض، واشنطن دي سي، فبراير 2025 (رويترز)

ملخص

رغم بعض التغيرات الظاهرة في نهج ترمب تجاه الشرق الأوسط في ولايته الثانية، فإن جوهر العلاقة لم يتبدل: دعم سياسي وعسكري غير مشروط، وحرية كاملة لتل أبيب في غزة والضفة، من دون أي مقابل سياسي يذكر، وسط تغييب تام لمصلحة الفلسطينيين وتصاعد الانتقادات الدولية.

* نشرت فورين أفيرز هذا المقال قبيل اندلاع الحرب بين إسرائيل وإيران وهو يسلط الضوء على الحلف الإسرائيلي- الأميركي

 

خلال الأسابيع الماضية بدت العلاقة شبه مأزومة بين الولايات المتحدة وإسرائيل، الحليفة الأقرب لواشنطن والدولة الوكيلة لأميركا داخل الشرق الأوسط. وحين قام الرئيس الأميركي دونالد ترمب برحلته الأولى إلى المنطقة خلال شهر مايو (أيار) الماضي، تجاهل على نحو لافت زيارة إسرائيل في طريقه إلى السعودية وقطر والإمارات العربية المتحدة. وترافق ذاك التجاهل لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو مع تقلبات وانعطافات دراماتيكية في السياسة الإقليمية الأميركية. إذ إن ترمب، وبخلاف رغبة إسرائيل، يجري تفاوضاً مباشراً مع أسوأ أعداء الدولة اليهودية (إيران و"حماس"). وتواصل فريقه مع حوثيي اليمن الذين يواصلون إطلاق الصواريخ نحو عمق إسرائيل ويستمرون في إغلاق الطريق أمام حركتها البحرية. حتى إنه التقى الرئيس السوري والجهادي السابق (أحمد الشرع)، وامتدحه، واصفاً إياه بـ"الصلب" و"الجذاب".

لمنتقدي نتنياهو في الداخل والخارج يمثل تصرف ترمب هذا نسمة هواء منعشة، إذ إن الزعيم الإسرائيلي طوال أعوام تباهى بعلاقته الوطيدة بالرئيس الأميركي، متخذاً من علاقتهما سبباً وحجة لبقائه في السلطة. فخلال رئاسة ترمب الأولى، قدمت الولايات المتحدة لإسرائيل ونتنياهو كل ما طلباه تقريباً، إلا أن ترمب هذه المرة بدأ يخالف رئيس الوزراء الإسرائيلي، وفي المقابل لا يقدم نتنياهو ومؤيدوه سوى مبررات واهنة لفشل الجهود التي يقومون بها.

مع ذلك، فإن انفتاح ترمب الدبلوماسي على أعداء إسرائيل ليس سابقة تاريخية. فمنذ تأسيس إسرائيل عام 1948، كانت الإدارات الأميركية تتبع مصالح واشنطن الجيوسياسية داخل الشرق الأوسط، حتى عندما تتعارض مع مصالح إسرائيل. وإذا قيست الأمور بهذا المعيار فإن الولاية الأولى لترمب، التي شهدت دعماً غير مشروط تقريباً لطموحات إسرائيل الإقليمية، تعد استثناءً. أما ولايته الثانية، فتبدو أقرب إلى العودة إلى النهج التقليدي.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

الجانب الذي حصلت فيه إسرائيل على تفويض مطلق من واشنطن يتعلق بالفلسطينيين، إذ لم يقم أي رئيس أميركي، حتى الأكثر ليبرالية من بينهم، بإجبار إسرائيل على وقف بناء المستوطنات أو على إنهاء احتلالها للأراضي الفلسطينية. وهنا يمكن القول إن ترمب يبقى منسجماً مع سياسات رئاسته الأولى، ومع عقود من السياسة الأميركية على حد سواء. فالرئيس الأميركي يقوم بالسماح لنتنياهو بمواصلة الحرب على غزة بموافقة أميركية. إذ إنه لم يضغط على إسرائيل إلا في بعض الأحيان لإدخال المساعدات. وخلال فبراير (شباط) الماضي أعلن ترمب دعمه لفكرة "الهجرة الطوعية" لسكان غزة الفلسطينيين إلى دول عربية مجاورة أو إلى أمكنة أخرى، وذاك تماماً ما يود نتنياهو وائتلافه اليميني المتطرف سماعه. وقامت إسرائيل بعد أسابيع قليلة بخرق وقف إطلاق النار الذي لم يدم طويلاً مع "حماس"، فصعدت حملة القصف وأوقفت الإمدادات الإنسانية لسكان غزة البالغ عددهم مليوني نسمة. وأعلن نتنياهو في السياق نيته احتلال أراضي قطاع غزة كافة، وتجريد "حماس" من سلاحها، وتطبيق خطة ترمب "العبقرية"، المتمثلة بتطهير القطاع من الفلسطينيين.

