ملخص
قديماً ارتبطت مهنة الحلاقة ببعض الأعمال الطبية البدائية والخطرة في كثير من الأحيان. يروي نصر الدين "في السابق كان الحلاق يمارس بعض الأعمال الطبية المتنوعة مثل قلع الأضراس والعلاج بالعطارة وأدوية الأعشاب".
في أحد الأزقة المواجهة لحمام "عز الدين" يكمل نصر الدين الخباز مسيرة الحلاقة العربية التي بدأها والده منذ 100 عام. ففي جعبة "الحلاق القديم" كما يطلق عليه جيرانه كثير من الأخبار التي تكفي لاختصار تاريخ مهنة الحلاقة. بدأ مسيرته باكراً، فبعد انتهاء الدوام المدرسي، كان يأتي إلى المحل لمساعدة والده وتعلم أصول الحلاقة، إلى أن اعتمدها مهنة له منذ نصف قرن. يقول "كانت الأجرة قروشاً، ولكنها تؤمن دخلاً دائماً للعائلة والفرد".
يرى نصر الدين أن "الحلاق القديم أكثر مهارة من الجديد، لأنه يعتمد على مهارته في استعمال المقص والمشط بصورة أساسية. في السابق لم تكن هناك آلات حلاقة كهربائية، وكان الاعتماد على الأدوات والماكينة اليدوية"، ولا يزال الرجل محافظاً على نمط عمله القديم ولا يحتاج إلى استخدام الماكينات الكهربائية إلا نادراً.
تواريخ ودلالات
يقول نصر الدين "كان الحلاق يقوم بتنفيذ بعض القصات الكلاسيكية المشهورة بالفرنسية والإنجليزية، أما اليوم فأصبح الشباب يلاحق قصات جديدة لا يعجز عن تنفيذها الحلاق القديم إذا أراد ذلك"، موضحاً أن "الحلاق القديم لديه مهارات باتت نادرة، على غرار حلاقة الشعر بالموسى وهو ما يعجز عنه كثير من الشباب لدقته، ولا يوجد أي شيء معجز، ومن ثم لا تشكل التسريحات الجديدة أي تحدٍّ لمن يريد تنفيذها ولديه المهارة والتقنيات".
في محل صغير يضيق بالحلاق والزبون، يواصل الحاج نصر الدين عمله، فهو يعتبر أحد معالم الحي التراثي بسبب وقوعه مقابل حمام "عز الدين" التاريخي، وفي محازاة "قصر شاهين"، ومنطقة الأويسية، والعشرات من الحرفيين المهرة، حيث تجتذب طيبته كثيراً من الجيران والعابرين الذين يسألون عنه، ويصر بعض من جيرانه الشباب على الحلاقة لديه، يقول أحدهم "منذ 40 عاماً حين كنت طفلاً آتي إلى هذا المحل الصغير، وحالياً أحضر ابني لأنني أشعر بالأمان لديه، وأستذكر الماضي وأهلي".
يؤكد صاحب المحل، أنه "مع مرور الزمن يتراجع عدد زبائنه من كبار السن، فهذه سنة الحياة، والآن أصبح عددهم لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة، فهم زبائن أوفياء لهذا المحل منذ عشرات الأعوام".
قديماً ارتبطت مهنة الحلاقة ببعض الأعمال الطبية البدائية والخطرة في كثير من الأحيان. يروي نصر الدين "في السابق كان الحلاق يمارس بعض الأعمال الطبية المتنوعة مثل قلع الأضراس والعلاج بالعطارة وأدوية الأعشاب، وهو أمر لا ألجأ إليه حالياً، لأنني أكتفي بعلاج الثعلبة في الرأس، إذ أعد دواءً عربياً لها من النباتات، ولا أدخل فيه أي تركيب أجنبي - يقصد كيماوياً".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
من جهة أخرى، يتمسك نصر الدين ببعض القواعد التي توارثها عن والده، فمن جهة "لا بد للحلاق من أن يبقى حسن المظهر وأنيقاً لكي يجذب الأنظار والزبائن، ولإعطاء انطباع بأنه نظيف ومرتب".
في المقابل، يؤكد التزامه قواعد الإنصات والاستماع، وهو يخالف كثيراً مما هو سائد في مجتمع الحلاقين، فـ"عندما يأتي الزبون نتبادل السلام، وكيفك، وكيف حالك، وكيف العائلة والشغل؟ من دون الدخول في أية تفاصيل أو أسرار، أو نميمة". وهو يتطلع إلى الحفاظ على هذه المهنة التي بدأت أعداد محترفيها الكبار بالتراجع، علماً أنه يعود إليها الفضل في ستر كثير من العائلات والحفاظ على المسحة الجمالية والأناقة الكلاسيكية في المجتمع.
ساحة لصراع الأجيال
خارج الحي التراثي، تنتشر عشرات محال الحلاقة، التي تتجه نحو العصرنة في مختلف النواحي. على مستوى الشكل يهتم أصحابها بالديكورات والزخارف والمقاعد الجلدية وأنظمة الصوتيات التي تصدح من خلالها الموسيقى والأغاني الشعبية وشبكة الـ"واي فاي" للبقاء في عالم التواصل الاجتماعي وصور منصة الانستغرام، فضلاً عن المقاعد المخصصة للأطفال. فقد نجحت شريحة من الحلاقين اللبنانيين في نقل الحلاقة إلى حيز آخر أشبه بالعناية بالرجل، كما قام بعض أصحاب المحال بدمج الحلاقة بتجارة الملابس وتغيير المظهر.
