ملخص
أفلام مثل "الحب الضائع ـ الثلاثة يحبونها ـ نهر الحب"، وغيرها، أصبحت محل جدل ونقاش بأثر رجعي، إذ يعتبرها بعض المتابعين بمثابة تدهور أخلاقي، ويستغربون كيف تعاطف المشاهد مع بطلاتها في يوم من الأيام، مختزلين جميع الجوانب المجتمعية والإنسانية التي جعلت الشخصيات تضطر إلة تصرفات معينة، إذ انتشرت تلك المراجعات بصورة واسعة، وكأنها إعادة معاصرة لشرائط كاسيت "الشيخ كشك" الذي كان يسقط فيها تصرفات أبطال الدراما وأعمال نجوم الغناء على حياتهم الشخصية.
إعادة قراءة الأعمال الإبداعية عادة غير جديدة، تفكيك الحكاية، ومسارات القصص، وحتى اللوحات، مشهد ما يأتي ليدلّل على ثراء هذه المنتجات التي جاءت من زمن آخر في سياقات اجتماعية وسياسية مختلفة تماماً، ولكنها تعبر العصور ويظل جمالها صالحاً للتذوق، وللإسقاط وللتحليل ولاكتشاف جوانب مختلفة، ولكن "موضة" وضع هذه الأعمال في قفص الاتهام ورجمها باتهامات أخلاقية قد تكون عادة جديدة انتشرت في الأعوام الأخيرة، إذ يبدو بعض المتابعين متلهفاً لمعاقبة شخصيات روائية وفنية ظهرت في أفلام مصرية قديمة، منذ أربعينيات وحتى سبعينيات القرن الماضي، من دون وضع أي اعتبار للمبررات الدرامية المتعلقة بمشكلات وقضايا وأزمات عاشها الأبطال، جعلتهم يتخذون قرارات معينة في لحظات ضعف إنساني، ربما هم غير راضين عنها، ولكن يُحكم عليها حالياً وفقاً للمنظومة القيمية لبعض المهاجمين مع تجريدها من الدراما تماماً. فلماذا أصبحت الملاحقة الأخلاقية لأفلام "الأبيض والأسود" هواية تتلهفها صفحات مواقع التواصل الاجتماعي وتلقى صدى ورواجاً؟!
التحول التدرجي في النقد
كان الأمر من قبل يقتصر على السخرية الكاريكاتورية من بعض اللقطات، واكتشاف أخطاء في الديكورات أو هنات إخراجية، أو حتى التندر على الألفاظ القديمة التي انتهت من القاموس اليومي، أو على العكس التغني بالذوق الرفيع وبالنظام والترتيب والأناقة في السلوك والملابس، ولكن تدرجاً تحولت الحكاية من تفنيد مصطلح "الزمن الجميل" وتأكيد أن أفلامه ليست جميلة في مجملها بل هناك أفلام ضعيفة جداً وتجارية وسطحية، ولا تكتسب أية صفات جمالية كبيرة، إلى ظاهرة أخرى، هي الرقابة المجتمعية بأثر رجعي، من خلال مراجعات تعتمد على قراءة الشخصيات من جوانب أحادية، وكأن الأبطال كانوا ينادون بأن يقلد المشاهد تصرفاتهم، علماً بأن غالبية الأعمال المنتقدة شهدت نهاية عقابية للشخصيات محل الجدل. واللافت أن هذه الأفلام التي باتت اليوم صادمة للجمهور، عُرضت وقتها بصورة اعتيادية ولم يُوصم أبطالها وبطلاتها خلال مسيرتهم، أو تلتصق بهم الشخصيات الجريئة التي قدموها، بل أسهمت في صنع مجدهم الفني ونالوا حينها تقديراً حقيقياً من الجمهور، إذ استعرضت أعمالهم نماذج إنسانية موجودة في كثير من المجتمعات، فهل بات المشاهد أكثر تحفظاً وأقل تسامحاً؟!