وتتابع الولايات المتحدة تحت حكم ترمب لعب دور الضامن الأمني والدرع الدبلوماسي لإسرائيل. وهكذا تبقى الأخيرة متحررة في ممارسة تصرفات نادراً ما تتسامح معها واشنطن لو بدرت من دول أخرى، إذ إن الولايات المتحدة على سبيل المثال، تمنع أية جهود للنظر في ترسانة إسرائيل النووية غير المعلنة. وهي تنقض قرارات الأمم المتحدة التي تنتقد انتهاكات إسرائيل للقانون الدولي. وتقوم واشنطن بمساعدة قوات جيش الدفاع الإسرائيلي في عمليات عابرة للحدود من خلال تقديم الدعم العسكري ومده بتكنولوجيا دفاعية متطورة لا مثيل لها. وربما لم يعد ترمب يقوم بكل شيء يرغبه نتنياهو، يمكن القول. لكن علاقتهما المميزة تبقى حية وفي حال جيدة، كما كانت على الدوام.

كما كان الحال دائماً

لقد صمد التحالف الأميركي–الإسرائيلي على مدى 80 عاماً تقريباً أمام اضطرابات سياسية في كلا البلدين وفي مختلف أنحاء العالم. فمنذ أن قام الرئيس الأميركي هاري ترومان، وضد نصيحة وزير خارجيته جورج مارشال، بالاعتراف بإسرائيل بعد دقائق من إعلان استقلالها عام 1948، تجاهلت إدارات أميركية متعاقبة الانتقادات الصادرة من مدافعين عن حقوق الإنسان، وأيضاً من واقعيين في السياسة الخارجية، تجاه دعم تلك الإدارات للدولة اليهودية. وغدت إسرائيل من جهتها أكثر اعتماداً على ما توفره الولايات المتحدة من تغطية دبلوماسية ودعم عسكري. إلا أن المسؤولين الأميركيين في غالب الأوقات أغفلوا فكرة ممارسة الضغوط على الدولة العبرية عندما كانت تثبت تصرفاتها عدم ملاءمتها من الناحية الجيوسياسية للأجندات الخاصة بالولايات المتحدة الأميركية.

خذوا مثلاً في هذا الإطار الحرب العربية–الإسرائيلية خلال عام 1948. لقد قام ترومان آنذاك بمنح إسرائيل اعترافاً سياسياً حتى مع التزام الولايات المتحدة بقرار حظر الأسلحة الذي فرضته الأمم المتحدة على مختلف الأطراف المتحاربة (جيش الدفاع الإسرائيلي الناشئ آنذاك حصل على أسلحته من الزعيم السوفياتي جوزيف ستالين، وعبر تهريب أدوات قتالية إضافية من الولايات المتحدة). وعندما انتهت الحرب، تقبل ترومان النتائج الجغرافية والديموغرافية للنزاع. وذاك عنى اعترافه بمكاسب إسرائيل الجغرافية التي تجاوزت "خطة الأمم المتحدة للتقسيم لعام 1947"، وعنى في واقع قبوله بـ"النكبة"، أي تشريد مئات آلاف الفلسطينيين العرب ومنع عودتهم منذ ذلك الحين. ولم يمارس ترومان على إسرائيل خلال ذلك الوقت إلا ضغوطاً رمزية للقبول بعودة عدد محدود من النازحين.

إلى هذا وخلال المرحلة الأخيرة من تلك الحرب، عندما راحت القوات الإسرائيلية تطارد الجيش المصري المنسحب من شبه جزيرة سيناء، متصادمة مع الجنود البريطانيين الذين كانوا آنذاك منتشرين حول قناة السويس، قام ترومان بإجبار الرئيس الإسرائيلي ديفيد بن غوريون على التراجع. فهو لم يكن ليسمح لإسرائيل بتجاوز حدود فلسطين ما قبل الحرب، وتهديد واقع الوصاية الفعلية لبريطانيا على مصر، تلك الوصاية التي تحكمت بممر بحري دولي بالغ الأهمية (قناة السويس). وكان على إسرائيل أن تتعلم الدرس، أن بإمكانها التمتع بحرية تصرف نسبية مع الفلسطينيين لكن دون المساس بمصالح القوة العظمى شريكتها (الولايات المتحدة).