التقت "اندبندنت عربية" عبدالسلام طليس في صالونه الواقع في منطقة "قبة النصر" ضمن طرابلس اللبنانية شمال البلاد، حيث يعتبر أنه ينتمي إلى جيل يتوسط جيلين من الحلاقين، فقد بدأ مهنة الحلاقة منذ أن كان بعمر 10 سنوات عام 1985، وكان يستعمل أدوات بسيطة، ويسن موسى الحلاقة على قطعة جلدية، والآن لم تعد مهمة الحلاق مقتصرة على قص الشعر والذقن، وإنما تجاوزتها إلى العناية بالبشرة والشعر وتبييض الوجه وتنظيف الأظافر وتقشير الجلد ورسم الحواجب، وكلها أمور ما كان الزبون القديم يطلبها.
كذلك يتحدث عن "تطورات كبيرة في المهنة مثل الليزر للذقن، والكرياتين، وتطوير تقنيات تنظيف البشرة، إذ يضطر الحلاق إلى تطوير مهاراته من خلال الخضوع لدورات أو جهد شخصي انطلاقاً من الخبرة والتجربة، كما نفعل في موضوع الاهتمام بالشعر وتغذيته".
في الموازاة، يبدو لافتاً للأنظار التحدي الذي يفرضه المشاهير على الحلاقين، وهنا تبرز أهمية المهارة وسرعة البديهة والمرونة لدى الحلاق الشاب، إذ شهدت محال التجميل إقبالاً غير مسبوق على طلب حلاقة كريستيانو رونالدو، وفي مرحلة أخرى كانوا يريدون التشبه بكليان مبابي وشعره القصير، أو حتى تقليد بعض النجوم كما هي الحال مع حاجب رامي عياش أو تسريحة الشامي وآخرين. فيما يذهب بعض المراهقين خطوة إلى الأمام بطلب تغيير مظهر كامل، وتغيير لون الشعر أو حتى استخدام الوصلات لتغطية مناطق في الرأس.
العناية بالنفس
تجاوزت الحلاقة حدود الاعتناء بالمظهر وتصفيف الشعر، إذ يتحدث عبدالسلام طليس عن شق نفسي قائلاً "يأتي أحياناً زبون يعاني نفسياً، وهنا على الحلاق إراحته، والاستماع إلى شكواه للخروج من نطاق مشكلات العمل أو المنزل، حين يصبح بعضهم أشبه بالرفيق أو الزميل، ويتكامل الحديث مع الحلاقة في إراحة نفسية الزبون".
يتلقى عبدالسلام سيلاً من الاتصالات لحجز المواعيد عشية العيد، متحدثاً عن أهمية الثقة بين الحلاق والزبون وفريق العمل، فقد أثمرت جهوده مع شريكه في العمل وائل، خلال 27 عاماً في تطوير مهنة الحلاقة وجعلها أكثر عصرية.
تحافظ القرى اللبنانية في مناطق الأطراف على طقوس الحلاقة التي ترتبط بالعرس والولادة الجديدة. وتعتبر من الضرورات التي ترافق "زفة العريس"، فقبل ارتداء العريس بدلته الرسمية ليقصد منزل عروسه لاصطحابها إلى حفل الزفاف، يعد أهل العريس ورفاقه حفلاً من نوع آخر للعناية بإطلالة وجمال الشاب، فتترافق حلاقة العرس مع أجواء الطبل والزمر والزغاريد ورقصة الدبكة اللبنانية.
ويشير أحد الحلاقين إلى إجراءات عدة للعناية بمظهر الشاب، وتتضمن حلاقة الرأس والذقن و"السنفرة"، أي تبييض الوجه واستخدام أقنعة التقشير والترطيب العميق، ولا يمكن تجاهل مسألة تلوين الشعر وصبغه، كذلك يقوم بعض الأهل بطقوس تتعلق بحلاقة شعر رأس الطفل بعد إتمامه 50 يوماً، فيقصون شعر الوليد الجديد، ويزِنونها ويتبرعون بثمن وزنها فضة.
شهدت مهنة الحلاقة قفزات كبيرة في لبنان، حيث تحولت إلى مورد رزق. وتعتمد نمط التعليم التطبيقي وليس النظري فقط، كما يؤكد عبدالسلام، الذي يشير إلى تعليم العشرات لا بل المئات من الشبان الذين هاجروا إلى دول الخليج وأستراليا وبلاد الاغتراب. يقول "صنعنا حلاقين سافروا إلى بلاد الخليج والاغتراب، فيما أسس بعضهم في لبنان محال خاصة بهم، ولم تخل عملية التعليم من عذاب، لكنها كانت تعطي نتيجة مهمة"، لافتاً إلى أن "الحلاق اللبناني ذكي وماهر، ولا يصعب عليه شيء، وقد أصبح بعض المتعلمين أكثر مهارة من أساتذتهم بسبب حبهم هذه الحرفة".