مجتمع أقل وعياً؟
الموضوع هنا لا يتعلق بجهاز الرقابة على المصنفات الفنية، الذي يشكّل أساساً سبباً لانتفاضات الفنانين بين وقت وآخر بسبب اتساع دائرة المحاذير، ولكن نتحدث عن الرفض بصوت عالٍ النابع من شريحة لا بأس بها من الجماهير، هذا الرفض الذي قد يصل إلى محاولات الاغتيال المعنوي لفنانين، كما حدث مع منى زكي قبل نحو عامين ونصف العام، بعد عرض فيلمها على "نتفليكس" "أصحاب ولا أعز"، إذ تحملت بثبات الحملة التي واجهتها بسبب شخصيتها في الفيلم المأخوذ بدوره عن عمل أجنبي عُرب، كذلك حرصت نقابة الممثلين أيضاً على دعمها وعلى رفض محاولات تجريمها أخلاقياً. كذلك كانت الراحلة سميحة أيوب قد أبدت صدمتها من الاتهامات القاسية التي تعرضت لها إلهام شاهين حينما أعلنت أنها تنوي إعادة تقديم مسرحية "المومس الفاضلة" لجان بول سارتر، التي كان من المفترض أن تُخرجها أيوب قبل إلغاء المشروع.
ووقتها استغربت أيوب مما يحدث ووصفت الهجوم بـ"الردة الأخلاقية"، وأشارت إلى أنها قدمت المسرحية نفسها في ستينيات القرن الماضي، ولكن الجمهور كان أكثر وعياً وذكاء وقدرة على تذوق العمل الفني بغض النظر حتى عن مستواه التعليمي، كذلك أشارت إلى تناقض سلوكيات بعض المعترضين في حياته اليومية مع دعوات الفضيلة هذه، بل سيطرة التراجع الأخلاقي في مقابل الانتفاضة من أجل اسم مسرحية شهيرة، حول بائعة هوى ترفض أن تشهد زوراً. اللافت أن الأمر وصل للبرلمان وقُدم طلب إحاطة لرئيس الوزراء ووزارة الثقافة لرفض فكرة المشروع الذي لم يرَ النور بعد الحملة كثيرة الأطراف.
رقابة بأثر رجعي
وعلى ما يبدو، أنه في ظل عدم وجود عمل فني معاصر يحتمل جدلاً من هذا النوع، أصبح من الشائع بين وقت وآخر البحث في الأرشيف وإقامة المشانق للأفلام القديمة، بعيداً من أية رؤية فنية سواء إخراجياً أو بصرياً أو في ما يتعلق بالنص والتمثيل والرؤية، ومن بينها "نهر الحب ـ الخائنة ـ الحب الضائع ـ الخيط الرفيع ـ أفواه وأرانب ـ أنا حرة ـ النظارة السوداء ـ أيامنا الحلوة". وعلى رغم أن نقد هذه الأفلام غير متخصص وانطباعي فإن فكرة تبني خطاب شبه موحد من مجموعات عدة من دون أدنى اعتبار للسياقات التي أحاطت به، أصبح أمراً ينبغي التوقف عنده.
تقول أستاذة الدراما والنقد بكلية الآداب جامعة حلوان، المنتدبة بقسم المسرح بالجامعة الأميركية في القاهرة، أسماء يحيى الطاهر عبدالله، إنه أولاً لا يوجد شيء اسمه المجتمع المصري في مجمله، فهناك طبقات وشرائح تختلف مع الثقافة والتعليم والوضع الاقتصادي... إلخ. وتشير إلى أن ظاهرة الانتقاد بأثر رجعي وبناءً على مرجعية أخلاقية تخص صاحبها، باتت ملحوظة بالفعل عبر مواقع التواصل الاجتماعي منها "تيك توك"، وشددت على أن الأمر في البداية كان وسيلة لصنع محتوى، ثم انتشر وتحول إلى ظاهرة.
منطق مغلوط
وتتابع أستاذة الدراما، للتأكيد أن هذا المنطق المغلوط في الحكم على الدراما يتغافل عن أمور كثيرة، حتى قبل الحكم على البطل من منظور يخص المنظومة القيمية الفردية للمهاجم، وهو أنه لا يضع أي اعتبار للحقبة الزمنية، حين كانت النساء على سبيل المثال في فترات مثل الأربعينيات والخمسينيات والستينيات يرتدين ملابس لا تختلف كثيراً عما تظهر به بطلات الأفلام، وكذلك إغفال سبب مناقشة القضية أو الفكرة التي يطرحها الفيلم، فمن المؤكد أنها كانت تهم قسماً كبيراً من الجمهور في حينها، مشددة على أن مَشاهد البطل في المشرب أو البار كانت تتكرر في الأفلام حينها من دون أن تشكّل المعضلة الأساسية للعمل وحدثاً يستدعي التوبة، بل كان يأتي في سياق استعراض ما يحدث في حياة الطبقة التي ينتمي إليها البطل، مشددة على أن الدراما السينمائية أو التلفزيونية من الأساس ليست أداة ترويج وإنما أداة توثيق فنية لشرائح المجتمع ككل في كل عصر ولذا ينبغي أن تتمثل بها كل الطبقات، وكذلك وسيلة للاقتراب من وجهات نظر وشخصيات متنوعة.