وفي مطلع عقد الخمسينيات، قامت الولايات المتحدة بإبقاء بعض المسافة بينها وإسرائيل فيما كانت تسعى لعقد تحالفات مع أنظمة عربية صديقة تزامناً مع تركيزها على جبهات الحرب الباردة الأساس في آسيا وأوروبا. وسمحت في هذا السياق لحلفائها البريطانيين والفرنسيين بتزويد جيش الدفاع الإسرائيلي بالدبابات والطائرات. لكن عام 1956، عندما شاركت إسرائيل كل من فرنسا والمملكة المتحدة بجهودهما الفاشلة لإسقاط الرئيس المصري صاحب الكاريزما جمال عبدالناصر، اعترضت واشنطن. إذ إن الولايات المتحدة ومن أجل الفوز بسباق "القلوب والعقول" في بلدان ما بعد الاستعمار، قررت عدم الوقوف مع إمبرياليين انقضى زمنهم. وقام جيش الدفاع الإسرائيلي باحتلال سيناء خلال أيام، لكن الرئيس الأميركي دوايت آيزنهاور، الغاضب إزاء الحرب الخاصة التي يشنها حلفاؤه، جعل بن غوريون ينسحب. وكان على إسرائيل مرة أخرى مواجهة الضوابط والقيود في مسار تمددها.

عندما ابتعدت إسرائيل من عملية السلام، حذت الولايات المتحدة حذوها

ومع استفحال الحرب الباردة خلال عقد الستينيات، ازدادت الولايات المتحدة قرباً من إسرائيل، وحلت مكان فرنسا شارل ديغول في تزويدها بالسلاح. وحين اندلعت الحرب مرة أخرى عام 1967 وأدت إلى احتلال إسرائيل لقطاع غزة ومرتفعات الجولان وسيناء والضفة الغربية، قام الرئيس الأميركي ليندون جونسون بالسماح لإسرائيل في الاحتفاظ بهذه الأراضي كأوراق مساومة في المفاوضات مع الدول العربية. لكن بعد دخول إسرائيل وجيرانها حرباً أخرى عام 1973، عمدت الولايات المتحدة إلى إجبار الدولة العبرية على إعادة سيناء مقابل تطبيع العلاقات مع مصر، التسوية التي شكلت حجر زاوية للنظام الإقليمي منذ توقيعها عام 1979. إذ إن إسرائيل قبل حرب 1973 كانت تأمل في التمكن من الاحتفاظ بالأراضي، لكن مصالح واشنطن المتمثلة في إبعاد مصر من فلك الاتحاد السوفياتي آنذاك كان لها الأهمية الكبرى في نهاية المطاف، فقامت الولايات المتحدة بإجبار إسرائيل على القبول بواقع الحال.

لقد استمرت عملية الشد والجذب هذه في تحديد طبيعة العلاقات الأميركية–الإسرائيلية بعد نهاية الحرب الباردة، وقامت الولايات المتحدة على نحو متواصل بالدفاع عن إسرائيل في المحافل الدولية، مستخدمة مقعدها في مجلس الأمن الدولي لنقض القرارات الصادرة بحق هذه الدولة. لكنها أيضاً قامت بثني إسرائيل عن الرد على هجمات الصواريخ العراقية خلال حرب الخليج عام 1991، خشية أن يؤدي التدخل الإسرائيلي في ذاك النزاع إلى تقويض تحالف ضم عدداً من الدول العربية بقيادة الولايات المتحدة لمواجهة بغداد. وعلى رغم أن واشنطن زودت إسرائيل بكميات هائلة من الأسلحة، فإنها فرضت عليها وقف صادراتها العسكرية إلى الصين. وتلتزم الولايات المتحدة الصمت حيال البرنامج النووي الإسرائيلي، لكنها وافقت ضمناً على قصف إسرائيل لمفاعل نووي سوري كان قيد الإنشاء عام 2007، لكنها في المقابل منعتها من مهاجمة المنشآت النووية الإيرانية. حتى إن واشنطن خلال عهد الرئيس باراك أوباما توصلت إلى عقد اتفاق نووي مع إيران على رغم معارضة نتنياهو الصريحة.

بيد أنه، وعلى رغم افتراق واشنطن عن إسرائيل في سياق بعض القضايا الإقليمية، لم يقم أي رئيس أميركي، بما في ذلك باراك أوباما، بتقييد قمع إسرائيل للفلسطينيين. لا بل قامت إدارات أميركية متعاقبة، وبصورة أساس، بمنح الدولة اليهودية حرية التصرف في إطار توسع مستوطناتها بالضفة الغربية، ذاك التوسع الهادف إلى منع قيام دولة فلسطينية مستقبلاً، والذي شكل المشروع الوطني الأساس في إسرائيل منذ عام 1967. لقد قام بعض الرؤساء الأميركيين بانتقاد سياسات الاستيطان أحياناً لأسباب قانونية واستراتيجية، إلا أن كلامهم المتشدد في ذاك الإطار لم يترجم لأي أمر آخر، وبقي كلاماً. فواشنطن لم تمارس أبداً أي فعل ملموس لوقف البناء الاستيطاني المتواصل، وحصرت تدخلها في هذه المسألة ببعض المناطق الفلسطينية الأساس.

كذلك وعلى نحو مماثل، لم تجبر الولايات المتحدة يوماً إسرائيل على التفاوض بغية الوصول إلى نهاية للصراع الإسرائيلي–الفلسطيني، إذ إن واشنطن وضعت وصممت مختلف أنماط صيغ محادثات السلام، وقامت برعاية عدد من جولات التفاوض المتعاقبة بين قادة إسرائيليين وفلسطينيين. غير أنها لم توافق على إجراء محادثات هادفة مع منظمة التحرير الفلسطينية إلا بعد موافقة إسرائيل على ذلك. وحين ابتعدت إسرائيل من عملية السلام، حذت الولايات المتحدة حذوها. فقد تخلت واشنطن عن هذا المسار على رغم دعمها المعلن لحل الدولتين. ولم يقم ترمب ولا بايدن بأي أمر عملاني لإحياء أمل السلام الإسرائيلي–الفلسطيني المحتضر.

أحلام تتجاوز الخيال

شهدت الولاية الأولى لدونالد ترمب تحولاً لافتاً عن التقاليد الأميركية السابقة في التعامل مع إسرائيل. فبينما حافظ على تجاهل واشنطن المزمن للحقوق الفلسطينية، ذهب أبعد من ذلك في محاباة إسرائيل في الملفات الإقليمية. فبخلاف جميع من سبقوه منذ ترومان، نقل ترمب السفارة الأميركية إلى القدس (على رغم أن المكتب الرئيس لا يزال في تل أبيب)، وأغلق القنصلية العامة في القدس التي كانت نقطة الاتصال الدبلوماسية الأميركية مع الفلسطينيين. واعترف بسيادة إسرائيل على هضبة الجولان السورية التي ضمتها عام 1981، وانسحب من الاتفاق النووي مع إيران بدفع من نتنياهو، مما دفع طهران إلى رفع وتيرة تخصيب اليورانيوم.

ثم، عام 2020، قدم ترمب هديته الكبرى لنتنياهو متمثلة بالتوسط لإبرام "معاهدات أبراهام" (الاتفاقات الإبراهيمية)، التي طبعت العلاقات بين إسرائيل وكل من البحرين والمغرب والإمارات. وعلى رغم أن الاتفاق نظري كان يقوم على تنازل متبادل يتمثل في تجميد خطة نتنياهو لضم ثلث الضفة الغربية مقابل التطبيع، فإن الفلسطينيين لم يجنوا أي شيء حقيقي. حتى إن السلطة الفلسطينية لم تُدعى إلى المفاوضات. وخلال الأسبوع الأخير من رئاسته، أدرج ترمب إسرائيل ضمن منطقة المسؤولية العملياتية للقيادة المركزية الأميركية (CENTCOM)، مما أتاح للجيش الإسرائيلي منذئذ إجراء تدريبات مشتركة مع نظرائه في دول الخليج ومصر والأردن.