وتضيف الممثلة والباحثة والأستاذة الجامعية أسماء يحيى الطاهر عبدالله، "ولكن بعض المهاجمين يتعاملون على أنها أداة دعائية بحتة"، واعتبرت أن بعض مروجي تلك النظريات لديهم قصور في فهم طبيعة ودور الفن في المجتمع، القائمة على الاقتراب من المشاعر المعقدة والمتضاربة واستعراض تجارب الآخرين بعمق لفهم الدوافع، مشيرة إلى أن الحكم على الشخصيات من الخارج أمر سهل وهو ما تمثّله هذه الموجة "الانتقادية"، في حين يكون من هم داخل التجربة مضغوطين ومشوشي التفكير، وهنا يأتي دور العمل الإبداعي وموهبة الممثل، مستغربة من أن كثيراً من هذه الأفلام "المتهمة" وتحاكم شخصياتُها، بطلتها معروف عنها تحفظها الشديد على الشاشة وهي الفنانة فاتن حمامة!
بطلات السينما في قفص الاتهام
من وجهة نظر المؤيدين لهذه الموجة، كان فيلم "نهر الحب" المُمَصَّر عن رواية "آنا كارنينا" الروسية، مؤامرة عميقة التأثير، يهدف إلى تبرير الخيانة الزوجية، والتعاطف مع الحبيبين ونبذ الزوج الشرعي، من دون الإشارة إلى العوامل الأخرى في القصة كالزواج بالإكراه، وتعمد التعذيب النفسي والحرمان من الأبناء والتهديد، والابتزاز بالمال، ورفض التطليق، كذلك فإن العمل استعرض تأثيرات نفسية ومجتمعية مركبة للغاية على قرارات الشخصيات، الذين كانوا بدورهم حائرين ومترددين بل يدينون أنفسهم، وحمل عقاباً مريراً للشخصية في نهايته. قياسا إلى ذلك، وصف فيلم "الحب الضائع" بالفيلم المسموم، وعلى رغم تميّزه فنياً وعرضه مشكلة اجتماعية فإن بعضهم اعتبر أنه يروّج لخيانة الأصدقاء وسرقة الأزواج. كذلك تحمل القائمة أفلاماً توصف بأنها أفسدت المجتمع مثل "أنا حرة"، بطموح بطلته نحو "الاستقلالية"، و"أيامنا الحلوة" واعتبار صداقة الشخصية الرئيسة لثلاثة رجال أمر شائن، إضافة إلى "الثلاثة يحبونها"، إذ يُتغاضى عن تعرض الشابة الصغيرة للاستغلال واعتبارها مستهترة، بينما كانت تفتقد للنصيحة، وأقصى المهاجمون من أخطأوا في حقها من الحكاية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
المفارقة أن فكرة التعاطف مع الضعف الإنساني أمر يحدث حتى مع الخارجين عن القانون في الدراما، واللافت أن الغرام بالأبطال المجرمين والسارقين وحتى القتلة شائع بين الجماهير، إذ يعتبر البطل فيها شجاعاً ومتمرداً، إضافة بالطبع إلى تفهمهم قصته الإنسانية المؤثرة التي جعلته يتخذ قراراته، وهكذا وُضعت أفلام السينما المصرية تحت المقصلة، في سبيل البحث عن العمل الفني "المصلحة"!.
إرث السبعينيات
تعتقد الناقدة الفنية ماجدة موريس أن التعليقات التي تقيم العمل الفني من وجهة نظر أخلاقية متعالية، تدل على قلة وعي وقلة مشاهدة وقلة معرفة وانعدام قراءة، مشيرة إلى أنه لا يمكن التعميم، لأن الشعب المصري منقسم إلى أكثر من فئة، مشددة على أن تحقير الشخصيات المخطئة "وفقاً لوجهة نظر بعض منهم"، ينبع من ثقافة دينية متعصبة بالأساس، مذكّرة بشرائط كاسيت الشيخ كشك الذي كان دائم التهجم على الفنانين ومتابعة جديدهم في الوقت نفسه، ومشيرة إلى سخريته الشخصية من أم كلثوم بسبب كونها تخطت الستين من عمرها وما زالت تغني جملة "خدني لحنانك"، مطالباً إياها بالبحث عن مقبرة. وتابعت، "الجمهور العادي باتت تسيطر عليه فكرة التخوف من الخطأ، لا يتصرفون في أي أمر بديهي أو بسيط إلا بالحصول على فتوى، ولهذا السبب نطالع أكثر من مليون ونصف المليون فتوى سنوياً بسبب الارتباك الشديد، فحتى لو كان الموقف واضحاً وضوح الشمس، ولكن هناك حال قلق دائم".