ومن جهتها، كانت إدارة الرئيس جو بايدن أيضاً متساهلة على نحو كبير مع الإسرائيليين، إذ إن بايدن الذي كان داعماً صريحاً لإسرائيل منذ دخوله مجلس الشيوخ خلال أعوام السبعينيات، لم يتراجع عن أي من سياسات ترمب تجاه إسرائيل. بل سعى إلى البناء عليها، من خلال دفع السعودية للانضمام إلى اتفاقات "أبراهام" مقابل ضمانات دفاعية وتكنولوجيا نووية. كذلك قام بايدن بإعفاء حاملي جوازات السفر الإسرائيلية من التأشيرة الأميركية. وحين نفذت "حماس" هجومها خلال السابع من أكتوبر 2023، وانخرط "حزب الله" والحوثيون في دعمها، قام بايدن بغمر إسرائيل بالأسلحة، مستدعياً حاملات الطائرات الأميركية من الصين إلى الشرق الأوسط. ودعم هجوم إسرائيل المضاد على غزة، وخلال وقت لاحق على لبنان وسوريا، على رغم تعاظم أعداد الضحايا الفلسطينيين واعتراض في أوساط التقدميين بالولايات المتحدة.

صحيح أن بايدن قام أحياناً بانتقاد إسرائيل لمنعها دخول المساعدات الإنسانية إلى غزة. وسمح ببناء القوات الأميركية رصيفاً في غزة صمم لتلقي شحنات المساعدات، لكن ذاك الرصيف سرعان ما انهار في مياه البحر. وفي مرحلة معينة قام بحظر بعض شحنات الأسلحة إلى إسرائيل وفرض عقوبات على مستوطنين متطرفين في الضفة الغربية الذين مكنتهم الحكومة الإسرائيلية من مهاجمة جيرانهم الفلسطينيين. غير أن هذه التدابير لم تشكل سوى لفتات رمزية عابرة. وواصل نتنياهو حربه الشاملة، مكتفياً بإدخال بعض المساعدات بين الحين والآخر لاسترضاء واشنطن. ويرجح أن يستمر هذا النمط في عهد ترمب.

على أن اللافت في هذا الإطار أن بايدن ساند إسرائيل بوضوح تام، حتى حين بلغ اعتماد الدولة العبرية على دعم الولايات المتحدة مستويات جديدة، إذ عندما قامت إيران العام الماضي بمهاجمة إسرائيل مرتين بمئات الصواريخ الباليستية وصواريخ كروز والطائرات المسيرة، احتاجت إسرائيل إلى تحالف تقوده الولايات المتحدة لحماية مجالها الجوي. وواشنطن من جهتها، من أجل تعزيز التعاون العسكري والتخطيط المشترك، راحت ترسل بانتظام رئيس "هيئة القيادة المركزية" الجنرال مايكل كوريلا إلى تل أبيب، كمراقب غير رسمي للوضع.

وعندما أصدرت المحكمة الجنائية الدولية خلال العام الماضي مذكرات توقيف بحق نتنياهو ووزير دفاعه السابق يوآف غالانت بتهم ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، سارع بايدن إلى انتقاد القرار، وتعهدت حكومته بألا يعتقلا على الأراضي الأميركية (على رغم أن الولايات المتحدة ليست عضواً في المحكمة). ومع كل هذا الدعم غير المشروط، لم تقدم إسرائيل أي تنازل حقيقي لواشنطن. وكل شيء كان مجانياً.

كلما تبدلت الأمور

في البداية، بدت عودة ترمب إلى البيت الأبيض بالنسبة إلى نتنياهو وكأنها هدية من السماء، بعدما راح يصلي فعلياً لنصر جمهوري. فشعبية نتنياهو انهارت إثر هجمات السابع من أكتوبر، لكنه حافظ على سمعته كمقرب من ترمب ومؤثر فيه. وجاء انتخاب ترمب في النتيجة ليمد المشككين الإسرائيليين بعذر لإبقاء رئيس وزرائهم على رأس الحكومة.

وفي السياق، حقق نتنياهو بالفعل خلال الأسابيع الأولى من ولاية ترمب الثانية انتصارات متتالية. فقد جرى رفع وإلغاء العقوبات التي فرضها بايدن على بعض مستوطني الضفة الغربية، بينما فرض ترمب عقوبات على المحكمة الجنائية الدولية وموظفيها. وكان نتنياهو أول زعيم في العالم يُدعى إلى البيت الأبيض إثر فوز ترمب، وحين وصل إلى واشنطن طرح الرئيس الأميركي خطته لإفراغ قطاع غزة من السكان وتحويله إلى منتجع بحري. فأمكن لنتنياهو بناء على ذلك صد منتقديه في الداخل، مشيراً إلى فوائد انتظار انتهاء ولاية بايدن وتمديد مدة الحرب. حتى إن حلم إسرائيل القديم بمهاجمة منشآت إيران النووية بدا في متناول اليد.

غير أن شهر العسل هذا كان قصيراً. فخلال أبريل (نيسان) الماضي، استدعى ترمب نتنياهو مجدداً إلى البيت الأبيض ليخطره بشروع إدارته في مفاوضات للوصول إلى اتفاق نووي جديد مع إيران. وتلا الاجتماع تقارير تفيد بأن الرئيس الأميركي منع إسرائيل من ضرب منشآت إيران النووية. ثم جاءت الأخبار عن اتفاق لوقف النار بين الولايات المتحدة والحوثيين، استثنى إسرائيل، وأخبار أخرى عن تواصل الأميركيين مع "حماس" وسوريا، حتى إن ترمب قام بفصل الاتفاقات الدفاعية والنووية مع السعودية عن شرط التوصل إلى اتفاق مع إسرائيل. وفسر الكنديون والأوروبيون هذا التغيير في الهوى بواشنطن على أنه ضوء أخضر لتهديد إسرائيل بالعقوبات في حال استمرار الحرب والكارثة الإنسانية داخل غزة.

وأعلن ترمب ضمن هذا الإطار رغبته في التوصل إلى اتفاق وقف نار جديد داخل غزة وعودة الرهائن الإسرائيليين، إلا أن استراتيجية ترمب تلك في غزة تختلف على نحو لافت عن استراتيجيته الإقليمية. فواشنطن تسعى للتوصل إلى أرضية مشتركة مع طهران على رغم تهديد حكام الأخيرة بعواقب سلبية إن واصلوا برنامجهم لتخصيب اليورانيوم. أما داخل غزة، فقد أشار ترمب إلى عدم وجود مشكلة لديه مع استمرار إسرائيل في القتال واحتفاظها بأراض محتلة جديدة في القطاع. هذا وتبقي الولايات المتحدة في المقابل على قنوات اتصال مفتوحة مع "حماس". وعلى رغم اقتصار الاتصالات في هذا المجال على مهمة التوصل إلى اتفاق يبادل الرهائن بهدنة عسكرية، فإن الأميركيين يقومون بمنح "حماس" –التي تعدها واشنطن جماعة إرهابية– اعترافاً أميركياً غير مسبوق بها، كطرف محاور.

بمعنى آخر، لا يمثل سلوك ترمب تحولاً جذرياً في طبيعة العلاقات الأميركية–الإسرائيلية. بل إن الرئيس الأميركي الحالي، المتحرر من هم إعادة انتخابه رئيساً والمتمتع بسيطرة كاملة على الكونغرس، عاد إلى الأسس التقليدية لسياسة واشنطن داخل الشرق الأوسط. وتلك القواعد تعني أن الولايات المتحدة ستشق طريقها الخاص حين يتعلق الأمر بالمسائل الإقليمية أو ما يتعدى ذلك، لكنها ستواصل دعم إسرائيل حين يتعلق الأمر بالفلسطينيين، وستوفر لها الحماية بصورة دائمة.

واضطر نتنياهو، وإن على مضض، إلى تقبل حقيقة أن ترمب لن ينصاع بعد اليوم لمطالبه في شأن إيران. ومع ذلك، فهو لا يزال يحتفظ، كما كانت حاله مع جميع الرؤساء الأميركيين السابقين، بيد طليقة في غزة والضفة الغربية، إذ يمكنه المضي قدماً في خططه لتدمير غزة وتهجير سكانها، وضم أجزاء من الضفة.

وفي نهاية الأمر قد لا ينفذ نتنياهو هذه الإجراءات، بفضل ضغوط دولية أوسع أو تحولات في الرأي العام الداخلي أو بسبب التوصل إلى اتفاق لتطبيع العلاقات مع السعودية. لكنه سيكون دمر غزة بموافقة أميركية.

 

ألوف بن هو رئيس تحرير صحيفة "هآرتس".

مترجم عن "فورين أفيرز"، الخامس من يونيو (حزيران) 2025

اقرأ المزيد

المزيد من تحلیل