وترى موريس رئيس لجنة الدراما التابعة للمجلس الأعلى لتنظيم الإعلام، أنه خلال عقدي الخمسينيات والستينيات كانت هناك متغيرات أكثر انفتاحاً في المجتمع سواء على مستوى الأفكار والتعليم، ومنافذ الثقافة، وانتشار أجهزة التلفزيون في البيوت ودور العرض السينمائي، إذ كان دخول السينما في متناول المواطن العادي. وتضيف، "لكن بدءاً من السبعينيات تقلصت تلك المساحات ودخلت مكانها أفكار أكثر انغلاقاً مع موجة المد الديني المتحفظ، وعلى رغم ذلك لم يصبح المجتمع أكثر تديناً، بل قد يكون أكثر عنفاً، لا سيما ضد النساء، خصوصاً مع انتشار حوادث العنف المعلقة على شماعة الاتهامات الأخلاقية، والحقيقة أن التحفظ على أفلام تعتبر من علامات السينما العربية من منطلق التقييم الأخلاقي في وجهه الأكثر قتامة والأقل رحابة ومسامحة، وجهة نظر للأسف تنتشر حتى بين بعض المحسوبين على الوسط الفني، بل إن بعضهم يوصم الممثل وفقاً للشخصية التي يؤديها.
جدل إيجابي
من جهتها ترى مدرس الدراما والنقد أسماء يحيى الطاهر عبدالله، أن فكرة الوصم لا تتحقق بهذه السهولة، إلا أنها تكون عادة في ذهنية شريحة معينة من غير محبي الفن، ولا تكون مؤثرة بصورة كبيرة، موضحة أن حتى هذه المحادثات التي تبدو سلبية تماماً في ظاهرها، مهمة لإظهار الأفكار المضادة. وعلى النقيض هناك من المعلقين من يشرحون حقيقة الفن الذي لا يهدف إلى الإدانة والحكم على الأشخاص بقدر ما يهدف إلى التثقيف وعرض التجارب المختلفة، لإثراء التجربة الإنسانية حتى لمن هم بعيدون عن محيط الأبطال، إذ توضح، "النقاش قد يكون صحياً للغاية، فالردود المتداولة بحد ذاتها تشير إلى أن هناك وعياً مضاداً يمكن التعويل عليه، ولكن كما هو معروف دوماً، أصحاب الصوت الأعلى، حتى لو كانت حجتهم ضعيفة، قادرون على الحشد، وعموماً مهمة الفن هي خلخلة وحلحلة أفكار المجتمع وفتح باب النقاش".
القوة الناعمة
كثيراً ما كان ينظر إلى الأفلام السينمائية على أنها قوة ناعمة، حتى وهي تستعرض نماذج سلبية، فهي تسهم في تحريك الوعي، ولهذا كانت الدراسات العلمية حاضرة دائماً في هذا الصدد، وبينها رسالة دكتوراة قدمت عام 2019 بعنوان "دور أفلام السينما المصرية في إدراك الجمهور لقضايا المجتمع المصري"، للباحثة مرام أحمد عبدالنبي بكلية الآداب جامعة عين شمس، إذ اعتبرت الأستاذة الجامعية أن السينما أداة من أدوات الثقافة والمعرفة التي تؤثر بقوة في إحداث التغيير الاجتماعي، من خلال تمثيلها الواقع بكل ما يحمله من إيجابيات وسلبيات كذلك، مما يسهم في تشكيل الوعي والإدراك.
قد تبدو الموجة التي تغذيها "لايكات" وتعليقات بعض المتفاعلين على "السوشيال ميديا" مدفوعة بفكر غلق باب التوبة أمام أي مذنب، وإقصائه من المشهد، بل اغتياله معنوياً، وهي ثقافة أصبحت منتشرة في بعض الأوساط وتمارس بوعي أو من دون وعي، في ما يسمى بثقافة الإلغاء العقابية، فهي توجهات ترفض التسامح ولا تعطي فرصة لمراجعة الأخطاء، ما دام هناك مجموعة صنفتها على أنها خطيئة لا تُغتفر، وبالقياس، فالحكم على شخصيات الأفلام الشهيرة من هذا المنطلق يعزز وجهة النظر هذه التي أصبحت سائدة، إذ تجد قبولاً وانتشاراً، وهو ذروة ما يسعى إليه صناع المحتوى.